الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    محسن سيد: اعدادنا يسير بصورة جيدة للقاء انتر نواكشوط    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أكتوبر الأخضر والواقع الأغبر..!
نشر في الراكوبة يوم 02 - 11 - 2013


بسم الله الرحمن الرحيم
تمُر علينا ذكري أُكتوبر هذا العام بطعمٍ خاص، وطقس مُغاير للسنين السابقة، خاصة والشعب يُعيد إنتاج مواقفه البطولية، ورغبته الصادقة في الخلاص من ربقة الإستبداد وحياة الذُل والمهانة والإكراه! التي فُرضت عليه بقوة السلاح والإرهاب الديني والتطبيع مع العنف بكل أشكاله وألوانه! والتي في مُجملها تلغي معني الحياة، وتحولها الي مجرد فعل آلي خالٍ من المُتعة والإبداع وتحقيق الذات الفردية والجماعية. فثورة أكتوبر لم تكن فعل بطولي، يحكي عن شجاعة وبسالة شعب عظيم فقط! ولكنها كانت تعبير صريح عن عشق فطري للحرية، وإعلان صارخ لرفض تدخل المؤسسة العسكرية في شؤون الحكم، وطريقة إدارتها للبلاد بنهجها العسكري الفج المُفلس. بمعني أنها عبرت بصراحة مُطلقة عن رغبتها في حُكم ديمُقراطي مؤسس، تكون الكلمة النهائية فيه للشعب، صاحب الوجعة والمصلحة، في تحديد الطريقة التي تدار بها شؤونه وتؤدي بها وأجباته وحقوقه. وبكلام آخر إنَّ قيام المؤسسة العسكرية عبر بعض أتباعها وتواطؤ البعض الآخر بالإنقلاب الغادر، لا يُمثل عمل سيئ وخطأ لا يُغتفر فقط! ولكن الأخطر من ذلك أنهُ يُجرد العملية السياسية من حيويتها وتشاركيتها وفاعليتها ومسؤوليتها، ويقفل الباب أمام أي فرص لمراكمة خبراتها وتطورها وإنطلاقها. وهذا إذا لم يرجع بالبلاد الي الوراء قهقريا عشرات السنين، ليكتشف في النهاية خطل فعله وبوار محصوله. وهذا إذا لم يُجْبِر الشعب علي الخروج والعصيان والتعبير عن غضبه المحتقن، عبر الثورة والخروج الي الطرقات، كما حدث أعلاه. ليصل صوته ورأيه الصريح، الذي مُنع طوال فترة السيطرة القهرية من الخروج الي العلن، بعد أن تغولت عليه الأجهزة الأمنية والإعلامية وترسانة الحماية وشبكات المصالح المُلتفة حول السلطة العسكرية/الإستبدادية. وجميعُها لا تتقن سوي نسج الأكاذيب وتزوير الإرادة والمواقف الجماهيرية، وتعديل الإنتقادات علي قلتها ضد الأفعال الإجرامية ، لتصل الي أعلي الجهات وهي خالية من الشوائب والممارسات الخاطئة! وهذا لا يعني أن الجهات المُسيطرة علي زمام الإمور او القيادة الحاكمة لا تعلم بسوء الحال او خطورة المآل( لأنها إذا لم تعلم فهذه كارثة، وإذا علمت وهو المُرجح، فهُنا الكارثة أعظم وهذا للأسف عين الواقع ولب الحاصل)، ولكنها (تتغابي العرفة!) أي تُصر علي العيش خارج زمان الحقيقة الفاضح، في غيبوبة او كبسولة تحجب عنها بؤس الواقع وظلام الحاصل، في خداع مَرضِي للذات وللآخر، وفي حقيقته لا يفعل شئ، سوي تحويل الأخطاء الي كوارث، تؤدي بالبلاد والعباد الي الهلاك.
