بسم الله الرحمن الرحيم صحفيون في مواجهة الإستبداد أعادت مُحاكة الكتاب والصحفيين، الي الواجهة مرة أخري، قضية هامش الحريات وحصاره، وجهاز الأمن وحصانته، والدستور ومواده وتفسيراته، وبالأصح إعادة توظيفه بما يحمي النظام وإمتيازات قادته ومواليه! وكل ذلك يقود في كل مرة، الي إشكالية أساسية ومحورية، تصب عندها كل الآثار والنتائج والمفارقات والمآسِ، وهي عدم شرعية السلطة الحاكمة! وفي الحقيقة إنقلابها او قلبها لمفاهيم الحكم الرشيد او الإلتزام بمتلطباته، أو تجريده من وظيفته ومضمونه، كوسيلة تنظيم للمجتمع وترتيب لمصالحه ومعالجة لإشكالاته، وكقيمة معنيَّة ببسط الأمن وإقامة العدل، وكفعالية مجربة، تتصدي لجنوح وسيطرة فرد او مجموعة صغيرة، ونزعتهما المرضية للإستئثار بالدولة، في مواجهة بقية مكونات الشعب، وما يلي ذلك من تمزيَّق للنسيج الإجتماعي، وإضطراب لكيان الدولة، بوصفها مظلة يستظل الجميع برعايتها، وككيان إعتباري يجد القبول والإعتراف من الآخرين، إذا ما إجتاز شروط تعريفه ومقومات وأجباته! وهذا ناهيك عن تمكينها لنظام الإستبداد الإسلاموي القابض، والمُسيطر بشراهته السلطوية ومسكته الحديدية، علي الدولة كغنيمة او كغاية نهائية وأبدية! ومهما تدثرت بأنتخابات(مخجوجة) او برلمانات مزورة! إلا أن سلوكها وأقوالها تفضحها، وتعلن صباح مساء، عن مفارقتها للطريق الديمقراطي القويم! وإبتعادها عن منهجية المؤسسية والرقابة والمحاسبة، كآليات ردع وحماية، تكبح جماح أي مساعٍ للتغول علي الدولة، او جنوح للفساد المُقنن، اللذان يُلازمان، الأنظمة المستبدة، كظلها في حلها وترحلها وعبورها للأزمنة والمجتمعات! ومأساة الإستبداد الإسلاموي او غيره، لا تكمن في وضعه للقوانين المُتحيزة وتفسيراتها الجُزافية الجائرة، التي تخدم فريق محدد علي حساب الآخر! او تُفصَل علي مقاس إستدامة بقاءه في السلطة، وإستباحة ثروات البلاد وكرامة أهلها، أي تجيير جهاز الدولة لمصلحة رعاة الإستبداد ومناصريهم ومنافقيهم فقط! وإنما يتعدي ذلك الي تحوله الي ثقافة او منظومة عقدية متعالية متحكمة، تحكم سلوك وتصرفات المجموعة المستبدة بصورة تلقائية، هذا من ناحية، ومن الناحية المقابلة يفرز حالة من الخمول والتدجين والقبول بكل شئ، حتي ولو تعارض مع المنطق والحق والعدالة! تصيب جمهور الشعب او المحكومين او المجتمع المقهور! بمعني أن الدولة والمجتمع يُعانيان، حالة من الإنقسام العمودي المكتوم او الغير مُعلن، أي تتنازع الدولة إرادتان، إرادة القهر بكل عنفها وقسوتها وإحتكارها للقوة والقوانين وتشكيلها للقيم! وإرادة الخنوع بكل خذلانها وجبنها وسعيها للخلاص الفردي ونيل السلامة الشخصية، بكل الوسائل ولو علي حساب كرامتها وحريتها او ما يُضفي علي الحياة معني وإحترام! لذلك في ظل دولة الإستبداد وناتجها مجتمع الإستبداد، تكتسب القوانين والدساتير بل حتي القيم الإنسانية المجردة، أبعاد أخري وتخريجات جديدة، غير ما تعارف عليها ورسخ في القوانين والدساتير الدولية ومن بعدها ضمير البشرية، أي عولمة القوانين والمفاهيم، وإرتضاء كل دول العالم المنضوين تحت لواء ومواثيق الأممالمتحدة، بها ولو بصورة ضمنية، لا تحتاج لتأكيد، وإلا لتم رفضها والإنعزال عن العالم!! وهذا ما لم نسمع به، حتي من أشد الحكومات تخلف وهمجية ورفض مبطن لمضامينها!! أي يعمل فضاء الإستبداد السائد والمسيطر، علي وضع بصمته وتفسيره وتقديره الخاص، لهذه المفاهيم والمصطلحات، بحيث يعاد توظيفها لخدمة مصالحه وإستمراره وحمايته كما ذكر سابقا. ولا يمنع ذلك شدة الصراخ والتبجح بإعلانها وممارستها والقيام بواجباتها وإجراء الإنتخابات...