بسم الله الرحمن الرحيم كثر الحديث هذه الأيام عن الهجرة المكثفة لأساتذة الجامعات الى كل بقاع الدنيا، ضاربين بعرض الحائط بكل شئ، أى الوطن والمواطن والطالب وبرامج الجامعة و التعليم العالي والجامعات والحكومة..الخ والسبب واضح وهو (العجين) ومستقبل الأسرة والأولاد قبل كل شئ، وعدم وضوح الرؤية في كل سياسات ومرافق الدولة وبرامجها، والخوف من المصير المظلم بالنسبة له ولأبنائه ولكل من يعتمد على هذا الأستاذ الجامعي في اطار الأسرة الصغيرة والعائلة الكبيرة..الخ. أجتمع مدراء الجامعات السودانية قاطبة بالسيد نائب رئيس الجمهورية (استاذ الهندسة الزراعية السابق بجامعة الخرطوم) ووزير التعليم العالي والبحث العلمي (أستاذ الهندسة الزراعية – بكلية ابو نعامة – جامعة سنار السابق، ومدير سابق لجامعة الدلنج/ جنوب كردفان) والسيد وكيل الوزارة (استاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والتنمية الريفية – جامعة الجزيرة- ومدير سابق لجامعة بورتسودان/ البحر الأحمر- جاري السابق بالنشيشيبة الهيطة بالهيطة)، والنتيجة!!!!!!!!!! يعني الكل عالم ببواطن الأمور. ياسادة هاجر في العام السابق فقط حوالى 2000 أستاذ سوداني من خيرة علماء السودان وافريقيا والشرق الأوسط في كل المجالات، اعتبار من كل العلوم الأساسية، وانتهاءا بالتخصصات الدقيقة جدا ، ومن الجنسين. أغلبهم من الذيم تحصلوا على درجاتهم العليا من الدول المتقدمة مثل الولاياتالمتحدة وانجلترا والمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا واليابان، و الذين تخرجوا من تركيا والهند والصين ومصر والعراق وسوريا . كما أن أكثر من 50% منهم من الأساتذة المشاركين والبروفيسرات الذين هم على وشك التقاعد ويشرفون على أعداد ضخمة من مبعوثي الجامعات والهيئات البحثية والقطاع الخاص والطلاب على النفقة الخاصة. الأسئلة المشروعة هي: أين الحكومة من ذلك؟ أين التعليم العالي من ذلك؟ ما هو دور الجامعات؟ وما هو مصيرها بعد هذه الهجرات المكثفة؟ هل فكرت في تبعات هذا الأمرعليها وعلى طلابها ومناهجها ومستوياتها واعتماديتها؟ هل من السهولة على الأستاذ الجامعي أن يتخذ قرار الاغتراب أو الهجرة؟ لكني أريد أن أبدأ بتوضيح الآتي: ان اعداد استاذ جامعي اعتبارا من اختياره كمساعد تدريس وانتهاءا بحصوله على درجة الدكتوراه حتى يتم تعيينه بدرجة استاذ مساعد عملية من الصعوبة بمكان وتحتاج لجهد كبير وأموال ضخمة من الدولة والجامعة والجهة التي تعده لهذه الدرجات ومن المبعوث نفسه ومن اهله ومن اسرته الصغيرة ان كان متزوجا. أما بعد تعيينه كأستاذ مساعد فمهامه تكبر من حيث التدريس والاشراف على طلاب الدراسات العليا والبحث العلمي والعمل الاداري واللجان المختلفة داخل الأقسام والكليات والجامعة وخارج الجامعة وداخل الدولة وفي الاقليمين الافريقي والعربي وعلى مستوى المنظمات..الخ. هذا بخلاف أنه مطلوب منه وبشدة المواكبة ومتابعة كل المستجدات في مجاله الواسع ومجال تخصصه وفروعهما ان أمكن ذلك. عندا التحقت كاستاذ بجامعة الجزيرة كنت حاصلا على درجة الماجستير على نفقة والدي رحمه الله من جامعة الاسكندرية مباشرة بعد حصولي على درجة البكالوريوس من ذات الجامعة. كنا الدفعة الأولى لأساتذة جامعة الجزيرة، وتم ابتعاثي الى جامعة أريزونا للحصول على درجة الدكتوراه. قضيت بمدينة توسان التي بها الجامعة حوالي اربع سنوات