وثورة أكتوبر كفعل سلمي مدني إضطلعت به القوي السياسية والمدنية، وجرَّت إليه بقية قطاعات الشعب، من أجل إحداث التغيير، قد لا يكون صناعة سودانية خالصة، كما فهمت من مقال مُميز للدكتور عبدالله علي إبراهيم، فقد سبقتنا الي ذلك شعوب أخري وتجارب عديدة في التاريخ الإنساني، وفي هذا المقام لا يمكن نسيان الدور العجائبي الذي قام به المهاتما غاندي، رائد التغيير السلمي واللأعنفي في التاريخ الحديث. ورغما عن الفوارق العديدة بين الشعوب، وتباين مراحل تطورها، وطبيعة الخصوم الذين ينازلونهم، ونوعية النخب التي تقود عملية التغيير، إلا أنني أعتقد أنَّ أكبر رافد لهذا النوع من المبادرات السلمية، تمتد جذوره للتربية الروحية المُستمدة من تعظيم قيمة التسامح بين البشر، سواء أكان مصدرها الديانات السماوية(المسيحية والصوفية علي وجه التحديد) او الإعتقادات الأرضية ذات الطبيعة القدسية( وهذا لا يمنع أن هنالك تواصل او تبادل بينها، حتي ولو بطريقة غير واعية او غير مُعترف بها! علي الأقل علي مستوي الإعتقاد بقوي أعلي وذات سيطرة مطلقة). ولكن ميِّزة أكتوبر في توقيتها، مُنتصف الستينيات، التي تزامنت مع تفشي الإنقلابات العسكرية، لدرجة تحوُّلها الي ظاهرة وسمت الوجود البشري في هذه المنطقة من العالم، الذي يؤثر ويتأثر ببعضه البعض! إضافة الي صعود الإيدويولوجيات ووعودها الحالمة، بملء الأرض عدلا ومشاركة وتوزيعا للإنتاج، بعد أن مُلأت جورا وإقطاعا وإستغلالا للجماهير، لصالح بعض الملوك وأفراد يدعون العصمة الدينية والدنيوية والصفوية، لحيازتهم مقدرات فذة ومواهب خاصة، إختصوا بها دون العالمين! المهم أن توقيت الثورة ومكانها في قلب أفريقيا او الدول النامية وبالأصح المحكومة عسكريا وأسريا وإستبداديا. مثَّل حالة شاذة او دوران عكس عقارب التاريخ الذي حكم هذه البقعة من العالم. وبتعبير آخر أنها مثَّلت تحدي للمُستحيل، ورد عملي علي قوة الشعوب، وقدرتها علي إنجاز أهدافها، عندما تتكاتف وتتوحد تجاه هدف محدد. بمعني، إن أهم أسباب إستمرار الأنظمة العسكرية/الإستبدادية، هو تشتيتها للجماهير وإحداث الفرقة بينها واللعب علي تناقضاتها وإختلافاتها، وحرمانها من حقها الإنتظام في أشكال سياسية او مدنية تُعبر عنها وتدافع عن حقها، إضافة الي حرفها عن أهدافها الحقيقية في الكرامة والحرية والتنمية والأمان. وذلك عن طريق فرضها وتسويقها لفرضية مغلوطة، وهي مقايضة الحرية والكرامة بمشاريع تنموية(وهمية) وإستقرار(كاذب)، وكأنهما لا يجتمعان، كم هو حادث لدي شعوب ومجتمعات أخري حي تُرزق بيننا، ومفتوحة تجاربها للتعلُم المجاني، لبقية شعوب الأرض. وأكبر دليل علي بطلان هذه الفرضية، هو الخسران المبين لكل تلك الوعود، سواء أكانت تنمية او إستقرار، لكل تلك التجارب الكارثية دون إستثناء! ويظهر الغرض المُبيَّت من كل تلك الدعايات والوعود المعسولة بصورة جلية وواضحة كفلق الصباح، وهو تحصين الحكم وإستدامة إمتيازاته بين أيدي تلك الطُغمة المستبدة. والتي بمرور الزمن تتحول من جماعات او أفراد، لهم طموحات جشعة ورغبات أنانية وينعدم لديهم الإحساس بالمسؤولية! الي منظومة متكاملة تُحدث إنقلابا خطيرا، سواء علي المستوي القيمي او المادي للمجتمع. أي تحول المجتمع من مجتمع مفتوح، يمتلك إحتمالات التقدم والتطور، إذا ما إكتسب المعرفة وتحلي بالعزيمة والإصرار وحافظ علي الحرية والكرامة. الي مُجتمع مُغلق مقهور مسلوب الإرادة، وقاصر لا يتحرك إلا بالإشارة، ويترك أعبائه ومسؤولياته، لمجموعة مجرمين مجردين من الإنسانية، او حتي مجرد الإحساس بالمجتمع وهمومه! بمعني أنه تحدث نوع من القطيعة بين المجتمع والسلطة الحاكمة، لكل منهما همومه ومشاغله المختلفة! ولا يلغي ذلك تأثير أخطاء وكوارث السلطة علي المجتمع! أي ينعدم التواصل وتكامل الأدوار والهمّ المُشترك والتعلم والإستفادة من بعضهم البعض، بل تتم التضحية حتي بالإحترام المُتبادل، كعربون ثقة يمنح الشرعية ويعين علي الإستقرار! وبقول واحد يتم البحث عن الخلاص الفردي، علي مستوي الأفراد والمجتمع والسلطة، بمعني إن الخلاص الفردي يصبح هو الآلية التي تحكم الدولة والمجتمع والأفراد! وبالوصول الي هذه المرحلة، لا معني للحديث عن تدهور أخلاقي او تردي إقتصادي او إنغلاق و إنحطاط سياسي او الرقص علي حافة الهاوية للدولة ككل!
