ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    الجزائر تتفوق على السودان بثلاثية نظيفة    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    البرهان يزور تركيا بدعوة من أردوغان    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    سيدة الأعمال رانيا الخضر تجبر بخاطر المعلم الذي تعرض للإهانة من طالبه وتقدم له "عُمرة" هدية شاملة التكاليف (امتناناً لدورك المشهود واعتذارا نيابة عنا جميعا)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    وفاة مسؤول بارز بناد بالدوري السوداني الممتاز    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألف وردة ووردة... تشعل كوابيس الخرطوم !
نشر في الراكوبة يوم 04 - 10 - 2013


(الورد وكوابيس الليل.. نوفيلا التشظي واللانظام)
*عبد الماجد عبد الرحمن
[email protected]
الرواية الجديدة استفادت من قصيدة النثر كشكل تعبيري سردي.. حيث اللغة المكثفة وحيث التركيز على الثيمة الأساسية للحدث.. وعلى الاستعانة بالصورة السينمائية الخاطفة والمتحركة!!.. وفي الرواية القصيدة تأتي كل العناصر الروائية كالشخصية والمكان والزمان والأشياء المحيطة والمتناثرة هنا وهناك.. الوعي واللا وعي كأنهار باطنية تملأ مساحة الرواية كلها.. وهكذا تتكون الرواية القصيدة وتملأ الآفاق.. صوراً متحركة من لا مكان وإلى لا مكان.. وكلها تتشكل في لغة جديدة تنمو كخضرة الحقول «على حد قول بورخيس».. هي رواية الجمال الأخاذ الذي يأخذك على حين غرة.. هي كتابة بلا وصفة بلاغية جاهزة.. هي فقط تكتشف نفسها.. لأنها تكتب نفسها بتلقائية شعرية كما لو كانت تنمو لوحدها وبلا مؤلف وكاتب..
(عيسى الحلو , يتحدث عن "الرواية- القصيدة" في صفحته الأسبوعية الجميلة " حكايات حاراتنا" في الرأي العام وهي صفحة ظل يبدعها بطريقته الخاصة للغاية في العديد من الصحف السودانية وكانت تتخذ في الماضي مسمى "قوة الأشياء").
"رواية ما بعد الحداثة لا تملك المعنى .. ولكنها تفبرك المعنى it doesn't make sense but makes up sense"
(الناقد تشارلز بلات Charles Platt)
مدخل نظري
النوفيلا هي (الرواية القصيرة novella).. الشكل الذي كتب به همينقواي "العجوز والبحر". ولكن الجديد هو إضافة كلمة قصيدة للرواية لتصبح (الرواية أو النوفيلا-القصيدة). هذا الشكل نجد له جذورا قديمة في "السرد الشعري" ( verse narrative) أو الشعريات السردية narrative poetics)) المرتدة إلى زمن الملاحم القديمة كجلجماش السومرية, وكالأدويسا والإلياذة الإغريقيتين, ومثل "بيولف" و"حكايات كانتربري" الانجليزيتين, ثم في موجتها الأخرى في القرن التاسع عشر. ولكن هذا الشكل (النوفيلا-القصيدة) يختلف الآن.. إذ أنه يأتي ضمن مظلة ما بعد الحداثة, والتي من أهم ملامحها ظاهرة (تسييل الأجناس الأدبية وفتح الحدود البالية بينها ) ! ومنذ نهايات الثمانين ظهر هذا الشكل (الرواية-قصيدة النثر) وأحيانا تسمى (قصيدة النثر-الرواية) في أوربا وأمريكا وأمريكا اللاتينية. غير أن هذا الشكل- الذي يمزج ملامح قصيدة النثر بخصائص الرواية الجديدة بحيث يصبحان شكلاً فنيا جديداً واحدا ومتعددا في آن- بدأ يصعد بشكل جاد منذ وسط التسعينات وبدايات هذا الألفية الجديدة, ومن نماذجه رواية الكاتبة ليز روزنبيرج Liz Rosenberg بعنوان (17) صدرت في أمريكا في 2002- وهي عبارة عن مجموعة من قصائد النثر التي تشكل في كليتها رواية , ورواية أخرى للكاتب جيمي ايردل بعنوان (قصيدة نثر-رواية) التي صدرت في 2009 . وفي السودان يعتبر عيسى الحلو من أكثر الكتاب وعيا بهذا الشكل الجديد, بل ومن أول من طرقوه على الإطلاق. وقد لا يكون الكاتب ملما بهذا الشكل من الناحية النظرية, ولكن أعتقد أن ثمة ثلاثة مؤثرات قد يكون لها دورا في تبنيه لهذا الشكل: 1. خبرة الكاتب الكبيرة بأشكال الكتابة السردية ومعرفته بمحطاتها المختلفة عالميا 2. القلق التجديدي والتجريبي الذي عرف عن الكاتب. 3. اهتمام الكاتب بقصيدة النثر في السودان وقربه من بعض أبرز كتابها ونقادها (محجوب كبلو- محفوظ بشرى , مثلاً). هذه العوامل شكلت أساس رؤية عيسى الحلو الجديدة التي تتجلى الآن في تبنيه لكتابة هذا الشكل الفني الجديد (الرواية-القصيدة أو رواية قصيدة-النثر) !!