على جساب محمد أحمد الشهير وملوال وكوكو وأدروب، وكلفهم ذلك ما لا يقل عن 100 الف دولار أميريكي (حوالى 33 ألف جنيه سوداني باسعار ذلك الزمان الجميل). عدت الى البلاد (1982) رغما عن محاولات عدة جامعات أميريكية بأن التحق بها نظرا لأهمية الموضوع الذي تخصصت فيه، لكن لم يهن على أن أخذل الشعب السوداني الذي أنفق على كل هذا المبلغ الضخم، والتزاما بوعدي للمرحوم البروفيسر/ محمد عبيد مبارك مؤسس جامعة الجزيرة. نحمدالله قدمنا للجامعة عصارة جهدنا ولهذا الشعب المعطاء وساهمنا في وضع كل المناهج والقوانين واللوائح والبرامج والكليات والأقسام، ورسخنا للمؤسسية وساهمنا بعلمنا وأفكارنا على كل المستويات المحلية والقومية والاقليمية والدولية باسم السودان وباسم جامعتنا الفتية. خرجت حتى تاريخه 31 دفعة وأكثر من 100 طالب ماجستير ودكتوراه ونشرنا العديد من الأوراق العلمية والكتب المنهجية، ولم نفكر يوما في ترك السودان، وتدريس من هو غير سوداني، أو اجراء بحوث لدولة غير السودان رغم كل المغريات. النتيحة: الحصول على درجة الاستاذ المشارك عام 1986 ودرجة البروفيسر عام 1993م (قبل 20عام) والمرتب لا يتعدى 2700 جنيه، أى أقل من 350 دولار، في حين أن أضعف الدول مرتب أساتذة الجامعات بها يبدأ من 1800 دولار (في الشهر بطريقة عادل امام!!). هل بمثل هذا المرتب يستطيع أي شخص، ناهيك عن الأستاذ الجامعي ومتطلباته المجتمعية، أن يكمل الشهر دون ديون؟ هل يستطيع أن يدخل أولاده للمدارس التي يتمنى أن يدرسوا بها؟ هل يستطيع أن يوفر لهم العلاج واالملبس الذي يليق بهم؟ هل يستطيع أن يوفر لزوجته متطلباتها التي تليق بزوجة استاذ جامعي؟ هل يستطيع أن يأخذ أسرته في اجازة للترويح والاستجمام كل عام كما كان يفعل أساتذتنا نحن؟ بل هل يستطيع أن يأخذهم الى مطعم داخل الخرطوم لتناول وجبة الغداء أو العشاء ولو مرة واحدة في الشهر؟ فلنبدأ بالحكومة، بالطبع اتكلم عن حكومات الانقاذ (الجبهة والمؤتمر الوطني) بالتحديد، صاحبة ثورة التعليم العالي المفترى عليه. سأفترض حسن النية في عملية انشاء كل هذا الكم من الجامعات بكل ولاية وبكل مدينة كأن التعليم العالي ليس له متطلبات متفق عليها عالميا، ولا فرق بين تاسيسها وتأسيس الخلاوي!! نقول أن التعليم العالي في أى دولة من الدول ، متقدمة كانت أم متخلفة، يبنى طبقا لاحتياجات المجتمع والدولة وتكون له استراتيجيات ورؤى مستقبلية وخطط للتنفيذ والتجويد..الخ. نحن كدولة نامية كان من المفترض أن نركز على التعليم الفني (التكنولوجي) في الجامعات الجديدة، ونترك الأكاديمي للجامعات القديمة. التكنولوجيا هي اساس وقاعدة تقدم الدول، ويكفينا تنظير ومنظرين من خريجي جامعاتنا القديمة ومنهم من لم يجد خريجوه وظائف حتى تاريخ كتابة هذا المقال، ناهيك عن من تخرجوا من الجامعات الحالية. قد تكون الفكرة الأولى عند انشاء هذه الجامعات الوهمية هى توفير فرص لكل من يرغب في التعليم الجامعي، وهذا حق مشروع، لكن تطبيق الفكرة كان خاطئا وغير مدروس. النتيجة ان هذه الجامعات اصبحت نسخ متشابهة وتخرج نوعية مكررة من الخريجين لا يجدون فرص للعمل. كل الجامعات بدأت باربع كليات: الطب، الزراعة، الاقتصاد والتربية!!! ثم بدأت في تقليد بعضها البعض في انشاء كليات تشابه تلك الموجودة بالفعل بجامعات الخرطوم والجزيرة وجوبا (سابقا). بل أن بعضها أطلق على الكلية نفس اسم الكلية التى تبنى مناهجها وبرامجها وايضا نظم الأساس والقوانين واللوائح!!!