لكل ذلك تُمثل ثورة أكتوبر ثورة عظيمة، تستحق كل التقريظ الذي كيل لها، والأشعار التي أتت من وحيها وعبرت عنها، وإحساس الفخار والأعتزاز الذي ينتاب ليس السودانيين فقط، وإنما كل الديمقراطيين وعشاق الحرية في كل فجاج الأرض. ولثورة أكتوبر أهميات عدة يصعُب حصرها، ولكن أهمها علي الإطلاق عاملان أساسيان، اولهما هو إرسالة رسالة واضحة لكل النظم المستبدة، أن حبل الإستبداد قصير، وأن ليلها لابد زائل، لحتمية الصباح وصحة الصاح. وهذا لوحده كفيل بإرسال الرعب، في الخواء والفراغ الإستبداي الذي يسكن نفوس وعقول المستبدين ويغض مضجعهم(ويتمظهر ذلك بوضوح في إهتمامهم الوسواسي المرضي بوسائل حمايتهم وإجزالها العطايا بغير حدود)، لذلك تجدهم أكثر حساسية وكراهية لمثل تلك الذكري!(وهذا لا يمنع أنهم يحاولون بطريقة كاريكاتورية فجة، أن يقنعوا أنفسهم والآخرين بأنهم إمتدد لتلك الثورات العظيمة"كنموذج الإنقاذ"! وهذا لوحده يمثل أحد علامات الإنفصام الكبري، التي تُصيب المستبدين خاصة، وبنية الإستبداد بصفة عامة، بوصفها بنية غير عقلانية "جمع المُتناقضات والتعايش معها، بسبب رهاب الخوف او المُعانَّة من الخوف العصابي" وتاليا غير راشدة وغير إنسانية. والعامل الآخر هو إرسال رسالة تطمينية وتشجعية للشعوب في كل بقاع الأرض، بأنها قادرة علي التغيير ووضع حد للإستبداد والمستبدين، وأن المبادرة بيدها بإستمرار وليس بأيدي الأنظمة المُستبدة( لأن وجودها طارئ وضد الفطرة البشرية وتقدم الحياة), وبجملة واحدة، الكلمة النهائية بيد الشعوب، إذا ما تخلصت من حاجز الخوف والرهبة، اللذان صنعهما ورعاهما الإستبداد، وإستثمر فيهما كل راسماله المادي والرمزي! وكذلك إيمانها الصارم القاطع الصلب، بحقها الكامل في الحرية والكرامة والتنمية الشاملة، في كل حين وأوان، والغير منقوصة لأي سبب من الأسباب أو تؤجل لأي حجة من الحجج! ومجمل ذلك يمثل السلاح الماضي والمضمون النتائج، لتحقيقها أهدافها وتحسينها لحاضرها وتجميلها لمستقبلها ومستقبل ابناءها. بمعني أن ترفض الشعوب أنصاف الحلول سواء القبول بمشاريع تنموية دعائية ممولة عبر الديون، او إستقرار شكلاني ومفروض بقوة السلاح والصرف البذخي علي المحاسيب، وشراء ذمم الضباط والجنود وطبقة فاسدة من المدنيين والمهنيين، بأموال ومناصب لا يستحقونها وغير مؤهلين سلفا لتسنمها، لضعف قدراتهم وتشوه بنيتهم النفسية او الإجتماعية او الإقتصادية، ولإنعدام الحس السياسي المستقيم في تكوينهم، الميال لهولاء المستبدين. فالمُستبد لا يعيِّنهُ ويدافع عنهُ إلا مستبد مثله!!
ولكن هذا الإعجاب المُستحق بثورة أكتوبر، يجب ألا يشوش علي منظار النقد الموضوعي، الذي يجب أن يطالها ويُبرز نقاط ضعفها وقوتها، كفعل إنساني غير مُنزَّه عن الأخطاء، ويحتاج لإعادة النظر والتمحيص بإستمرار، حتي لا يجرفنا تيار التضخيم للمنجزات، عن رؤية العوائق في المسار، لأنه يجرف معه كل الأخطاء والمنقصات ويغطي عليها، لتتراكم دون معالجة(كقفل الجرح بأوساخه وصديده) مما يُنذر بفساد الجسد وضياع كل مجهود الثورة هباءً منثورا، بحجة أن ذلك ليس وقته، وأنه فعل القصد منه التخذيل والإنتقاص من مجاهدات الأبطال وقدر الرجال ويخدم الإستبداد، خاصة وثورة أكتوبر لها أكثر من أب وبطل وتنظيم، يحتكر لنفسه الإنجاز(لأنه إذا صح ذلك لقام به لوحده ومنذ امد بعيد دون إنتظار آخرين قد يشاركونه الإنتصار، والأهم إمتلاكه لهذه الخاصية باستمرار اي إستحالة وجود إستبداد في ظل وجوده، إلا إذا تحول هو نفسه الي مستبد او مشارك فيه او صامت شيطاني عليه!)، وتاليا يستحق قطف ثمارها لوحده. وكان نتيجة لكل ذلك التقاعس أن أنعكس تاليا، في عدم صمود التجربة الديمقراطية الممهورة بالدم والتضحيات، للممارسة العملية الحارقة والضنك التربوي لقيمها والصبر علي شدائدها حتي تؤتي أُكلها بنجاح.