الخ. بمعني آخر، سيطرة حالة من التناقض المربك علي منظومة الإستبداد(أفراد ونظم وقيم)، وذلك عبر رفضه المطلق لقيمة الحرية و الديمقراطية والمشاركة الحقيقة، أي بمضامينها ومخرجاتها وعمومية فوائدها، ولكنه في نفس الوقت، يحتفي إحتفاء هياجي مرضي، بشكلياتها وقشورها، وإلصاقها بكل مؤسساته، ومنطوق وألفاظ رواده! وبجملة واحدة، يتحول الإستبداد الي مرض وحوجة! وتاليا تغدو الديمقراطية والحريات الي عدو يجب الإحتراز منه، ولا بأس من مداهنته قليلا، ليضفي علي نفسه بعض المشروعية، وعلي قبحه ووحشيته بعض البريق والجمال! والمقصود بهذا حصريا الخارج(القادر والمؤثر)، نتيجة لغياب الداخل كشعب وكهَمّ، عن وعي ونفسية منظومة الإستبداد، وحضوره فقط كأشياء(سقط المتاع) او أدوات، تشبع شهوة الإستبداد ونشاطه، حتي لا يأكل نفسه او يحرق ذاته، في ظل غياب حرق الآخر! بمعني أن الإستبداد يعرف نفسه ويعلن عن ذاته، بالآخر المقهور المسلوبة منه كل حقوقه والمهدرة قيمته وأهميته! بناءً علي ما سبق ذكره، وبوصف حكومة الإنقاذ الإسلاموية، أكثر نُسخ الإستبداد قسوة وعشوائية وفساد. فما يجري من إعادة مُحاكمة للصحفيين والكتاب الشرفاء، والنطق بالأحكام القاسية في حقهم، وجرجرتهم الي المحاكم والأقسام كل حين! لشغلهم وتخويهم وتأديبهم، او لخلق نوع من الرقابة الذاتية او الداخلية للكتاب، تحدد خط سير أقلامهم وإهتماماتهم، حتي لا يقعوا في المحظور! لا يمثل سلوك غريب او منافٍ للتقاليد الصحفية، او مفارق حتي للمبادئ الإنسانية من حرية وخلافه! في عرف جهاز الأمن او محاكم العدالة الناجزة او الطوارئ الإسلاموإنقاذوية! التي تُعد الأحكام وتحدد الضحايا حتي قبل وقوع الجريمة!! أي محاكم مُنشأة للترصد والتعقب والتحرش بالصحفيين والكتاب، وليس العكس، أي السعي لإقامة العدل وبسط القسط بين المتحاكمين! وذلك لأن هذا السلوك الشاذ، يستقيم مع تركيبتهم النفسية، ونشأتهم التنظيمية، في حضن جماعة صانعة للإستبداد، وناشرة لفظائعه ومبررة لتجاوزاته، ومؤسسة لكوارثه ومحنه وعجائبه التي لا تنقضي! بل يمكن لهذه الجماعة وعبر ممثليها، وغرابة تفكيرها وغربة إهتماماتها، أن تصل الي مرحلة إخراج الشهيد جون قرنق من قبره، ومحاكمته علي إخطاءه في حقها!! فالمرجعية الحصرية لهذه الجماعة، هي البقاء في الحكم، أما الكيفية فمتروكة للظروف وإتجاه الرياح، أي يستقيم لديها توظيف كل شئ، سواء أكان ديني او دنيوي، ولها في فقه الضرورة وطبع الدساتير المجانية كالعملة الورقية التضخمية، لإغراق سوق السياسة، مُتسع من الحيل! بهذا المعني، ليس المقصود بالتحديد محاكمة أولئك الكتاب والصحفيين، ولكن المراد من هذه المهازل، إرسال رسالة للصحافة والكتاب، أن هنالك هامش للكتابة، يُمثل تخطيه، نفاد لصبر النظام، وجحود لنعمة منحه هذا