كولاج.. الحقيقة واللاحقيقة أوالحقيقة والحقيقة المفرطة Reality & Hyper-reality
" لا توجد حدود واضحة بين الواقعي وغير الواقعي.. ولا بين الحقيقي وغير الحقيقي .. فالشيء ليس بالضرورة أن يكون فقط هذا أو ذاك , إذ من الممكن أن يكون الاثنين معاً" (هارولد بنتر .. الكاتب البريطاني الذي نال نوبل في 2005).
يواصل الحلو مشروعه الروائي الجديد (وكلمة مشروع تعني أن العمل مفتوح وغير منتهٍ بطبيعته.. ولذلك فلا يوجد مشروع, طالما استحق صفة " مشروع project", يمكن أن يكون منتهياً أصلاً) الذي بدأه منذ الستينات ورفده بشكل خاص وجديد منذ التسعينات بدءاً بروايته "صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل 1997" , ثم روايته " عجوز فوق الأرجوحة 2010" ومجموعاته القصصية الجديدة منذ التسعينات وأوائل الألفينيات مثل (رحلة الملاك اليومية) (وقيامة الجسد) وغيرها. محطته هذه المرة رواية جديدة بعنوان " الورد وكوابيس الليل", التي صدرت هذا العام 2013 , عن دار مدارك ذات الجودة و التصاميم الرائعة .
فصول الرواية التسعة تتشكل وتتقطع وتتلاشى وتتكسر كالموج على شواطئ الفراغ و اللامعنى واللانهاية. شخوص متأزمة وملتبسة ومبلوطة بكل الهموم والمتاعب الكبيرة (عبد المنعم ياقوت وسعيد كمال وراقية عيد الجليل وروجينا.). يعيشون حياة مضطربة ملتجة.. تخيطها المعاناة وتلفها المحن .. وتحوطها التناقضات .. ثم يذهبون في النهاية جميعاً هناك.. بعيدا في فراغات الأبد..تاركين وراءهم أسئلة عريضة.. لا تدري إن كانوا يأتون هم من الأحداث أم تتشكل منهم الأحداث.. ولا تدري أين هي البدايات ولا أين هي النهايات . . لا شيء ثابت لا محاور ولا ارتكازات .. فالدوران المستمر هو عماد الرواية ومادة اشتغالها الدائم !!
عبد المنعم ياقوت.. ثقل الواقع .. وخفة الشكل-الكائن
أهم ما يلفت قارئ الرواية شيئان : كثافة الواقع وثقله وقسوته وعنفه مقابل شكل روائي خفيف وشفيف وهفيف يتخذ شكل (النوفيلا – القصيدة).. كما أشرنا.
ينوء (اللابطل) الرئيس في القصة (عبد المنعم ياقوت) بكل فداحة وقسوة وعنف العقدين الماضين في السودان : الحروب التي تفتك بالبلاد بكل جديتها في العبث والتدمير و"بهجة" التشظي واللا أفق .. الفساد الذي ينخر عميقا في تجاويف المادة و خلايا الروح..الوطن الذي يدمن حالة (اللاوطن) .. السلاح الذي يمشي بين الناس.. أطراف البلد التي تلتهب ثم تلتهب ثم تشتعل فتنفصل فتدور وحيدة في (زمانها الخاص) .. (عبارة الحلو الأثيرة).. يرمز إلى ذلك بأطراف روجينا الصناعية وهويتها الملتبسة ورهقها وعينيها اللتان تبرقان بالأسئلة الكبيرة. لا يملك الرجل الغامض عبد المنعم ياقوت إزاء كل هذا العبث, إلا أن يتمدد طويلاً وعميقا ويملأ مساحة الوطن كله ويصعد في النهاية "مسيحاً" في السماء ..
أول مرة نقابل فيها هذا (اللابطل) عبد المنعم ياقوت, يأتينا وصفه كالآتي" لم يكن أحد قد رآه. إلا أن كل اللذين يتسقطون أخباره يملكون جميعهم صورة ذهنية عن الرجل وهي من صنع خيالهم. ولا أحد يستطيع نقل الصورة الحقيقية للرجل... وتحول إلى رمز وأسطورة...هو ذاك الذي اثر في حيوات كل الذين كانوا حوله.."(ص.7).. وآخر مرة نشاهده وهو جثة هائلة الضخامة وهائلة الجمال والنبل في نفس الوقت "فالرجل يشع نورا وجمالاً وبهاءاً. فهو موكب من الجمال والإشراق والنبل.. وصدره العالي مثل جسر نهري يمتد حتى الحدود الجنوبية..يصل الذراع الأيمن إلى مدن الغرب القصي حتى الجنينة .. والذراع الأيسر يصل شرقا إلى سواكن وبور تسودان" (ص. 103). وما بين ذلك وذلك , نراه مرة في شكل بطاقة في إحدى غرف جهاز الأمن, ملتبسة مع بطاقة شخص آخر (سعيد كمال) تقول بياناتهما أن كليهما من وسط السودان ومن مواليد ( 1940) !! وما بين مولده وصعوده في السماء, يظل الرجل ملفوفا في غيابات الغموض , وان كان دائم الحضور والتأثير في الرواية.
عبد المنعم ياقوت يحمل كل معالم "اللابطل" الروائي.. فهو شخصية مركبة تركيب الواقع السوداني ومعقدة تعقيده. وهو لا يتطور بشكل منطقي لأن هذا الواقع المركب نفسه يفتقر في معظم جوانبه للمنطق .. يتم وصف عبد المنعم باستمرار و تتم مراقبة حالته عن كثب.. وفي الآن نفسه, فلا وجود مادياً محدداً للرجل "لقد صنعوه من مادة الوهم, وليس من مادة الخيال. فهو مصنوع من المخاوف والأحلام والأشواق والإرادات" ( ص.30) وهو ملتبس مع شخص آخر يدعى(سعيد كمال) يجيء أقل كارزمة منه, ولكنه يضفي على هذا (الياقوت) مزيدا من التركيب والغموض ومزيداً من التجلي. وفي مقابل أو تواطأ التباس (عبد النعم) و(سعيد), يوجد التباس وغموض آخر بين (راقية عبد الجليل وروجينا).. وهنا يمارس الحلو لعبته المفضلة (التباس الهوية وتعقدها) .. والتي ستأتي بتفصيل أكثر في فصل لاحق !