المقصود مما ذُكر أعلاه، إن الثورة ليست غاية في حد ذاتها، او ربطة عنق أنيقة تتباهي بها الشعوب. ولكن الثورة وبعيدا عن (القطع بالراي) هي في حقيقتها، رفض للسابق او المُثار عليه(الإستبداد)، أي هي فعل رفض وتغيير في آن، بمعني أنها تغيير وتجديد لأنماط وأساليب السلطة الحاكمة والفضاء الفكري والسياسي والمجتمعي والإقتصادي ...الخ، وتخطي لكل أخطاء السلطة المستبدة وكورارثها وآليات عملها، وبكلمة واحدة إقتلاع لبيئة الإستبداد من جذورها، والتأسيس لمنظومة جديدة تقطع مع الإستبداد، وتجترح أوضاع جديدة تملك إمكانيات أكبر للنهوض وأفق أوسع للتلاقِ والإنتظام، سواء علي مستوي المشاركة الشعبية او علي مستوي إبتكار حلول للمشاكل، أقل تكلفة وأعظم عائد وأكثر ديمومة، وأقدر علي عبور كل التشكيلات المجتمعية بمختلف تطلعاتها وهواجسها، والتعبير عنها في نفس الوقت. وبكلام آخر إن الثورة نفي للخصوصية السلطوية الإمتيازية، وحضور للعمومية والشعبية، وفتح السلطة والمجتمع والدولة أمام الجميع علي قدم المساواة، أي تحرير للمنافسة العادلة وتحريم للتحيُزات الحزبية والدينية والعرقية، والمحصلة إتاحت الفرصة للطاقات الكامنة في المجتمع وللإفراد للتعبير عن نفسها، لتُبرز أقصي ما لديها من جهد وإبداع ، والذي يكافئ ما تستحقه من مردود، مع حفظ حق الآخرين كدول ومجتمعات، بعيدا عن التفاخر الكاذب والإدعاء الأجوف بالريادة والسيادة (دون نتائج تذكر علي الأرض!)، وغيرها من الأوهام التي تعيشها كثير من الشعوب المقهورة، والتي تعوض فشلها وعجزها، بمجموعة من الشعارات الكلامية الإعلامية، التي لا تساوي لقمة في فم جائع او جرعة ماء في جوف عطشان او قطرة دواء لمريض يشارف علي الهلاك! وبكلام محدد، ثورة لا تملك مشروع تغيير شامل، وأدوات عملية لتنفيذ ذلك المشروع، وإرادة حقيقية للوصول به الي الغايات المرجوة، فهي مجرد غضبة عاطفية نتائجها أكثر خطورة علي تماسك المجتمع وسلامة الدولة، من النظام المستبد نفسه!! وفي هذا المعني، فثورة أكتوبر وما تلاها أثبتت أن الفاعليِّن السياسيين أقدر علي الفعل المعارض ونقد الدكتاتوريات بل وإسقاطها! ولكنهم عاجزون عن بناء توافقات سياسية، تستصحب مخاوف وطموحات، المشاركين في العملية السياسية والمحايدين وأهل الهامش. وأهمية التوافقات السياسية أنها تخلق أرضية الإستقرار الثابتة، التي تتحمل البناء السياسي والسلطوي والتنظيمي القابل للنمو والنضوج، بعني أنها تخلصهُ من شرور الإنقلابات وتربُصات الناقميِّن! وبقول مُغاير إن محاولة جني الثمار وإحتكار الإنتصار، أو تقديم المنافع التنظيمية والشخصية، كأولولية الحكم وإمتيازاته، علي عملية البناء الشاقة والمُجهدة للدولة المستقرة، والتي تحتاج للبذل والعطاء والتضحية ونكران الذات، أكثر من الأخذ وإنتظار الأجر وحيازة المغانم، وهو الشئ الذي حكم الفترة التي أعقبت ليس ثورة أكتوبر فقط! ولكن ثورة أبريل المباركة كذلك! ويمكن أن يُعيد نفسه بعد ذهاب هذه الحكومة الفاشلة الحائرة، إذا لم توضع الإحتياطات الكفيلة بمعالجة هذه الإشكالية، التي تُمثِل كعب أخيل الثورات