1-3 الفكي جمال الدين هو أخي من أمي الأولى "الشفة بنت الباترة" وهو الأخ الأصغر في أسرته. وسماه أبي "الفكي" تيمنآ بجده الكبير الفقيه فضل الله. درس الفكي الهندسة بمعهد الكليات التكنولوجية وتخرج في حدود العام 1969 ثم عمل ثلاث سنوات بخزان سنار قبل أن يغادر إلى السعودية حيث عمل لدى شركة إبن وخيضر في الرياض حتى العام 1982 وقد ساهم بجهده في تأسيس هيئة البريد السعودية وقليلآ وأستقل بذاته مشاركآ بالأصالة في شركة إبن وخيضر للمقاولات. في العام 1982 قرر مغادرة السعودية والعودة نهائيآ إلى السودان بغرض الإستثمار في مجال النقل البري والزراعة. وتأصيلآ لهدفه في الإستقرار بكل معانيه الممكنة فقد خطب من على البعد أحد بنات أعمامه من قرية اللدية الشيخ حبيب الله . وفي طريقه إلى الخرطوم قرر وفق خطة مسبقة المرور عبر روما وأمستردام بهدف شراء عدد من الشاحنات من ماركة فيات وطلمبات ومضخات للري. في الأيام السابقة لتاريخ رحيله زار عدة مدن في السعودية بغرض تصفية أعماله ووداع أصدقائه من السودانيين والسعوديين وانتهى بمكةالمكرمة ثم هم بمغادرتها إلى الرياض بسيارته الخاصة عبر مدينة الطائف عابرآ شعاب جبالها الضخام وذاك قبل يوم واحد من التاريخ المقرر لرحلته إلى الخرطوم عبر روما فأمستردام وكان بصحبته باكستانيان. عمل الفكي أيضآ في إستقدام عمالة لمهن مختلفة من السودان أيام فورة النهضة الإقتصادية الجامحة بالمملكة العربية السعودية، وتحديدآ من جبل أولياء "شرق وغرب" والكلاكلات والسجانة والديوم وسنار وبعض قرى مشروع الجزيرة. وكان أحد أهم معاونيه في تلك العملية رجل همام من اللدية الشيخ حبيب الله هو "الهادي الشيخ حبيب الله". كان للفكي مكانة خاصة عند أبي لعدة أسباب من أولها أنه الإبن الأخير "الحتالة" من شريكته الأولى. والأسباب الآخرى ذاك أن الفكي رجل متعلم ومثقف ولطيف الطباع كما أنه نشط ومنتج إضافة إلى كونه ساهم بفاعلية في مسئولية تربية وتوجيه وتعليم أخوانه الجدد "أشقائي وشقيقاتي" وقد تزوج أبي من أمي وهو في حوالي السبعين من عمره وكان آنها الفكي عند المرحلة الثانوية 2-3 هل هناك جريمة؟! توقف ركب الفكي جمال الدين على سفوح جبال الطائف مرة واحدة وإلى الأبد. لقد مات إثر حادث حركة ما!. توفي وحده ولم يصب من معه "باكستانيان" بأذى بل ولم يخدشا!. ترددت أقاويل حول جريمة مدبرة، غير أن التحقيقات المضنية لم تفضي إلى شيء واضح. في أحد الأيام وعند الصباح الباكر شعر أبي وهو في خريف العمر، بألم في صدره وصداع حاد. وبينما بدأ يتحلق حوله الناس أمرني شقيقي الأكبر بالذهاب إلى المدرسة كالمعتاد، ففعلت. كان هناك شيء ما يخيم على الآفاق!. عندما عدت نهاية اليوم من المدرسة رأيت من على البعد الجموع الغفيرة تتقاطر وتتدافع وتتزاحم نحو دارنا... وهناك بكاء وعويل وصراخ يشق الآفاق. كان مشهدآ جليلآ في إهاب الرعب. كنت على يقين من أن أبي قد مات. كان في خاطري هو الشخص الوحيد في دارنا المؤهل لتلك المهمة الفادحة. حتى إذا ما وصلت أعتاب الدار رأيت أبي واقفآ على أمشاطه يرفع "يشيل" الفاتحة أمام أفواج الرجال المتدافعة في لباسهم الأبيض... أصبت بصدمة بالغة في لجة مشاعر متلاطمة من الدهشة والفرحة والتوقعات المفتوحة بلا أفق. فطفقت أجري في أنحاء الدار أتفقد أهل البيت. كانوا لدهشتي كلهم هناك. إذن ماذا؟!. كنت صغيرآ بحيث لا أحد يهتم بي في مثل تلك اللحظات العظيمة. جلست على الأرض في أحد زوايا البيت وأنا مبهوت تمامآ لا أقوى على شيء. لا أفهم!. لم يخطر ببالي أنه الفكي !... لم أكن بتلك السعة من الخيال!. 