الميتا-سرد .. تكنيك الأقنعة والغوص العميق
من مظاهر السرد الجديد, خاصة في تجليه ما بعد الحداثوي, بالإضافة لفكرة (التشظي) المركزية.. توجد سمتان : اللعب باللغة language play والميتا-سرد meta-narrative(سرد السرد أو الكلام عن السرد الذي يأتي خلال السرد وعبر التكشف السردي نفسه). وفي حين يجيد بشرى الفاضل (اللعب باللغة ), فان الحلو يجيد الاشتغال على ملمح الميتا-سرد. ويتخذ من شخصية عبد المنعم ياقوت تجسيداً لهذا الملمح "فسرد حالته هنا.. يأتي أيضا متقطعا وغير منساب في تراتب زمني منطقي متجانس. وذلك بسبب الطريقة التي ترى بها المدينة عبد المنعم ياقوت. فهي تصوره عبر خيال يأخذ مادته من (الواقعي) وما فوق الواقعي..من الماضي ومن الحاضر فيما يشبه الرؤية السريالية للواقع. ولكنها ليست سريالية بيكاسو أو دالي , هي أقرب إلي سريالية الروائي الألماني جنتر جراس, في روايته (الطبل الصفيح). وتختلف قليلا جدا عن واقعية رواية أمريكا اللاتينية عند ماركيز أو ستورياس. كما تأخذ من الطيب صالح وإبراهيم اسحق غنائيتهم الريفية. ومن بشرى الفاضل تعبيريته السحرية. ومن شوقي بدري تأخذ واقعيته الفجة والمباشرة التي تشبه كتابة (العرض حالات). هي أقرب إلى واقعية ود ضيف الله" (ص.30). وفي مقطع آخر يقول أحد شخوصها الغامضين كزرقة البحر وكصفرة الرمال " حاولت أن أتحرر بالكتابة, ولكني وجدت نفسي داخل هذه الفقاعة(الكذبة) المليئة بالهواء والفراغ والثرثرة...أمسك بالقلم .. وأحاول أن أسرد الحكاية ..ولكن الأصوات ما تزال تثرثر . ويزدحم المشهد .. ويتحول حضوري إلى غياب" (ص. 97). الميتا سرد آلية أو تكنيك للكشف الروائي عن الحقائق والانغماس عميقاً في سراديب الأفراد والأشياء والمكانات والأزمنة.
من الضروري , التنويه هنا أن استخدام مصطلح .. الميتا-سرد ( meta-narratives/grand-narratives) يختلف من المعنى المعروف في أدبيات ما بعد الحداثة والذي سكه الفرنسي ليوتراد Loytard وهو يشير إلى رفض ما بعد الحداثة "للنظريات الكبيرة" التي تدعي الشمول في تفسير الظواهر الإنسانية (الفرويدية مثلا في تفسير السلوك الإنساني, أو اقتصاد السوق لحل المشكلة الاقتصادية الكونية, أو حتى مثل "نظرية المؤامرة" الفجة التي تعتقد أن التاريخ كله, لا يعدو أن يكون سلسة من المؤامرات التي تحيكها غرف أجهزة المخابرات) ويقترحون بدلا عنها التعدد النظري في تفسير مشكلات العالم وإنشاء النظريات الصغيرة ذات الحساسية السياقية ( localized narratives). ونستخدم "الميتا-سرد" هنا بمعنى تكنيك سردي يتجلى عندما يلجأ الراوي(الصوت) إلى محاورة نصوصاً سردية معروفة داخل نصه السردي, وهنا قد ينطوي هذا الاستخدام على بعد نقدي, أيضا , مثلما رأينا الراوي هنا يصف أسلوب شوقي بدري بأنه (واقعية فجة) وأنه أشبه (بكتابة العرضحالات) !!
تقمص الأرواح .. ولعبة الهوية والفقاعات..
" أدير محرك القوقل كل يوم لأبحث عن نفسي في القوقل وأعرف من أنا " (جارود كينسز, مواطن أمريكي) !
" الحفاظ على الحرية في العصر الحديث, يقتضي الإيمان بالهويات المتعددة" (رالف ايمرسون)
هي لعبته الأثيرة. معالجة الكاتب السردية لإشكالية الهوية ظلت على الدوام حاضرة ومتقدمة0 فهويات الشخوص هي دائما هويات معقدة ومتعددة ومتنوعة ومتحركة بشكل مستدام. وداخل هذا المنظور الروائي(وهو ينسجم الآن مع نظرية الهوية الجديدة في العلوم الإنسانية الحديثة- كما في مثلا, كتاب نورتون عن الهوية من وجهة نظر بعد-بنيوية 2000 , وككتاب جون ادواردس " اللغة والهوية" الصادر من جامعة كيمبردج 2009). يملك الأفراد مساحة خاصة لصناعة هوياتهم بأنفسهم ويملكون تغيرها وقتما شاؤوا وكيفما رغبوا !! في عالم اليوم الأفراد دائمو التغيير .. فهم يغيرون أمكنتهم وأشكالهم وألوانهم وعملهم وجنسياتهم ومواقفهم ويغيرون جنسهم ( trans-genders), ويكتبون بألقاب وأسماء وهويات مستعارة على الانترنت.. وهكذا صارت الهويات نفسها تأخذ شكل التغيير الدائم , وفي الوقت نفسه تأخذ شكل الاختيار الحر !!