السودانية بإمتياز!! ويصح أن هنالك أسباب موضوعية أدت الي هذه النتائج السالبة، من ضمنها الطغيان الإستبدادي وإكتساحه لكل مفاصل الحياة، ووضع بصمته عليها، ومن ضمنها بالطبع الممارسة والوعي الديمقراطي، كحامل للتجربة السياسية الفعَّالة، ذات المردرد الجيد. ولكن ذلك لا ينفي أن جزء من الإشكالية أسبابها ذاتية تطال، البنية الطائفية لبعض التنظيمات، وكذلك الأحزاب الحديثة ذات النزعة الإيدويولوجية الراديكالية، التي لا تؤمن بالتدرج ومراعاة ظروف تطور المجتمع أو تعقيد محتوياته،وتاليا إحتياجاته ومخاوفه، أي القفز علي الحقائق، بنفيها او بفرض حقائق بديلة وزائفة تستجيب لرغباتهم وفي الحقيقة مصالحهم!!( والإيدويولوجية كوعي خلاصي، تمثل هي نفسها اول عتبات الإستبداد او البنية الصلبة التي يرتكز عليها، وتمنحه مشروعية وأخلاقية زائفتان، تعملان علي كبح جماح أي إمكانية لتبصيره او رؤيته لأخطائه!! او لا يتحملان أي نقد يجرح كرامة مثاليته!!)، والسبب في ذلك يعود للنخبوية المخترقة لكل التشكيلات السياسية، وتطال مُجمل التجربة السياسية الحديثة، وبالأصح منذ بدء التعليم الحديث، او مدارس إنتاج الأفندية الجدد!! وهي نفس الفترة الي تؤرخ لبداية نهاية التراتبية الإجتماعية، القائمة علي النشاط الزراعي والرعوي او الحياة البسيطة، والتي إنعقدت فيها الريادة او المراكز المتقدمة للإدارة الأهلية وللعمد والمشايخ او أصحاب الأطيان والقطعان.( والمقصود بالنخبوية إحساس بالتميُّز والتفوق، لا يُبرر الإشباع السلطوي والمادي والإجتماعي فقط! ولكنه يحولها الي مطلب حياتي ودين مستحق من الدولة والمجتمع، يجب الوفاء به طوعاً او عنفاً! أي بدلا من توظيف تلك المواهب والقدرات لخدمة المجتمع والدولة ككل، بإعتبارهما أصحاب الفضل في تنميتها ورعايتها وإبرازها الي الوجود، او علي الأقل كرابطة وجدانية بالوطن كالأمومة مثلا، يتم تحويلها الي آليات لجلب المنافع الخاصة فقط!! ولا بأس من تقديم بعض الدعومات المادية والمقالات الصحفية والعبارات التشجعية الإنشائية، كمساهمة في الشأن العام، القصد منها بالطبع المَنْ والتفضُل! او كنوع من المجاملة الوطنية!! وبهذا فالنخبوية لم تكن يوما من الأيام أداة تغيير كما يُفهم ويُتطلب منها، علي إعتبار ما إكتسبته من معارف وخبرات عملية وإحتكاكات خارجية! بل العكس هو الصحيح، فقد مثلت عقبة او عبء ثقيل علي أي مشاريع تغيير، وذلك إما بتكريسها للعادات الإجتماعية والإقتصادية السيئة " التفاخر بالمباني والعربات وغيرها وكذلك الصرف البذخي علي المناسبات الإجتماعية، داخل مجتمع جله فقراء ويعشق التقليد" او بتأييدها للنظم الإستبدادية صراحة عبر المشاركة فيها، اومدارة عبر المعارضة الواهنة لها، أي نخبة لها قابلية عالية للتدجين! او بإنصرافها عن العملية السياسية جملة وتفصيلا، وإعطاء إنطباع سلبي عنها لدي العامة، إما بإلصاق صفة القذارة بها او تصويرها كفعل عبثي ومضيعة للزمن والمستقبل المهني المرموق! وبقول واحد النخبوية ضد التواضع والهمّ بالمجتمع والصبر عليه والأخذ بيده برفق الي التغيير والتطور!).
