محمد حسين "بهنس" الخاتم محمد المهدي رئيس تحرير تنفيذي اسكاى نيوز عربية - ابوظبى موت الناس لأسباب شتى يحزن الأقربين والأحبة، وتشيعهم طيب الدعوات أو ذارف الدموع. ذلك موت طبيعي، وواقعي، ومعتاد. كلنا سنموت، بالسيف أو بغيره. لكن بهنس اختار لموته طقساً عاصفاً سميناه "أليكسا"، وسماه هو قطار الرحيل الأخير. طوى في جوف صقيعه ناحل عظامه، وكوّر في زمهريره نضوه العليل وقلقه المديد، واتكأ على حزنه الخاص، ثم مضى. رقد مجهولاً على منضدة المشرحة لأيام.. ثم انفجرت فجيعته الفاضحة. سمته الأضابير الرسمية محمد حسين، وعرفناه بشهرته الفريدة: "بهنس". ثلاثة وأربعون عاماً فقط، أشعلها باللوحات والشعر والموسيقى والكتابة، ومحبة الناس. روايته "راحيل" في نحول السيف وحدته الساطعة، أوقدت جذل النقاد بميلاد طيب صالح- في سمت طيبين وصالحين كثر ومتواترين- وموعد على شط بحر من الإبداع لا قاع له، ولا منتهى. حين أرهقته مؤونة السنين الكالحة من الحزن على الأم والزوجة وفلذة الكبد، وأضجرته بذاءة العسس ولؤم الناس، استدبر الخرطوم وأهلها، وخصف نعله بخيط الرحيل.. إلى مصر جاء، وفيها تكاثف حزنه، واستغلق عليه من القلق ما يرهق الجبال. والقلق صنو "بهنس" منذ طلبنا العلم في الجامعة. قلق مجيد وفنان ومرهق. يحكي عنه من عايشوه في السنين الأخيرة أنه كان يهيم بالطرقات وتولع بهذا، ويرفض البقاء في بيت يؤويه وإن ألحف المضيف بالرجاء. لكن "بهنس" مات باختياره- هكذا قالوا- على رصيف بارد في ليل أليكسا وبرده الذي أحال القاهرة بملايينها وصخبها ومائج بشرها إلى مدينة أشباح. مات "بهنس" ليلة فضيحتنا متجمداً على أرصفة القاهرة، في شارع اسمه الإهمال، ينتهي عند ميدان اسمه الأنانية، على ناصية التشاغل. رحيل "بهنس"، باختياره أو بميقات ربه، يفتح باب فضيحتنا على اتساع الفجيعة. فالسودان كله منشغل بحكومة غيرها حاكمها وما استبدل. منشغل عن طاقة إبداع هائلة. منشغل عن شباب يحيك القمر في منسج الخيال، ويستولد الألوان تصاوير باهرة، ويغني، ويكتب، ويرقص، ويحتفي بالحياة حتى يمجها. منشغل بدوامة موت تقضم الأعمار في غرب البلد وجنوبه الجديد، وجنوبه الذي كان.. برصاص الشرطة في نهار الاحتجاج على غلاء المعيشة.. منشغل بلهفة العيش في وطن طارد. وفي غمرة انشغاله يتساقط المبدعون من ثقوب الذاكرة، حتى إذا استوى موتهم فضيحة في عرض الأطلسي وعمقه، ثاب إليهم ناعيهم يبكي من رحل. رحل "بهنس" كيفما رحل، لكن في القاهرة ألف "بهنس" آخر، يستوي صفهم أمام باب قطار بتأشيرة خروج بلا عودة. لست أنعي "بهنس".. لكني أغني معه للراحلين، ومنهم برسم الانتظار: أهديك الفوضى شجار طفلين في ساحة روضة أهديك الغربة