الهامش! وبالطبع المقصود بالهامش، حصر الكتابة والإهتمامات الصحفية، في أشياء هامشية او قضايا تهم النظام او تحافظ علي شكل تماسكه وتسليط الأضواء علي إنجازاته!! وبكلام آخر عدم التعرض للقضايا الأساسية التي تمس الشعب، وتعني الجمهور، وهي بالطبع وبالأصل تمر عبر تركيزها، علي عدم شرعية السلطة الحاكمة، وضرورة التغيير، والتوجه لبناء نظام ديمقراطي حقيقي، يحترم إرادة الشعب ورغباته، ومحاسبة أمراء الحروب والفساد، مُحاكمات حقيقية، تبدأ بإرجاع الأموال المنهوبة منهم ومن ذويهم، حتي لو إستدعي ذلك تتبع مساراتها في الخارج! وإتاحت الحريات العامة بما فيها حرية التعبير والكلام والنشر، في حدود القانون المُتفق عليه والمصادق عليه من قبل البرلمان المنتخب وفق رغبة الشعب. وإعادة الإحترام والتقدير للكفاءات والمؤسسية، وتسليمها مفاتيح الإدارة، لتنظيم شؤون الوطن والمجتمع، وبكلام واضح تصفية دولة الحزب الواحد، ورفض الإستبداد بكل ملحقاته وأغطيته، والقطع نهائيا مع مخرجاته وفظائعه، وإخراجه ليس من جهاز الدولة وإجهزتها فقط! وإنما من عقول ونفوس كافة المواطنين. بوصفه حالة مرضية، وعامل تأخُر يمنع التقدم الي الأمام، وعامل إعاقة للتحرر من رق الحاجة والخوف واليأس والإحباط! ودون ذلك يصبح الحديث عن التغيير او الإصلام، مجرد لغو وإهدار للفرص وضياع للزمن! ولا يخدم إلا قلة فاسدة! ومستعدة لتحطيم البلاد وتشريد العباد، في سبيل بقاءها اللأشرعي في السلطة! وهذه القضايا التي تمس هواجس المجتمع، أحسن من يعبر عنها، هم هولاء الكتاب الذين يحاكمون الآن! وهم بفعلهم هذا يشوشون علي حالة الطُمأنينة الكاذبة التي إستكانة لها النظام! ويضعونه أمام أخطاءه وغدره بالبلاد وشعبها وإنتهاء أجله. وتحوله من عبء ثقيل كتم أنفاس البلاد لعدة عقود! الي عبء لا يُحتمل ويشكل إستمراره خطورة علي سلامة البلاد، او قدرتها علي الوقوف علي رجليها من أول وجديد! لذلك يجب إرسال تحية خاصة لأولئك الكتاب وهم لا يواجهون جهاز الأمن ومحاكم الطوارئ فقط! ولكنهم يطعنون في شرعية هذا النظام المستبد بمؤسساته وأجهزته المنحازة بغباء، ويضعونه أمام تناقضاته، ومفارقته لقيم الحق ومقتضيات العدالة، والإستحقاق لقيادة البلاد، ويعرونه من ورقة التوت(هامش حريات ودساتير وبرلمانات وغيرها من الهرطقات)، التي يتغطي بها ويستر بها عوراته غير القابلة للستر!! والأهم أنهم يتصدون لحالة الإستبداد نفسها، أي يكسرون حلقتها الصلبة، المبنية علي نشر الخوف وتعميم الجبن، وتقسيم الطائفة المقهورة(الشعب)، وشغلها بالفتن والصراعات، او حرفها عن قضاياها الأصلية، وهي مطالب الكرامة والحرية والعدالة والمشاركة والتنمية المتوازنة المستدامة. وبقول واحد، رد هولاء الصحفيون الإعتبار لقيمة الإنسان السوداني وحقوقه وهويته، واعلنوا بصراحة وصرخة داوية، عن وجود هذا المواطن الغائب عن المُخيلة الحكومية، والملغي من معادلة السلطة والسيادة والكرامة! وبكلام آخر، انهم بمواقفهم هذه ومواجهتم لغباء السلطة وغدر النظام، يسهمون في رفع حالة الغبن المُستحقة تجاه النظام. ومعلوم أن الغبن والغضب والإحتقار عوامل لابد من توافرها، للتصدي بجدية لوضع حد لهذا النظام بصفة خاصة، وللقطع مع الإستبداد