أعتاد بعض المسؤولين في هذا البلد أن يطلقوا تصريحات غير محسوبة إن لم نقل غير مسؤولة، يتناولون فيه بالتعليق بعض القضايا المهمة في الوطن في مختلف المجالات، وهي قضايا ذات حساسية، خاصة في ما يتعلق بمستقبل البلاد وثبات اقتصادها ومصالحها الحيوية والاستراتيجية، مما تسبب في أضرار بالغة في كثير من المجالات نتيجة لعدم الدقة والدراية والخبرة في تناول هذه المواضيع. سقت هذه المقدمة بعد أن قرأت قبل بضعة أيام تصريحات للأخ الدكتور الفاتح عز الدين رئيس لجنة الحسبة بالمجلس الوطني، يهدد فيها بعض الشركات الحكومية بإخضاع حساباتها للمراجعة، وهذا في حد ذاته أمر حميد، فقد ظلت الصحف وحملة الأقلام المعنيون بالشأن العام في بلادنا، يريقون الكثير من المداد في هذا الأمر بحسبانه استحقاقاً أساسياً لمعايير الشفافية والمحاسبة، لكن الغريب والمدهش حقاً أن رئيس لجنة الحسبة قد زجَّ بشركة سكر كنانة في زمرة الشركات الحكومية التي ظل كثير منها عصياً على المراجعة القانونية، وكأنها واحدة من تلك الشركات الحكومية المغمورة والمدسوسة، مهدداً بأقصى العقوبات. وهي شركة غير حكومية، وليست بالمغمورة أو المدسوسة. وأنا هنا لا أود أن أسيء الظن بالأخ الفاتح، ولكن هذه التصريحات يفسرها كثير من الناس بأن الغرض منها حجب الحقيقة عن بعض الشركات الحكومية التي ترفض الانصياع لمتطلبات المراجعة العامة، ولا تكترث لقرارات السلطة التنفيذية والرقابية، وتحويل الاهتمام عنها بهدف كبير في حجم صرح اقتصادي بارز مثل كنانة، وهي شركة عالمية متعددة الجنسيات تدير مشروعاً من أضخم مشاريع إنتاج السكر في أفريقيا وربما في العالم، وتعتبر نموذجاً باهراً في حسن الإنتاج والإدارة، ودرةً نضيدةً في حبات عقد التنمية في بلادنا، سارت على هديها معظم الشراكات التنموية والاقتصادية في المنطقة. كما أنني في هذا السياق لست بصدد الدفاع عن كنانة، غير أن الأمر استفزني بصفتي مواطنا مهموما بالشأن العام، وفي تقديري أن كنانة قادرة على الرد في هذا الصدد، برصيدها الوافر من النجاح في المعايير المختلفة مثل الإنتاج والتسويق والإدارة برؤية علمية، إلي جانب ثبات الأداء وتناميه واضطراده نحو الأمام، مما فتح الباب أمام قيام شركات أخرى لإنتاج السكر في بلادنا، بعد أن قدمت كنانة النموذج الجاذب في هذا المجال. وليس خافياً على أحد أن شركة سكر كنانة تلتزم نظاماً عالمياً صارماً ودقيقاً في المراجعة، وهي مثل الساعة السويسرية، وتتم مراجعة حساباتها منذ عام 1975م،أي قبل 36 عاماً بموجب اتفاق بين الشركاء الرئيسيين فيها، وهم بجانب حكومة السودان حكومة دولة الكويت وحكومة دولة المملكة العربية السعودية، والعديد من الشركات والهيئات التي تمتلكها الدول العربية مجتمعة. وهذا وضع ارتضاه الشركاء في تعاقد موثق بإعمال مبدأ الشفافية الكاملة، وحتى لا يستأثر مساهم أو يتغول على حقوق المساهمين الآخرين، لأنه بغير ذلك يمكن أيضاً لحكومة الكويت التي تمتلك 30% من أسهم الشركة أن تطالب بمثل ما تطالب به حكومة السودان، كما يفهم ضمناً تصريح رئيس لجنة الحسبة كذلك. ومن المفهوم والمعروف أن استقلالية شركة سكر كنانة تستمد مرجعيتها من واقع تسجيلها شركةً خاصةً تحت قانون الشركات لقانون 1925م، وهي استقلالية محصنة تماماً من تداخل أي