وعلي الرغم من أن النظم العسكرية الإستبدادية، هي واحدة في بنيتها وتصوارتها للحكم وإدارتها للمجتمعات، وفي عنادها وفوقيتها وجهلها وأستهتارها بحقوق الإنسان، وخُلاصاتها الكارثية علي كل المستويات السياسية الإجتماعية الإقتصادية...الخ، إلا أن ذلك لا يمنع أن هنالك إختلاف في الدرجة تجمع بينها، سواء أكان في المجموعة المسيطرة او في دوافعها، بمعني أن بعضها دوافعه كانت بُناءً علي تصورات خاطئة، نتيجة لضعفهم السياسي وإنحسار وعيهم بشؤون السلطة وفنون الحكم وأهمية الحريات، وكيفية إدارة المجتمعات بكفاءة والتأسيس لتنمية حقيقية ومستدامة. ويمكن أن يندرج تحت هذا التصنيف نظام عبود. وبعضها الآخر يستند علي إيدويولوجيات تفرض ثقلها علي الجماعة الإنقلابية المُسيطرة، وهي لا تتورع عن فعل أي شئ، في سبيل إنفاذ قراراتها وفرض رؤيتها، والتي في خُلاصتها تتبع مصالحها لو بصورة ماكرة! وهذا النموذج هو الأخطر والأكثر قدرة علي إحداث الدمار الهائل، الذي يطال المجتمعات والدول، التي يرميها حظها العاثر أمامها! وأصدق مثال له هو حكومة الإنقاذ الحالية. بتعبير آخر إذا كان هُنالك سبب وأحد للثورة علي حكومة الجنرال عبود، فلحكومة الجنرال البشير اللاإنقاذية، مئات الأسباب المُتشعبة للثورة عليها، وإجتثاثها من جذورها لتطهير الأرض من شرورها، ولإيقاف عجلة إستمرار حكمها، والتي تعني التدمير المُمنهج لأسس الدولة وإنتظام المجتمع وتماسك مكوناته. أي إذا كان الجنرال عبود وزمرته، توهموا أنهم يخدمون البلاد بفعلهم الإنقلابي الأخرق!! فحكومة البشير/ الجبهة الإسلامية، تعمدت الإضرار بالبلاد عن سبق إصرار وترصد!! أي وهي تعلم بتعقيد مكونات البلاد، وتعدد مللها وعقائدها، والتفاوت التنموي والثقافي بين أجزاءها، ورغما عن ذلك أصرت علي تطبيق برامج آحادي ضيِّق ومُتزَمت، خالٍ من الرحمة والمنفعة العامة! مما أدي لتقسيم البلاد، وإدخالها في نفق مظلم من الأزمات المتلاحقة علي كل المستويات، بل ويُنذر بالإنهيار الوشيك لكل البلاد وذهاب ريحها، وتحوُّلها الي مجموعة كيانات مستقلة عن بعضها البعض، و لا يحكُمها إلا قانون الإحتراب الأهلي بكل مآسيه. والمؤسف أنه علي الرغم من وضوح الرؤية، عن طريق التجريب والممارسة وليس التنظير فقط! عن بوار برامج و مشاريع هذه الحكومة، وعن وعود الخراب التي تعدنا بها. وبعد الأكلاف الباهظة من الأرواح والثروات وإلتصاق التأخر والتخلف بنا وبمصيرنا وبمستقبلنا! نجدها مُصرة علي الإمساك بزمام الإمور لوحدها، دون مشاركة أحد او الإستماع لصوت العقل وضمير الوطن والمصلحة العامة. والأكثر أسفا أن نجد بعد كل هذه الكوارث من يُدافع عنها او يجد لها المُبرارت، او يستحي من تقديم النصح والنقد الصريح لها، بل الأعجب أن هُنالك من يُطالب بإعطائها فرصة أخري، لتجريب المجرب وتخريب المخرب. والمضحك والمحزن في آن! أن هنالك مَنْ يُنادي مِن داخلها، بأن له رؤية إصلاحية وضمير حي وخُلق قويم(قمة الإستهبال والإستغفال والضحك علي الشعب، وكأنه لا يوجد غيرهم في هذه البلاد يملك مواهب وقدرات وخُلق)، وكأن الخراب يقوي علي إنتاج شئ آخر سوي الخراب. فالواقع الفاقع المُر، يحكي بلسان عملي مُعاش ومُبين عن إن الخراب لا يلد إلا الخراب!!
فدعوات كهذه غير أنها جائرة وظالمة ولا تستقيم مع أسس العدالة، وعلي رأسها المحاسبة للمُخطئين في حق دولهم وشعوبهم، ونصرة المظلومين وتعويضهم عن ما لحق بهم من ضرر!! فهي تحرم الدول والشعوب من إفراز أفضل ما عندها، وإبراز أكثر عناصرها مقدرة علي إدارتها، وبصيرة في توجيه شعوبها الوجهة الصحيحة، التي لا تعني خلاص الأجيال الحاضرة، من هذا السقوط الداوي والضياع اللامتناهي فقط! ولكنها تفتح كوة ضوء في جدار هذا الواقع المُظلم لتنفذ منها أجيال المستقبل، التي لم ترتكب أخطاء او تظلم أحد، لنورثها كل هذا الشقاء والعناء، ونهدر حقها في أن تعيش حياة ذات جدوي. لأن ذلك لا يمثل تقصير من قبل أجيال الحاضر في تغيير أوضاعها، وتقاعس عن تحسين شروط حياتها فقط! ولكنه لعمري يمثل جريمة لا تُغتفر في حق الأجيال القادمة، وفق أي شرعة مقبولة او منطق سوي!