برموزه وقوانينه وثقافته وتجسيده للشر المطلق، بصورة عامة! وذلك برفضهم له ولممارساته، وإشهارهم بطلانه ولا شرعيته في وجهه، عبر الكتابة أولاً وفضيحة المُحاكمات الجائرة ثانيا، وشجاعة المواجهة، التي تعني رد الكرامة للشعب بإعتبارهم خيرة أبناءه ثالثا. ورابعا لتدشينهم إمكانية مواجهة الإستبداد ومنازلته في كل الساحات، وإلحاق الهزيمة النكراء به وتخليص الأرض من شروره، أي فتح باب الأمل للخلاص، وإستعادة المبادرة والحركة لبناء، وطن متواضع يحترم أبناءه، ويعيد إحترامهم لذاتهم ولبلادهم. والخلاصة، أنه لا حلول وسط فيما يخص الحرية الصحفية، فصحافة بلا حرية، تعني كلام بدون مضمون، أي كلام(ساكت) او فقاقيع خبرية، لا تقوي علي الصمود، أمام تناقضات الواقع، وإحترام العقل ووخذ الضمير. وتتحول الي مجرد تهويمات فكرية، وضبابية سياسية، وفبركة إعلامية، لمشاريع تنموية وعمرانية فاشلة ومعطوبة، وموجهة المردود والعائد، لقلة متحكمة وفاسدة! ومحاولات مستميتة ومحكوم عليها بالفشل، لتغيير فسيخ الواقع الي شربات كما في المثل الشائع! أي صحافة مشوهة وعاجزة عن مواكبة الأحداث، وحمل مشاعل التنوير وادوات التغيير، المُساعدة علي تحسين شروط الواقع، لخدمة المواطن الموجهة إليه الكلمة أساسا. وتاليا تتحول من خط الهجوم الأول لمواجهة الإستبداد، المُهمش لدورها والناكر لوظيفتها والمُهين لمهنيتها والمُعادي لوجودها! الي خط الدفاع الأول عنه، اي تتحالف مع عدوها التاريخي والوجودي، مما يعني هزيمة نفسها وخيانتها لذاتها وواجبها. بتغيِّبها للجمهور عن حقائق واقعه، وحرفه عن مسيرة نضاله للخلاص عن من الكابوس الإستبدادي. وفي هذه الحالة فعدمها أرحم لها ولشعبها، رغما عن أنها أصبحت جزء من أدوات العصر التي لا يمكن الإستغناء عنها!! خارج النص داخل القلب شمعة ضد الظلام في عز عصر الإنقاذ، او عصر الإنحطاط والتدهور والفتن الهوجاء، عصر الغدر بالدولة والتنمية والإنسان، عصر شُح الفضائل المجتمعية، وسقوط القيم الخيرة من شاهق، ودق عنقها، علي أرض واقعٍ مشبع بالأنانية والفردانية، وإنحسار الإنشغال بالهم العام والقضايا الكبري، وإنجرافهما تحت وقع سيل الهموم الكاسح، وذلك ليس من سوء في التربية الوطنية، أو نقصان في المروءة والمشاعر الإنسانية، حاشا وكلا! ولكنها عقبات المعايِّش الشاهقة، وضغط الظروف الحارق، والزمان الممحوق، باللهث والجري والطيران، خلف أساسيات الحياة، التي لا يستقيم من دونها عود مصلوب، او نفس طالع ونازل، او عافية تحرك البدن المُنهك في رحلة عذابه السيزيفية! وسط هذا الظلام الحالك، ومن جوف حصار العدم، أطلت بدرا يُعاند زحام الليالي، ويروض وحوش الظلام، ويترجم للأرض لُغة السلام عزف الأنام، ويفرض علي الزمن المعاكس، الوقوف والإنحناء! إجلالا وإحتراما، لهيبة طلتها، وسحر بسمتها، ونور عينيها. يا أنتِ يا من خرجتِ، من هذا الركام والخراب ومن أعماق رحم المستحيل، في كامل هندامك وبهاءك. يا من أخذتِ من السرة بت عوض الكريم، الكبرياء وروح الصمود، ومن أمونة سر وصفة صبر السنين، ومن نورة رائحة الطين وخصوبة جروف النيل، كأنك معجونة من طينة العطاء، الما بتعرف غير تدي الخير وطعم النماء، وتبعث البسمة في شفاه جففها