كنت أود عنونة هذه المقالة ب(إنسان حسين خوجلي)، على غرار تصنيف علماء الأنثربلوجيا ل(إنسان جاوة). وكنت أعتقد أن هذا العنوان يلخص مشروع حسين خوجلي العاطفي، الذي يبشر به صباح ومساء، ويملأ به مسامع الناس وبصرهم، وذلك منذ أن شبَّ في الكتابة، لغاية أن شاب فيها؛ لكنني عدّلت كلمات العنوان، حين أدركت أن حسين خوجلي يعتمد، حديثاً، قيمتي القبح والجمال كمعيارين لتولي مناصب في الشأن العام. بل، حتى في لعب كرة القدم!!. فقلت: ماله، فلنجرب نقدنا ولو بعنوان مقالة، فلت مصادفة من شعر درويش. مع اعتذاري من الاستدراك، إلا أنني سأستدرك مجدداً، وأشير إلى أن هذه المقالة لا تعتني ببرنامج حسين خوجلي التلفزيوني الذي يشغل الناس هذه الأيام، بقدر ما أنها تتابع كتاباته في صحيفة ألوان، ويكفينا أن حسين يذكرنا بحسين فقط، حين يكتب أو يتكلم. وكلا، كتاباته وبرامجه التلفزيونية، تشيران إلى أنهما محض ونسة، فلتت، بغفلة، من صيوان عزاء من (عزاءات) الطبقة الوسطى. ففيهما: البكاء هبطرش، وذكر الله بعاطفة هبطرش، وكذلك الضحك والقرقراب والمزحة هبطرش، وأيضاً، ترحمات على موتى لا تتغير إلا أسماؤهم. بل، يزيد حسين في الونسة مرات كثيرة، بكلام مغشوش وشيء من الأضغاث، لسواقة الناس من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، بغية " بناء سودان العزة والشموخ". وفي هذا الجهاد يحق لك أن تشتم الحكومة، وتختلف معها. لكن، بمقدار خلاف الفقهاء حول نواقض الوضوء. وهذه هي بضاعة حسين خوجلي التي يتكسب منها في تلفزيونه هذ الأيام، وعليك أن تشتريها حامداً شاكراً، وما في الجبة إلا (إنسان الشرفة). ينشط حسين خوجلي في كتاباته، بوعي منه أو بدونه، في التكريس لشخصية سودانية واحدة، ومعتمدة، هي التي عليها رك السودان داير ما يدور، وهي بمواصفاتها التي يستبطنها حسين، أو يستظهرها، أجدر من غيرها، مشكورة، على قيادة البلاد، ولها الرفعة والسؤدد، وكذلك مؤهلة لصياغة مصير غيرها من شركاء العيش في السودان. أما سوى هذه الشخصية المختارة فمحض (عينات) يعرف من خلالها جلال هذه الشخصية وسمتها، طبقاً لمقولة: "وبضدها تتميز الأشياء"، أو مفهوم حركة الميزان التقليدي " علو أياً من الكفتين يعني هبوط الأخرى". وتظهر هذه الشخصية (الحسينية)، لو يسعفني المصطلح، بسمات ذات جذور عربية، وتسكن وسط السودان، الجزيرة بتحديد دقيق، والبطانة بشكل أدق. يقول: "أتمنى أن يأتي اليوم الذي تنقرض فيه رطانات الحلفاويين والدناقلة والمساليت والزغاوة والهدندوة وتسود لغة الضاد الموحدة، فلسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين.. هذه معركة ذات نطع وغبار أطلقها في الهواء الطلق لصالح الثقافة المركزية، نعم معركة، فلقد سئمنا المقالات المسطحة التي لا تكسب الفكر عدواً ولا صديقاً.. نعم أتمنى سيادة العربية، ولعن الله أقواماً يحسدوننا على عطر الأماني". [ولأمسيات رمضان أحرف،11 أغسطس 2011]. ويظل الفضاء مفتوح لهذه الشخصية للإتصال بأم درمان