وليس بعيدا عن الموضوع، فقد كتب السيد الصادق المهدي كتابات جيدة عن ثورة أكتوبر، ووثق للحظات هامة في مسار الثورة، بما فيها دوره الشخصي، وهذا يشجعنا علي إعادة طرح دعوة وجهت للسيد الصادق المهدي كثيرا، وهي أن يعتزل العمل السياسي، وينتصر علي هوي النفس وتبريرات المقربين والمستفدين من إستمراره! بأن تقدم العمر لا يعني الكثير وأن المحك هو القدرة علي العطاء! وهذا قول حق يُراد به تدفق المصالح الخاصة علي حساب الحزب والدولة! ويتوجه نحو التوثيق لرحلة حياته بصفة خاصة، والتركيز علي المساهمات الفكرية و القضايا السياسية بصفة عامة(لأن ركاب سرجين وقيع، ناهيك عن سبعة سروج) فالأفضل له وللحزب وللوطن في هذه المرحلة الحرجة، أن يركب سرج الفكر والتوثيق! وإذا صَعُبَ عليه ذلك، يُمكنه بعد الإعتزال أن يُكوَّن مع غيره من كبارت الحزب المعتزلين، تكوين لجنة حكماء، تقدم النُصح للحزب في كل القضايا، علي أن تكون نصائحهم غير مُلزمة ولا تأخذ أي صفة قانونية او شرعية حزبية، وإنما منصب تشريفي يحترم مجاهداتهم السابقة ويستفيد من خبراتهم ويؤسس لقيمة الإحترام الحزبية لكل صاحب عطاء ثر وتضحيات جليلة. لأن هذا المسلك الإعتزالي، يُقدم نموذج لأدب الإستقالة طال إنتظاره! والذي يتفق مع السلوك الديمُقراطي الذي يدعو له السيد الصادق المهدي، علي الاقل لسن سنة إستقالية حسنة، او لتخليص أدب الإستقالة من منقصة الشعور بقلة الكفاءة والمقدرة، والدفع به نحو إيثار الآخر، او أقلاه الإيمان بحتمية تعاقب الأجيال وترك المساحة للآخر، الذي قد يقدم مجهود أكبر ورؤية أفضل، وفي نفس الوقت يجبرهُ علي تقديم افضل ما عنده وتجويد صنعته، وإلا سيجد نفسه وقد تخطاه الآخرون، وتاليا يُجبر علي المغادرة بإحسان كسلفه وهكذا دوليك. ولكن يظل الأهم من كل ذلك، إفتكاك حزب الأمة من قبضة وتغول آل المهدي بصورة مادية او رمزية، اي تحرير حزب الأمة من المهدوية العائلية، ليتوجه بثقة نحو نيل جدارة الإنشغال بالقضايا الوطنية المجردة وهموم الجماهير، بمعني أن يتخفف من عبء الحقوق التاريخية للمهدوية، وإحتكار البطولة والبسالة، وكأن المهدي قاتل لوحده، مما يستوجب إمتلاك سلالته للبلاد مدي الحياة! لأن الحق يجب أن يُكتسب من خلال إقناع الجماهير، وجذبها للإنضمام للحزب طوعاً، عبر تقديم برامج واقعية وطموحة، وآليات تنفيذ ممكنة ومتاحة، لتعديل الواقع المائل، ولإستشراف مستقبل أكثر إشراق. أي أن يشتبك الحزب مع مشاكل الجمهور، ويحاول إجتراح مقاربات تساهم في حلها، مع الإلتزام بالضوابط الوطنية والسياسية التي تحدد مجري الفعل السياسي الشرعي، وقنوات المساهمة الوطنية المستقيمة، أي الإلتزام بالدستور المتوافق عليه مع الآخرين لتنظيم العملية السياسية. وكبداية تدريجية لهذه الخطوة الجريئة يُمكن أن يتنازل السيد الصادق المهدي، لإبنته الدكتورة مريم عن منصب الرئاسة، علي أن تتقيَّد بلوائح الحزب طوال مدة رئاستها، التي لن يتم تجديدها مرة أخري(مرحلة إنتقالية حزبية من أجل أعادة التأسيس او التنظيم)، ويُراعي في ذلك التأسيس أن تُرد الثقة والفاعلية لجميع اعضاء الحزب، كما يُرد الإعتبار لمسألة التقيُّد باللوائح والنظم الداخلية الحزبية وعلي رأسها مسألة تداول الرئاسة، وأن يتمتع من يشغل هذا المنصب بكل المواصفات القيادية، التي لن يتم إكتشافها او إكتسابها إلا