الأسي، وغدر بنضرتها الزمان الموشح بالبكاء. ورينا كيف غالطتِ زمانك الغلط، وتحديتِ قانون جاذبية الأنا، ووقفتِ براك من غير سلاح من غير زاد او حتي كلمة عوافي في وجه الرياح؟! كيف عاكستِ خط سير رغبات زمانك، وكسرتِ بخاطر الخوف المعشعش في النفوس، وتقبلتِ الآخر الخطر بكل كِيّفْ وإرتياح. يا من خجلنا في حضرتك، طالت بجيتك كل الرقاب، وأديتينا إحساس بالأمان، يا مُقيمة جوانا إحترام. يا من نستمد منكِ نُبل الخيرين، زاد الطريق، نغم الوطن، لحن الحصاد، دفء الوفاء، فرحة الغائبين سنين. ما عندنا ليك غير شكرا جزيلا، يا وطن كل الطيابة، والمنتظرين فجر الزمن الجميل سنين! هذه الإنسانة ليست خاطرة جانحة، او أسطورة من وحي الخيال، لطالما تفننت الشعوب، في خلقها وتضخيمها وتنشيطها، في المخيلة الجمعية، وحمَّلتها رغباتها ومخاوفها وعجزها، وكل ما من شأنه، أن يمنحها الطُمأنينة، ويربطها بماضيها الزاهي، او كمعين للعظة والإعتبار بل والإفتخار! ولكنها إمرأة سودانية(مية المية). ردت للمرأة السودانية قيمتها ونكهتها الخاصة، ومكانتها العالية والمرجوة منها، كساعد قوي وحنين، يبني للوطن، ويقيم أسس المجتمع المتين المُعافي، بالبصيرة والحكمة والمواقف المُشرفة! دون شعارات او(شمارات) او مكياج وألوان مزورة، وبهارج وهمية! او إجتياز لمقاييس قناة النيل الأزرق، للإطلال علي الجمهور، المُنتصب إنتشاء لمُعانقة الشاشة البلورية! وإحتمال مرد ذلك يعود، للتهميش المُركب الذي تعاني منه المرأة السودانية، أي سيادة قيم الذكورة وضغها من جانب، ومن الجانب الآخر كونهن سودانيات هامشيات داخل فضاء عربي قاهر ومسيطر ومتعالِ، يحركه وعي العرق واللون، وطاقة الدماء والنسب، وهاجس الفخر والتفوق الأجوف! ولكن إذا صح ذلك كيف نجت هذه الإنسانة من ذاك الحصار!! لأ اعرفها معرفة شخصية، ولكن عبر صديق إحتك بها، وأخبرني عنها، وما يلي ما فهمته منه. فهي تعمل في أحد مراكز غسيل الكلي، بأحد ولايات السودان الطرفية. ومن خلال عملها، لا تشعر أنها تؤدي في عمل روتيني، او تعمل بإخلاصٍ وتفانٍ، كشأن بعض المجتهدين، أصحاب الأيادي الخضراء والنيات البيضاء، ولكنها تعمل كعاشق ولهان، او فنان متفانِ في صنعته، ويستمتع بمداعبة ريشته، او كقديس يلقي قداس، وهو شديد الإخلاص لتخليص العباد من الخطايا، وإرشادهم سبيل الرشاد! فهي تقابلك بإبتسامة لا يهزمها شئ او ينال من عزيمتها موقف، لا خوف المرضي ولا إنزعاج المرافقين، او طبيعة عملها المضني للجسد والمشاعر! فهي من خلال سلاح الإبتسامة لو جاز التعبير، تنزع عن المريض الخوف والهلع، الملازم لهكذا نوع من الأمراض، وتجعله يتعامل معه كأمر إعتيادي، يمكنه التعايش معه، وممارسة حياته برفقته. أي تجعله يتقبل المرض بنفس راضية، وكآلية لمحو الذنوب وتطهير النفس الإنسانية، من أدران الخطيئة التي لا تخطئها! ومن حسن حظها او حظ المرضي او المرافقين، فقد إختصها الله بالقبول والقدرة الفذة علي الإقناع وبث الطُمأنينة في نفوس كل من حولها، ورغم كل ذلك تتحدث عن أهمية إختصاصي العلاج النفسي، ودوره الهام في حالة الإصابة، بهذا النوع من الأمراض، حمي الله الجميع، أي تحفظ حق الآخرين وأهمية دورهم. وكما قال تشعر وأنت داخل وحدة الغسيل