" يا مناقيش العدالة بتنا فوق الصبر عالة ! يا تعاوذينا وعَزَانا ... خلي نور الفرحة يطفُرْ بين عوينات الحزاني صخرة الأحزان تقيلة ... واحنا ما بنملِكْ سِوانَا ... قولي هيلا هُوب معانا ... من علي الشارع نشيله وسكة العمر الطويلة ... ترتي في الجايين ورانا ! " ... - حميد - الأصل في المراجعة ليس التجريم أو تشويه السمعة والإدانة ، فالمبدأ في مراجعة الحسابات هو تبيان مواطن الخلل وتثبيت أنماط ومبادئ حسابية سليمة يهتدي بها في العمل الحسابي وتطويره . وقد درجت العادة في كل دول العالم تقريبا ، ماعدا تلك الموبوءة أصلا بالفساد والانحرافات ، أن تقوم المؤسسات الحكومية والخاصة والشركات وكل الأنشطة التجارية والصناعية والزراعية وحتي مؤسسات الأفراد ، أن تطلب وتلح في طلب المراجعة المتخصصة لتقوم بالمراجعة وتحرير تقرير بما قامت به من مراجعات يحتوي علي بيانات واضحة وصحيحة بأوجه الإيرادات والمنصرفات ، وتحديد نقاط الضعف والخلل ، إن وجد ، ومواضع سير الأداء سلبا كان أو إيجابا . هكذا تطمئن القلوب وتتوحد المفاهيم والخطط صوب العمل المعني ، فتسير الحياة في تلك المؤسسات بصورة طبيعة تزداد وتائر نجاحها يوما بعد يوم وترتقي لتصبح في إحراز النتائج الطيبة . يحدث هذا في العالم من حولنا ، لكننا ، هنا في البلد الذي يدعي السير بالنهج الإسلامي ، فالأمر جد مختلف ويدعو للسخرية المرة . إذ " تتهرب " بعضا كثيرا من الوزارات والمصالح الحكومية وشبه الحكومية والمؤسسات العامة والخاصة من أجراء المراجعة السنوية لحساباتها ! والمدهش أن المراجع العام – الذي تقوم الإنقاذ منذ استيلاءها علي السلطة لما يقارب ربع القرن – بتعيينه ، ظل يشير بجلاء ووضوح في تقريره السنوي لمواضع فساد وإفساد علي أعلي مستوي ، يعرض تقريره أمام البرلمان ، ويقرأ فيه ويكون الفساد هو جوهر تلك المداولات وينفض مجلس البرلمان ويحفظ التقرير حتي يأتوا بغيره في العام التالي ، فلم نشهد أن مسئولا واحدا تعرض للمساءلة القانونية أو تعرض للمحاكمة من أي نوع ، والمحامي العام للدولة – الذي عادة ما يكون من محاسيب النظام – لا يحركه هذا القدر المهول من الفساد والتجاوزات وإهدار المال العام ، ولما كان الفهم الشائع أن المراجعة تسعي للتجريم وتشويه السمعة فقد شرعت كل تلك الجهات تسعي السعي كله لتكون بمأمن من المراجعة ، حتي وهي في سمتها الإنقاذي يخشونها ! كنا ، في عام مضي ، قد شاهدنا كيف ثار وغضب أسامة سيد السدود والكهرباء حين جاء في تقرير المراجع أن " دولته " قد تجاوزت القوانين المالية فجنبت الكثير من الأموال بعيدا عن عين المراقبة ، وقد بلغ به الأمر ، يومذاك ، إلي الإعلان في مؤتمر صحفي عقده إلي التشكيك في مصداقية تقريرالمراجع العام ، بل ذهب ليقول أن النائب الأول للرئيس – علي عثمان وقتها – قد زار " دولته " قبل نحو أسبوع وأشاد بالأداء والتطور الذي بلغته ، وتساءل ساخرا من التقرير " كيف يكون هنالك فساد وتجاوزات وهذا هو النائب الأول يشيد بنا ؟ " ، فتأملوا ! مناسبة هذا الحديث أن " شركة سكر كنانة المحدودة " قد نشرت تصريحا صحفيا يوم الخميس 16/1/2013 بمساحة نصف صفحة علي جريدة " آخر لحظة " تقول مقدمته بالحرف : ( جاء في تقرير المراجع العام لحكومة السودان أمام المجلس الوطني وفق ما تناقلته وسائط الإعلام بالأمس : " أن شركة سكر كنانة المحدودة رفضت الخضوع للمراجعة بواسطة الديوان " . أن الموضوع كما ورد ليس بهذه البساطة ، وكأن كنانة شركة متمردة أو رافضة للمراجعة ، ولكن للموضوع خلفيات وتحكمه اتفاقيات ونظم وتاريخ كما يلي : ... ) . تلك كانت المقدمة لما سيأتي من توضيح للأمر من قبل الشركة ، وهي معلومات مهمة أستفدت شخصيا جدا منها ، حيث لم يكن لي علم بتفاصيل هذه الاتفاقيات كما وردت في تصريح الشركة . تقول " كنانة " في تصريحها الصحفي في أهم بنود تصريحها : - كنانة ليست شركة أو وحدة حكومية ، بل شركة خاصة مسجلة تحت قانون الشركات لعام 1925. - حكومة السودان مساهم في كنانة بجانب دولة الكويت وحكومة المملكة العربية السعودية وشركات الاستثمار العربي مثل الشركة العربية للاستثمار والهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي ، اضافة لمصرف التنمية الصناعية ومجموعة البنوك التجارية المحلية ( لم يحددها التصريح الصحفي ! : الكاتب ) . - المساهمون الكبار مثل حكومة الكويت ( 30% من الأسهم ) ، وحكومة المملكة العربية السعودية ( 12% ) ... ( تري هل هذا يعتبر سهما كبيرا ؟ : الكاتب ) ... ويمضي التصريح ليبين : ( ... لهم مشاركة محصنة في كنانة ( لم أفهم طبيعة ونوعية وقانونية هذه " الحصانة " القوية ! : الكاتب ) ، ولهم فيها ( أي في كنانة : الكاتب ) حقوق تشمل طريقة ادارة الشركة وتعيين المراجعين الخارجيين (!)* وغيرها . - بنود هذه الآتفاقيات تسود (!) علي بنود أية قوانين أو تشريعات لاحقة حماية لحقوقهم التي دخلوا بموجبها الاستثمار في كنانة . - أرتضي كل الشركاء ( ومن هم ؟ : الكاتب ) في كنانة بما فيهم حكومة السودان ( ليتنا نعرف من يمثلها : الكاتب ) ولفترة 38 عاما ( التصريح يركز كثيرا علي هذه الفترة لكأنها تجوز ما لا يجوز طالما كان هناك قبول منذ البداية ! : الكاتب ) طريقة مراجعة الشركة وفق نظامها الاساسي واتفاقيات المشاركة ، وذلك بتعيين مراجع خارجي أجنبي ( من مكاتب المراجعة الاربعة الكبار ) ومراجع سوداني ليعملا بالتضامن لمراجعة حسابات الشركة )... انتهي التصريح في هذه الفقرة ، ولكننا نسأل : لم تحدد الشركة ، أيا ما كان نوعها ، نوعية وكيفية وشخصيات المراجعة ، أليس ذلك من شأنه أن يفتح نافذة للتساؤلات والغرابة في طبيعة النهج ذاته التي تنتهجه الشركة ؟ ثم ، لم الاستعانة أصلا بالمراجع الأجنبي ، وهناك مراجع عام محلي معترفا به ؟ ورغم أن تصريح كنانة يستند في تبريره بأن تلك رغبة ومشيئة الشركاء والمساهمين الكبار ، فأن ذلك – في ظني – لا يجوز ، هكذا بالمطلق ، هذا الأجراء الغريب ، ومعلوم في عالم اليوم كيف صارت " ذمم " العديد من المؤسسات المتخصصة سواء كانت مراجعة أو في حقول الصحة والأدوية وحتي الأكاديميات ، مسرحا واسعا للفساد والرشاوي و ... العمولات والاتعاب ، وفي كل الأحوال ، وأيا ما كان رأينا فيه ، فأن المراجع العام المحلي هو أفضل من كل هؤلاء ، وأن كانوا من " مكاتب المراجعة الاربعة الكبار " الذين لم يعرفنا بهم التصريح الصحفي لكنانة ... القضاء والمراجع العام والنائب العام والقوات النظامية هي رموز سيادة الدولة وعنوانها ، وتجاوزها – كما أظن – هو " ازدراء " واضح للسيادة الوطنية وعزة الوطن ! - يقول تصريح كنانة الصحفي أيضا : ( كنانة ظلت تتم مراجعتها وتقفل حساباتها الختامية بإنتظام ، وحتي حسابات 2013 تم مرجعتها وقفلها بالتضامن ما بين مكتب ارنست ويونج " العالمي " ، ومكتب مبارك العوض وشركاه " وطني " ، وتمت الموافقة عليها بواسطة مجلس الادارة . ) أنتهت الفقرة من التصريح . وللقارئ الوطني الكريم أن يندهش ، وله ، أيضا ، أن يسأل : إذا كان حال المراجعة يتم كما قال به التصريح للعام 2013 من مراجعة وقفل للحسابات بواسطة تلك المكاتب " العالمية " و " الوطنية " ، وبدت علي أفضل حال ، فلم التوجس ، وماذا يضير كنانة ومجلس ادارتها أن تخضع ، أيضا ، للمراجعة بواسطة المراجع العام المحلي / السوداني ؟ لكانت شهادته ستكون معززة للشهادات العالمية ولمكتب " مبارك الوطني للمراجعة " فتزداد أوسمة الثقة علي صدر كنانة العالي ! و ... المذهل المثير في تصريح كنانة ، هو " كم " التبرير الذي ساقوه ليدحضوا به قولا " صائبا " جدا وموضوعيا للمراجع العام السوداني الذي ذكر في متن تقريره العام لمراجعة الحسابات العامة لدولة السودان ، " أن شركة سكر كنانة رفضت الخضوم للمراجعة بواسطة الديوان " ، تلك هي المقولة الصحيحة التي قال بها تقرير المراجع العام ، فلم ترض كنانة عنها ، فدبجت التصريح الصحفي الذي ننقل عنه قولها ، تقول كنانة عن المراجعة والمراجع : ( أن ما يثار أن كنانة لم تخضع للمراجعة كلام غير دقيق وذلك لأن مراجعة كنانة تمت بواسطة المراجعين الذين عينتهم بالإجماع الجمعية العمومية صاحبة القرار (!) وليس حسب رغبة ديوان المراجع العام (!) ... ( لاحظوا " كلام غير دقيق " ، تقريبا ذات الدفع الذي قال به صاحب السدود في وصفه لتقرير المراجع " بعدم المصداقية " ، فتأملوا ! يقول التصريح أيضا في شأن مقولة تقرير المراجع العام : ( أن مطالبة ديوان المراجع العام بمراجعة حسابات كنانة وفق قانونه تم عرضها علي الشركاء في كنانة عبر اللجنة التنفيذية ومجلس الإدارة والجمعية العمومية ، وكان القرار رفض دخول الديوان (!) وتمسك الشركاء الكبار بحقهم الذي كفله لهم عقد التأسيس والنظام الأساسي واتفاقيات مشاركتهم في كنانة ... ) ، ولست أدري كيف لقانون الاستثمار عندنا أن يسمح للمستثمرين – المحليين أو الأجانب – أن يضعوا لهم قوانينا ولوائح ونظم اساس بمعزل عن القوانين القومية وفي مقدمتها قانون المراجع العام حد أن يقوموا بالمراجعة بمعزل عن المظلة السيادية والقانونية التي يتمتع بها المراجع العام للدولة ، كيف ؟ في الفقرة الأخيرة من التصريح الصحفي تقول كنانة بحسم : ( أن دخول ديوان المراجعة في مراجعة كنانة ينبغي (!) أن يتم وفق المؤسسية في الشركة ، وذلك عبر قنوات مجلس الادارة والجمعية العمومية وبإتفاق الشركاء لأن غير ذلك لن يتم (!) خاصة وأن لحكومات دولة الكويت والمملكة العربية السعودية قوانين للمراجعة العامة تعطيهم الحق كذلك (!) وهم ارتضوا النظام الحالي لأن الكل متساوين دون إستئثار شريك بحق مراجعة الشركة دون الآخرين ) . أنتهي ! تلك ، تقريبا ، كل النقاط الجوهرية التي جاءت في تصريح كنانة الصحفي ، وفي تقديري ، أن الأمر كله ينبغي النظر إليه من وجهة نظر القوانين القومية عندنا ، وبالذات قانون المراجع العام ، وهما الجهتان السياديتان اللذان " ينبغي " علي كل اللوائح ونظم الاساس وقرارات الجمعيات العمومية للمؤسسات والشركات ، العامة والخاصة ، العاملة في مجال الإستثمار الخضوع الكلي لها واحترامها حتي لانبدأ ، في هذه البرهة المؤلمة من تاريخ الوطن ، في الطعن وإثخان جسده العاري بالمزيد من الجراح النازفات ، حتي تصان البقية الباقية من هيبة وسيادة الوطن ... و... ماذا كان سيضير كنانة لو خضعت ، منذ البداية ، للمراجعة وفقا لقانون المراجع العام لا قوانينها هي بالذات ؟ وتبقي سؤال : تري كيف سيسير الأمر الآن وقد قالت كنانة قولها ، وماذا سيكون " رأي " المراجع العام والقوانين العاملة في هذا الحقل ، ورأي أهل القانون الشرفاء في سوداننا ؟ ننتظر قليلا لنري ، أو لربما لا نري ، فنكون ، كما يشاءون لنا ، في العماء وفي الحيرة ؟؟ِِ [email protected]