كمركز للصقل النجيض. ولم يعودنا حسين، في كتاباته، على الخروج بهذه الشخصية من الرقعة الجغرافية الضيقة التي أرّخ لها؛ أحمد بن الحاج أبو علي؛ كاتب الشونة. والحق أن التضييق لجغرافية الشخصية ليس من عبقرية حسين خوجلي ولا يتفرد به. بل هو تصور جميع الإسلاميين بأن هذه الرقعة، وحسب، هيّ السودان ولا غيره. على كل حال، تتصل هذه الشخصية المختارة بالتعليم الحديث، لكنها تظل شخصية لرجل "ود قبائل"، محافظ على تقاليد البادية العربية: ركوب الجمال، والحلب، وقول ورواية شعر الدوبيت، والشجاعة بمفهومها الرعوي البدوي. وعادة ما تهاجر هذه الشخصية إلى بلاد "الفرنجة"، تمتح ما شاء لها القدر أن تمتح من التعليم و"الأوتوكيت"، ولا تنسى نصيبها من مباهج الدنيا التي تقدمها "فتيات النصارى". ثم تعود هذه الشخصية مغفور لها، لأنها شخصية مشحونة بجذوة "نيران التقابة وأصوات المآذن، ونداء الجامع والجماعة والجامعة وغمار الناس....". وسرعان ما يصبح صاحب هذه الشخصية وجيهاً في الأرض. ففي ".... ليلة مقلقة حاصرته نصيحة الأخ القديم فنهض كالملدوغ وأمسك بورقة وقلم وعدّد فيها فاتورة التزاماته الجديدة بأرقام برجوازية متسلطة". ثم غادر تحرسه بركات جده الذي أوقد نار القرآن وحارب الطليان وغازل الغزلان وسكن أم درمان، ودخل الجنان ونادم رضوان... الخ السجع العجيب. وغبّ ظهور هذا الصلاح الموروث يتم زواج هذه الشخصية من بنت لأسرة "ذات حسب ونسب" ويبني لها فيلا في أحياء الخرطوم الراقية ويجلب لها "الإستبرق والطنافس والسجاد العجمي" وتبدأ رحلة "... فواتير البيت الأول ومدارس الفرنجة للأبناء والسيارات السبع السمان ومنزل العروسة الجديدة وتطلعاتها وأسفارها وبيت التجميل الذي تؤسسه بالساونا والحمام المغربي، ومعدات الكوافير والثياب الخارجية والداخلية والأصباغ والحناء والعطور..... والقائمة تطول". أما في الجهة المقابلة لهذه الشخصية فلنقرأ مقتطف من [مرافعة فطّومة بت السلطان التي لم يقرأها دكتور السيسي في مؤتمر الدوحة، 20 نوفمبر 2012]. يقول: ".... أقبلت نحوها «عشوشة» صديقتها زوجة مؤذن المسجد وهي تبكي: «إتقدّري يا فطومة نمشي على شفخانة سوق ليبيا»، لم تُجب. عادت لها ذات النظرة النافذة القديمة: «هذا ليس بداء الأطباء يا عشوشة. هذا المرض إسمه إبَر الكلام وسُم الألسنة، وهو داء لا شفاء منه.. دسّت في يدها ورقة صغيرة تقول إفادتها بأن عم الأولاد (خفير بمزرعة) مُثمرة وغنّاء شرق النيل ل(أحد الكبار)، وعندما أكملت طبعت قُبلتيها على وجوه الصغار وأحسّت بأن يد عشوشة قد استمسكت بالوريقة. قرأت «الإخلاص» بصدق، وفي صوت خفيض أسلمت الروح، وفي ذات اللحظة ملأ أذان المغرب الفِجاج وانطلقت طيور المساء صوب الغرب وهُنّ يمارسن الرحيل الأبدي صوب بُحيرات الأسف التي تشقُّ في سريّة تامّة حوض الماء والدماء السرّي من الجنينة حتى وادي هور، غير عابئة بأزوم والنيل والعطبراوي والمؤامرة". وما في الجبة إلا أنسان الشرفة. [email protected]