وكأنك أمام مجموعة من الأصدقاء والمعارف، رغم التباين في الأعمار والأجناس، فتجدهم يتناقشون ويتآنسون ويتغالطون كالعادة! وكل ذلك تحت رقابة وعناية ضابط الإيقاع، هذه الإنسانة الفريدة، متعها الله بالصحة والعافية وسرَّاها في الدارين. وأكد لي أن هذا الدور العظيم الذي تقوم به، يمتد حتي الي أهلها ووقت راحتها، فهي علي إستعدد للرد علي الإتصالات وتقديم النصائح، في أي وقت ودونما شعور بالضيق او التبرم، او القيام بردة فعل، تُشعر المتصل بأنه سبب لها أي نوع من الإزعاج! وفي نفس الوقت هي علي إستعداد لتوظيف معارفها وعلاقاتها، لتقديم المساعدة عندما تتعذر عليها داخل المركز. والأجمل من ذلك، أنها لا تنتظر شكر من أحد، او تكريم من أي جهة، او مجرد معرفة أسمها او مكانها. وما يشغل بالها ليس حقوقها المهضومة او حوافزها البسيطة المُهدرة، أوغيرها مما يشغل بال وتركيز كل العاملين بالدولة او لدي القطاع الخاص، وهو جزء من حقوقهم. ولكن ما يشغل بالها حقيقية، هو زيادة مراكز الكلي، وتوفير الدعم والصيانة لمعداتها العاملة وتوفير بدائلها. خاصة وأن هنالك أعداد متزايدة من المرضي، لا يجدون مراكز او ماكينات تستوعبهم! وتخفف آلامهم وتمنحهم متسع من الحياة! وتمنع تسرب أعمارهم من بين أيديهم وأيدي أسرهم، وهم عاجزون عن فعل شئ!! وبالتأكيد لا يمكن وصف حال هولاء المرضي، المحكوم عليهم بالإعدام، وهم أحياء يرزقون!! فقط بسبب قلة المال، والذي لم تتح الفرصة لهم أساسا ليجمعوه! هل بعد هذه الحالة، التي تسعي بيننا وأمام ناظرينا، يمكن الحديث عن أولويات الصرف عند الحكومة او الوطنية او غيرها من القضايا والإهتمامات! لمن يملك ولو دولار واحد او جنيه، فائض عن أساسياته، ولم يقدمه لهولاء المحكوم عليهم بالإعدام، من غير ذنب جنوه! ولكن المؤكد أن أرواحهم، تظل دينا في رقابنا جميعا، حكومة ومعارضة ومحايدين. ولتكن هذه المناسبة فرصة أخيرة، للتنظيم والتحرك الفوري، لمد يد العون لهذه الشريحة المنسية المهملة، وللتنبيه بالدور العظيم الذي تقوم به هذه المراكز، وتقديم صوت شكر لكل القائمين علي أمرها، عملا وتخطيطا وإستقطابا للدعم. ولا خير فينا إن لم نقف بجانبها وندعمها ونواصل رعايتها حتي تقوم بدورها كاملا، ولا خير في مالٍ او وطنيةٍ لم يكن فيهما لمثل هذه الحالات نصيب!! المهم موقفها هذا يذكرني بشخصية، نالت إحترام العالم وما زالت، والفارق بينهما، قد يكون في الإمكانيات وقوة الإرادة والظروف المحيطة لكليهما، والمقصود هنري دونانت المؤسس الفعلي لمُنظمة الصليب الأحمر، وقبل أن تُبادر بنعتي، بالمبالغة في تقدير الأمور!! وإحتمال وجود أكثر من هنري، في كل مكان وعلي مدار التاريخ، ولكن أكتمال شروط بروزه او فرض وجوده علي اللحظة التاريخية المحددة، هي ما مكنته من الظهور والإقامة بصورة دائمة، في سجلات الخلود! المقصود هنا بالتحديد العامل المشترك بينهما كما أظن! وهو رغبتهما الصادقة في مد يد العون للغير، لدرجة نسيان النفس، وإهمال أدق خصوصياتها وحاجتها الأساسية! لذلك يمكن إعتبارهما دراويش في محراب الإنسانية، وبالطبع المقصود المعني الإيجابي للدروشة، أي التفاني والتلاشي او الذوبان في المحبوب او المشاغل! [email protected]