3-3 لم أر أخي الفكي وإلا وأنا صغير بطريقة لم تمكنني ذاكرتي من لملمة هيئته بالكامل. قال لي أبي مرة أن: "الفكي سافر بالطيارة". لم يكن لي تصور موضوعي عن الطائرة، فقط آراها من حين إلى آخر تحلق في السماء. إذ لم يكن لدي تصور محدد عن كيفية إقلاع الطائرة وهبوطها من جديد على الأرض. كنت أخالها تذهب إلى النجوم. وربما كانت "السعودية" نجمآ من تلك النجوم البعيدة حيث ذهب الفكي ومن هناك يرسل لأبي الفلوس ويرسل لي أنا الشوكلاتة. وفي زمن آخر متقدم أرسل الفكي مرة رسالة قرأها لي أبي يقول فيها أنني إن حصلت على المرتبة الأولى على الدفعة في إمتحان الشهادة الإبتدائية سيرسل لي "موتر" من السعودية. وقد حدث ما أراده الفكي لكن أبي رفض فكرة "الموتر" بإعتبارة خطرآ على ولد درويش في حالتي وهذا الأمر أحزنني عدة سنوات لاحقة. عندما جاء خبر وفاة الفكي بتلك الطريقة الدرامية لم أصدق أنا وأعتبرته خبرآ كاذبآ أو مبالغآ فيه، فالفكي لا يموت!. لا بد أنه يربض مبتسمآ في نجم من تلك النجوم اللامعة وهو يلعب معي لعبة "الدسوسية" ... ثم أصبح عندي مثله والإمام الغائب لدى الشيعة. ولا شيء جديد!... فهو عندي في كل الإحوال والظروف مجرد إسطورة صاخبة تسكن خيالي منذ أن رأت عيناي النور فلا شيء جديد... فقط أصبحت الفكرة المجردة أكثر أصالة في غرائبيتها!. وما عزز تلك الفكرة أكثر هو أنهم لم يأتو بجسده إلينا في السودان بل واروه الثرى بمكان ما حول "مكة" كما تقتضي بعض الأعراف والمثل الدينية في مثل تلك الحالات. نعم، لم يكن عندي ابدآ أن الفكي بشرآ كالبشر ولا شيئآ كالأشياء المعهودة إنه أمر خارق للعادة. وفي مرة من المرات فهو طيف شفيف لكنه فعال ويستطيع كل شي!. كان حلمي أن أتحول إلى إسطورة بالضبط مثل الفكي. ذاك ربما كان أمرآ طبيعيآ في حالة طفل في عمري. غير أن المدهش أن يكون ذاك هو نفسه حال أبي وتصوره لمشهد إبنه في قبضة الموت اللئيم. كان لا يصدق!. ثم رفض إستلام ورثة الفكي من الأموال. رفض أن يستلمها بيده. كان يبكي دمعآ سخيآ. كان أبي صوفيآ من النوع الأصيل "القادري" المخضرم. ترك الرجال جوالآ زنة ثلاثين كليوجرامآ من الريالات السعودية في صحن الدار ثم ذهبوا. بعد عدة ساعات وضع أبي "القروش" مئات الآلاف على أحد الأسرة وغطاها بالقماش على هيئة جنازة. ثم رآه بعض الناس يهم بحرقها فمنعه أحدهم من أن يفعل. قائلآ له: "هذا ملك أخوانه وأخواته". فصمت أبي ثم ذهب إلى خارج الدار... كان مشهدآ موجعآ. وقرر أبي لاحقآ التصدق بكل تلك الأموال من أجل روح صاحبها في السماء. وما هي إلا عدة شهور وأختفت تلك الأموال مبعثرة في أيادي الأقرباء والغرباء... كان بيتنا لعدة شهور يعج بالناس من كل شاكلة ولون حتى أنقضت "القروش" فأنفضوا لا يلوون على شيء. ولم يكن أحد من أشقائي آنها في عمر يأهله لإتخاذ أي قرار من أي نوع تجاه ورثة الفكي. وكان أبي سعيدآ بزوال المال!. أحسبه لم يرفع فراش "مأتم" إبنه وإلا بعد أن تبعثر في الفضاء آخر ريال من الريالات التي أرسلها الفكي بعد حادثة إختبائه خلف النجوم. في مرة من المرات وأنا في المرحلة الثانوية فتحت متلصصآ الصندوق الذي يحفظ به أبي الرسائل التي أرسلها الفكي... أطلعت على خططه المستقبلية وطموحاته وهواجسه الإنسانية وقرأت آخر رسالة متمعنآ في الأفكار التي حوتها ومن ضمنها إعتذاره لأبي عن أن الوابور "طرمبة المياه" التي أرسلها لأبي آخر مرة لم تكن هولندية من حيث الصنع بل هندية فقط الماركة هولندية لهذا لم تعمل بشكل جيد كما أخبره أبي في رسالة سابقة. ووعد أبي أنه في الطريق بنفسه إلى هولندا حيث قرر إبتياع ثلاثة وابورات أصيلة من بلدها الأصيل لا السعودية التي تستورد مثل تلك الآلات من الهند والصين. كنت من بعدها كلما أرى خريطة العالم أتذكر تلك الرسالة فأنظر إلى خريطة هولندا. حتى جاءت بي الأقدار إليها ورأيت بعيني كيف كان الفكي جمال الدين محقآ في تصوره!. محمد جمال، لاهاي/هولندا [email protected]