يمارس شخوص الرواية لعبة معقدة هي أن يتقمصوا جميعا روحا واحدة .. هي في مجموعها روح الشخص الغامض الذي يأخذ اسم (عبد المنعم ياقوت). .. فروجينا وراقية وسعيد يختارون جميعا أن يصيروا هم (عبد المنعم ياقوت) ".. نصبح أربعتنا روحا واحدة... نصبح عبد المنعم ياقوت .. فتتطابق هويته مع هوياتنا... بحيث تصبح الذات الخاصة بكل منا هي الذات الرباعية الأبعاد" (ص.58). ورغم هذا الاندغام الروحي الرباعي الطوعي في روح(عبد المنعم ياقوت) .. تظل كل من الشخصيات الثلاثة تبحث لاهثة وباستمرار عن ذاتها في هذا (الياقوت) الذي لا وجود ماديا له.. رغم كونه مركز الشغل كله في الرواية.. إلا حين يموت, وحتى حينما يموت فان جثته تتمدد وتستطيل بمساحة السودان وتصعد إلى السماء وتتطاير في مشهد سريالي يشهده جميع السكان, في دهشة وحزن عظيمين!
لعبة التقمص هذه.. تحيل إلى معان عديدة .. على مستوى الأفراد وعلى المستوى الجمعي , وعلى مستوى المكان الذي يدور ويدور وينكمش ويتشظى ويصبح مكاناَ "فارطاً" (هايبراً nonplace/hyperplace)00 وتتحول عناصره المادية كلها إلى ضوء خفيت وشفيف عبر شفافيات عرض متنوع ومستمر .. تتحول فيها اللغة إلى عذوبة محضة.. والعالم إلى (فقاعة) كبيرة يلعب بها الأطفال.. ويتحول البيت الصغير الغامض الذي تسكنه الشخصيات الأربع, ويأوي إليه هذا الشبح "عبد المنعم ياقوت" بين الفينة والأخرى, إلى "فقاعة صغيرة" وسط النهر"مليئة بالصخب والجنون والليل" وأربعتهم, يحثلون عميقاً في حمى الجسد ويعطنون أنفسهم في شلالات الموسيقى وإيقاعات الفالس, و يتحولون إلي " وجوه مجهولة وسط الزحام.. تلتقي بلا سبب .. تفترق بلا سبب.. تدفعهم رغبة عارمة بأن يسافروا في المجهول والغيب"! (ص.25-26). وتأخذ صرخاتهم شكل "ألم الجرح القديم " وصيغة "الحلم الطازج" الخارج لتوه كوردة أبدية من براعم النفس ومن أعماق الجمال. وكلما تشظى المكان في الفقاعة الصغيرة (منزل الأربعة) أو الفقاعة الكبيرة (العالم) تتزايد النبرة الشعرية للرواية, في محاولة لا تفتر للامساك بهذه (الفقاعة), ويتماهى صوت الراوي نفسه مع (الفقاعتين) بحيث يذوب فيهما تماما ويمسى شعراً خالصاً وخيالاً مطلقاً وغناءاً لازوردياً شفيفاً.. فالفقاعة حيثما ترد في الرواية , إذا هي (المعادل الموضوعي)- إن أردت استدعاء مصطلح ت. س. اليوت- تشكل معادلاً للتشظي المكاني والتشقق النفسي والوطني.
خاتمة
رواية (الورد وكوابيس الليل ) للكاتب عيسى الحلو, الصادرة هذا العام 2013عن دار مدارك , تجترح إطارا روائيا مستجداً جداً.. هو إطار (الرواية-القصيدة) أو (الرواية-قصيدة النثر), وهو شكل , يقتضي بدوره ثقافة قرائية ونقدية سودانية-عربية جديدة لفن الرواية , وللأدب على التعميم !! وهي تباشر, أيضاً, شكلاً يحاول بقوة, كشف واستيعاب تحولات الواقع السوداني المفزعة خلال العقدين المنصرمين, والتي تحيل بدورها- في ميزان المعرفة السردية- إلى تحولات عالمية كبيرة وارتجاف كوني كبير ينتظم العالم !!
* كاتب وأكاديمي سوداني , مقيم بالسعودية
(جامعة المجمعة)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.