بمزيد من المنافسة الداخلية الحُرة، أي أن يعمل الحزب كمنظومة متناسقة الأداء، كل فرد فيها له دور وواجبات محددة! وبكلام آخر أن يمتنع الحزب علي الإبتلاع، لصالح أطماع رئاسية اوقيادية او روح إستبدادية، حتي ولو تلبست أزياء ديمقراطية مُزركشة الألوان وتُبهر الأنظار! وفي هذا الإتجاه لا يُمكن لشخص ينادي بالديمقراطية، ويفخر برئاسته للوزراء او لحكومة منتخبة ديمُقراطيا، أن يظل رئيسا للحزب منذ ثورة أكتوبر او ما يقاربها زمانيا وحتي الآن، والي إشعار آخر لا يبدو أنه يلوح في الأفق القريب!! دون أن يطرف له جفن ثوري او رمش تجديدي أو تؤرقه خاطرة ديمُقراطية! علي الرغم من معادة هذا المسلك للنهج القويم والسلوك الديمقراطي السليم، وإنخراطه بكلياته في المنحي الإستبدادي، والنهج الأبوي الوصائي. بمعني هل مُتطلبات القيم الديمُقراطية، مُرتبطة بمسألة السلطة والرئاسة والحكم حصريا، أم أنها تطال حتي المعارضة في جميع حركاتها وسكاناتها وممارساتها، بل يُفترض أن تقدم المعارضة النموذج الأمثل في الممارسة الديمقراطية التي تنادي بها، حتي تُقدم بيان بالعمل للسلطة العسكرية/الإستبدادية من جانب، وللشعب من الجانب الآخر، أنها تملك مشروع ديمقراطي بديل، يحمل وعد الخلاص والحرية والكرامة والمشاركة، والقابلية للإنطلاق الي الأمام وتجاوز عقبات الحاضر، والأهم له القدرة علي إبدال بيئة اليأس كأحد نتائج الحكم الأستبدادي او متلازمة الإستبداد، الي بيئة أكثر أمل ووعود خيرة، لأنهما يمثلان أكبر داعم لبذل الجهد والعمل دون إنقطاع، وبحماس وهمَّة عالية، تُعينان علي تحقيق الأهداف، وإلحاق الهزيمة النكراء بالمستحيل، كوهم يسكُن الشعوب العاجزة او ربيبة الإستبداد!! وأعتقد أن ما يخُص السيد الصادق المهدي، في موضوع المغادرة والرحيل، أسهل مقارنة بمولانا السيد محمد عثمان الميرغني، فالسيد الصادق قد يجد السلوي والعزاء او المخرج في تناوله للقضايا السياسية من خلال الكتابة او المشاركة الإعلامية والحوارية او الإنشغال بالنواحي الفكرية بصفة عامة توثيقا ومجادلة. ولكن أين سيجد مولانا الميرغني مخرجه! وقد إنتهي عهد(الفتت)!! فمن أبطأ به كده المعرفي وجهده السياسي ومواقفه البطولية عند الصعاب والملمات، لم يسرع به نسبه، حتي ولو إتصل بالدوحة النبوية الشريفة!
كلمة أخيرة
كُلما أُشاهد إبن السيد الصادق المهدي عبدالرحمن وغيره من المنشقين من أحزابهم والمنتمين لهذه العصابة، بسبب الهوي السلطوي وإرضاء لمآرب خاصة، عجزوا عن إدراكها عبر القنوات الرسمية والشرعية. وهم يتصدرون القنوات الفضائية والوسائط الإعلامية واللقاءات الجماهيرية، ويرفعون عقيرتهم ويضغطون علي الكلمات التي لا تسعفهم، وهم يدافعون بإستماتة عن نظام البشير/الإسلاموي/الإنقاذوي/الإفلاسوي، أشعر أنهم يُمثلون أكبر إهانة للمواقف السياسية المبدئية(حتي لو إدعوا أنهم يعملون من الداخل لصالح أحزبهم، فبئس الإسلوب السياسي الذي يتبعونه، لأنه يهدر أهم قيم الأداء السياسي الناضج وهما الوضوح والإلتزام)، وأنهم بفعلهم هذا يرسلون رسالة واضحة مفادها، أن التجربة السياسية السودانية، عبارة عن تهريج سياسي، وعرض مسرحي عبثي (بايخ) ومُمل! وليست عملية جادة تنحو نحو ترقية المجتمع وتطوير البلاد. ولا حول ولا قوة إلا بالله!
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.