من الشركاء. هذه الحقائق المستندة إلى الوثائق والاتفاقيات الدولية التي أفضت إلى قيام هذه المؤسسة العملاقة، كان من المفترض الإلمام التام بها واستيعابها قبل الإدلاء بحديث غير موفق وغير ودقيق، وقبل أن نرميها بالأحجار كما يرمي البعض أشجار النخيل الباسقة والمثمرة لعلهم ينالون نصيباً منها. ولمزيدٍ من الحقائق، من المهم أن نورد في هذا الحديث أن شركة كنانة لها مراجعان خارجيان وليس واحداً مثل بقية الشركات، مراجع خارجي وطني يتم اختياره من كبريات بيوت المراجعة الوطنية بعد تدقيق وتمحيص كبيرين، ومراجع خارجي أجنبي لا يخرج من مكاتب المراجعة العالمية الأربعة الكبار في العالم. وهذان المرجعان يعملان بالتضامن، وذلك لوضع الشركة الاستثنائي، وللوجود الأجنبي الكبير في مساهميها، ولإعطاء الشفافية والمصداقية المطلوبة تحت ظل معايير التحصين هذه. وحسابات الشركة كما يقول المسؤولون فيها يطلع عليها الممولون والجهات الخارجية العالمية ذات الصلة بالتحقق من معايير الشفافية المطلوبة. واستمر هذا الوضع طوال السنوات المتعاقبة وبموافقة حكومة السودان التي تقوم هي بنفسها مع الشركاء العرب باختيار المراجع الخارجي الأجنبي والمراجع الوطني. وحتى لو كانت هنالك نية بتعديل قانون المراجعة العامة، فإن القانون فيه ما يكفل ثبات واتزان أداء هذه المؤسسات الاستثمارية والتنموية العملاقة في إطار الحفاظ على المصلحة العامة للوطن والنأي بها عن القرارات الارتجالية. إن مثل هذه التصريحات تسبب ضرراً بليغاً لاقتصاد البلاد، وتزيد من معدل نفور المستثمر الأجنبي من الاستثمار في السودان. ونخشى أن نقول إن هذا المستثمر أصبح غير متحمس وربما كاره لأجواء الاستثمار في بلادنا، وذلك بسبب الفوضى والبيروقراطية الخانقة والديوانية القاتلة وتعدد الجهات والمعاكسات التي لا حصر لها. ولنا أن نتساءل في هذا السياق: لماذا هذا الحرص والتكالب على إطفاء الشموع التنموية المضيئة في بلادنا علي قلتها، بدلاً من الاستنارة بنورها ورعاية توهجها؟ فكنانة تعد في زمرة قلة من المشاريع التي تقف على أرجلها في السودان، والزج بها في جدل السياسة العقيم سيؤدي إلى تدهور علاقات السودان إن لم نقل فقدان الثقة مع مساهمين كبار مثل الكويت والسعودية والدول المشاركة الأخرى، وعلى السيد المراجع العام ألا يسمح بمثل هذا الزج المخل بصلاحياته والتغول على صميم مهامه. ولا نشك في حسن تقديره لهذه القضية الحيوية. وفوق هذا على ولاة الأمر وصناع القرار التنبُّه لمثل هذه المخاطر والعمل على تداركها قبل أن تستفحل الأمور. وأخيراً هناك كلمة لا بد منها، فمسؤول الصناعة في البلاد كان رئيس مجلس إدارة هذه الشركة بحكم موقعه، وهو الدكتور عوض الجاز الذي يشهد له كل المراقبين بالحزم الباتر والالتزام الصارم في كل المواقع التي شغلها من قبل، ولعلنا جميعاً نذكر وقفته الحاسمة في شأن ولاية وزارة المالية على المال العام، مما أزعج وأفزع الكثيرين، لذلك فنحن نتنظر منه التدخل في هذا الأمر لا لمصلحة الشركة بل حرصاً على مصالح الوطن وثبات الاقتصاد الوطني والارتقاء بوتيرة الجذب للاستثمار الخارجي التي نسعى جاهدين لجذبها رغم كل المعوقات التي تعترض طريقها، ومن بينها تصريحات المسؤولين التي يطلقونها في الهواء بلا حساب أو دراية.