لا أعرف الراحل "بهنس" عليه شآبيب الرحمة، إذ لم ألتقيه كفاحاً. لكني حزنت لموته الفاجع، وللحظة البهنسية التي تتلبس حياتنا بقوة.. حزنت كحزن المفجوع على رفاق دفنوا بالجملة في مقبرة جماعية، ولا أقصد بذلك المبالغة في التشاؤم، لأنه ربما يحدث ذلك في أي وقت، وربما حدث بالفعل لسودانيين غيري، دفنوا رفاقهم جماعات جماعات. وإجمالاً، يبدو المشهد في الحالة السودانية أشبه ما يكون بإعادة متعمدة لمسرح الرعب الذي انتجه، بامتياز، الكاتب الأسباني فرناندو أرابال: تستيقظ الأرض فجر كل يوم، وتفتح باطنها لمزيد من الموتى. وشاءت الحبكة الواقعية أن يكونوا سودانيين هذه المرة.. لقد مثل عندي موت "بهنس" والطريقة التي رحل بها التراجيديا الأكثر قتامة، ووضعني على خواء المستقبل وبؤس الأثر الحيواني المسمى "الإنسان السوداني". إذ يموت السوداني، داخل وطنه وخارجه، بطرق قاسية، ومتعددة، ولو لا مشقة الظن لقلت إنها طرق متعمدة. يحدث ذلك كما لو أن ملك الموت في رحلة تدريبية لإجادة كيف تحصد الأرواح! وكيف تنتزع بقسوة!!. وقد أفزعني نعي خطه الأستاذ الخاتم محمد المهدي (اسكاي نيوز) يحث فيه على تدارك أمر "بهنسات" كثر تنهشهم الغربة، وربما ينسربون إلى الموت من بين أصابع ولاة الأمر التي باتت فرجاتها واسعة، واسعة كخيال المجرم. كتب المهدي: " رحل "بهنس" كيفما رحل، لكن في القاهرة ألف "بهنس" آخر، يستوي صفهم أمام باب قطار بتأشيرة خروج بلا عودة". إن ميتة "بهنس" الفاجعة تمثل دلالة شاخصة على ضياع الشرط الوطني وهوانه، وتختزل، ببلاغة وفصاحة خاصتيْن، معنى الفقر الوطني والبلادة والإعياء الوجداني. إذ ليس الوطن، لذوي البصيرة، محض خريطة ترسم على ورق، ودفتر بلاستيكي للسفر، ونشيد وعلم. وفي خضم ضياع الشرط الوطني وهوانه سيظل "بهنس" ضحية، ضحية مهما اجترح من شغب، ومهما ارتاد من الأخطاء، بل إن سنينه القصيرة لم تسعفه لارتكاب المزيد من الخطايا التي كانت تليق به كشابٍ مهمل في وطنه، ومطرود من رحمته. وحريٌ باللحظة البهنسية أن تكيلنا بالرماد، وتستدعي فينا السؤال البدهي الطبيعي: ما بال كبار هذا البلد يصرون على تقلد أكاليل من العار؟ وما بال أنوفهم مزكومة من استنشاق نتانتهم التي أصبحت مشمومة حتى على سطح القمر؟ وما بالهم يتنكبون الطريق للدرجة التي أساء فيها "بهنس" ورفاقه ورفيقاته الظن بالوطن، والوطنية والمواطنة، وببلاد اسمها السودان؟ وساقهم سوء الظن لإزدراء قدراتهم المهولة، فضربوا في التيه لا يلوون على شيء! فغدا سيان لديهم بعزقة العمر: مُضامين في الوطن، ومُشردين خارجه!! لما تنطوي عليه الجغرافيتيْن من مهانةٍ ونتانةٍ ويأسٍ وعبث. وقد نقلت دولتهم، بالذات، وشم سلطتها الجربندية من أجسادهم ونقص حياتهم، إلى أرواحهم، وحصدتها بالمرة، لأن نقص الحياة لم يعد كافياً كي يمارس عمر البشير سيادته الفارغة المزعومة. وأمام هذا لم يتبق لرفاق "بهنس" من الشباب والشابات غير المزيد من الخطوات الخطأ في التوقيت الخطأ، وذلك بالبحث عن خلاص فردي بعيداً عن الديار، وفي عز سنوات الشباب البكر غير المرشد، ومن هنا فقط دخل "بهنس" إلى عالم موته الرخيص، وسيدخل الملايين من الشباب بعده، بموت أرخص، وسيدخلون إلى الخلاص الفردي الوخيم، لا محالة، لأن صفاقة إحتكار الوطن تتطلب إستكانة من الضحية، أو هروب. وستستمر الصفاقة لأننا سلّمنا بها بدرجات، ولم نعارضها بقوة كما ينبغي!. وحتى يضيع ما تبقى من العمر سدى، هيا لنغني كاذبين، كلما أطلّ يناير: اليوم نرفع راية استقلالنا. أما "بهنس" وأنداده ومحنتهم، فليس لهم إعراب في خطاب الاستقلال، ولا في نشيده الرسمي، لأنهما نشيد ماسخ غير طروب، وخطاب مقطوع الصلة بالواقع، وأشبه ما يكون بالموسيقى التصويرية النشاز، لعمل درامي ركيك وباهت. أو قل بإطمئنان: نكتة بايخة مكرورة، لا يطرب لها "بهنس" ورفاقه. [email protected]