كان هم الحكومة هو استيعاب الدفعات وبانتظام واستباب الأمن وتوفير (منحة) و لا أقول (ميزانية) لتسيير أعمال هذه الجامعات. أما وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، لا اعرف ماذا تريد ؟ ومن من؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومقابل ماذا؟ أقول للوزارة والسيد الوزير: هل أنتم متأكدون أن كل من يقوم بالتدريس (الآن) وبعد هذه الهجرات، بهذه الجامعات مؤهل لذلك؟ هل أنتم راضون عن تأهيلكم لهؤلاء الأساتذة حتى يقومون بتدريب ابناؤكم وأبناء وبنات هذه الأمة ( قادة المستقبل)؟ لماذا لم تضعوا أنفسكم مكان من اختاروا الغربة؟ لماذا لم توفروا لهم الحياة الكريمة ولأسرهم حتى تحافظوا على مستويات جامعاتكم وتطوروها بواسطتهم بدلا من أن يقومون بهذا لدولة أخرى لم تبذل أي جهد أو مال في سبيل تدريبهم؟ ما رايكم في هجرة من قمتم بتأهيلهم على أعلى مستوى؟ أنهم يقدمون خبراتهم الثرة الآن لمن يدفع أكثر، ولن يكتسبوا خبرات جديدة من عملهم هناك كما تدعون، بل أن اغلبهم قد قرر بالفعل عدم العودة. الآن جاء دور الجامعات. أقول ماذا فعلت الجامعات لحماية حقوق أساتذتها (القديمة والجديدة)؟ ماذا عن مصير من أخرجوا الى المعاش رغما عن الحوجة الماسة لهم بكل الكليات والأقسام؟ وماذا عن حقوق من توفى منهم قبل أو بعد المعاش؟ ماذا تقولون عن بيئة العمل المتردية والمخجلة من قاعات ومعامل ومكتبات ومكاتب الأساتذة ؟ ماذا عن المضايقات المقصودة وغير المقصودة وانتقال أمراض الخدمة المدنية الى الجامعات وتدخلها في الآكاديميات؟ كل هذه من أسباب هجرة الأساتذة. فراتب شهر حتى واحد بأى من دول المهجر يعادل مرتب عام كامل أو أكثر بالسودان. فمن تبقت له 12 عام للتقاعد الفضل له الهجرة لعام واحد على الأقل ويختصر 11 عاما للقيام بشئ آخر بفيده هو وأسرته. أما ان بقي هنالك 12 عاما فهى تعادل 144 عام في السودان!!!!! لا تلوموا الاستاذ الجامعي ، والرحمة حلوة!! كل ما يهم الجامعات حاليا دون فرز هو التسجيل، استلام رسوم التسجيل، محاولة تغطية المنصرفات اليومية للكليات والادارة ولا أقول الأقسام، تكملة المنهج بأي وسيلة ممكنة وفي الوقت المطلوب، الجلوس للامتحانات، التصحيح، عقد مجلس الممتحنين ومجلس الكلية، رفع النتائج الى مجلس الأساتذة للاجازة، والسلام عليكم ورحمة الله. أما عن كيفية التدريس والجودة..الخ. فهذه رفاهيات!!!!الأستاذ المحترم والذي يحترم نفسه وجامعته وتخصصه وطلابه وأهاليهم والوطن لايقبل ذلك على نفسه. الأستاذ الجامعي ان وجد البيئة الصحيحة للعمل (تدريس وبحوث) اضافة الى عائد مادي مناسب لاقل عن ما يتسلمه رصيفه بدول لاتختلف عنا كثيرا كمصر وكينيا ويوغند وتنزانيا وزامبيا وزمبابوي، ولا نتحدث عن جنوب افريقيا أو المملكة أو دول الخليج الأخري لما فارق وطنه وأهله وأحبابه. فنحن ملح هذه الأرض ونعشق كل ذرة من ترابها ونيلها وحرها وبردها وهبايبها وأمطارها..الخ. نهاية القول، الاستاذ الجامعي هو أساس نمو هذه الأمة. كما أنه بشر وراع لأسرته واسر غير أسرته. ارحموه حتى يرحمكم من في السماء وفي المقام الأول السودان هو الكسبان أو الخسران والأمر متروك لكم. أللهم نسألك اللطف (آمين). بروفيسر/ نبيل حامد حسن بشير جامعة الجزيرة 15/11/2013م [email protected] نشر في صحيفة التغيير