محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا النبي لا كذب (14) حقوق الفقراء، و الربا يأكله الأغنياء الجشعين فقط...
نشر في الراكوبة يوم 21 - 02 - 2014

يروي عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه دخل ذات مرة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجده مضجعا على حصير، وأثر الحصير يبدو على جنبه الطاهر، فبكى عمر إشفاقا وعطفا وقال: "ألا تتخذ لك فراشا لينا يا رسول الله؟". فأجابه النبي قائلا: (ماذا يا عمر... أتظنها كسراوية؟ إنها نبوة لا ملك). وأضاف: (إذا ذهب كسرى فلا كسراوية بعده...وإذا ذهب قيصر فلا قيصرية بعده...ولقد أظلكم من الله خير جديد..نبوة ورحمة).
الإمبراطورية الإسلاموية باب الفقر..
ولم يدري رسول الله ما أحدث من جاء من بعده؟. فقد كافح وناضل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و أوذي في الله أذى شديدا ليقضي على الكسراوية والقيصرية الغاشمة ليحل محلها نظاما عادلا رحيما. فقد حقق بالفعل و بتوفيق من الله عز وجل العدالة الإجتماعية في المجتمع الجاهلي بتحرير العبيد وتقليص الفارق الطبقي بين الأغنياء والفقراء بفرض الإنفاق على الأغنياء، وإعطاء النموذج المثالي والأسوة الحسنة للمجتمع المثالى والأمة الخيرة للناس.
ولكن سرعان ما رجع الوضع أعقابه القهقري و أضل سبيلا بإعادة أمجاد كسرى وقيصر بعدما تولى السلاطين والأمراء زمام الحكم على الناس بل أضافوا للكسراوية والقيصرية من تفتق عبقرياتهم، وحموها بإسم الدين فكانت الإسلاموية. وقد كان كسرى يعبد النار وينهب أموال شعبه، بينما السلطان او الخليفة كما يحلو أن يسمي نفسه، يقول انه يعبد الله، ولكنه ينهب أموالهم وثروات أرضهم أيضا.
و قلنا من قبل إنهم أسموا تلك الحروب "حروب الردة" لتقنين الإستيلاء والسيطرة وسبي النساء وجمع أموال الناس بالقوة و ب "سيف المعز وذهبه". فبدأ السلاطين والأمراء منذ عهد بني أمية بناء القصور والبيوت ونهب أموال الناس بالجبايات والتمتع الشهواني، وشراء الذمم للولاءت والترضيات الخاصة في سبيل تحصين عروشهم. ومن ثم إتخاذ بعض الرجال لإيجاد منافذ في الدين تقنن لهم ما يفعلون. فمهمة هؤلاء المأفونين تخدير الناس بالصبر وربط البطون وإيهامهم بأن طاعة الله من طاعة السلطان وان الدين والدولة شئ واحد لذلك المفارق للجماعة ضال. فكانوا يدفعون لرجال الدين وفقهاء السلاطين مبالغ مالية طائلة بسخاء من حر مال الناس مع رمى الفضلات هنا وهناك للوعاظ الأخرين. فتجدهم يكيلون للناس بمكيالين. فعندما يأتي ذكر السلطان والحاكم يثنى عليه وأن يمد الله في عمره وأن يعينه في حفظ الله ورعايته وأن يحفظ البلاد. وعندما يلتفت الى الرعية يأخذ بالتهديد والوعيد والصبر على البلاء، مصورا بذلك مشهدا مزيفا في مخيلة الناس. فكأن الحاكم هو المظلوم والرعية هم الظالمون.
يحكى ان مغنيا كان يغني للأمين بعض أبيات من الشعر النواسي الرقيق في التغزل بالغلمان، فطرب الامين طربا شديدا حتى وثب عليه وركب على المغني واخذ يقبل رأسه ثم امر له بجائزة. فقال المغني مندهشا: "يا سيدي قد أجزتني لهذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم!". فأبدى الأمين إجازته وإستصغاره مبلغ عشرون مليون درهم وقال: "وهل ذلك إلا من خراج بعض الكور- أي قرية صغيرة-". والأمين لا يبالي أن يصرف هذا المبلغ من المال لإثارة شهوته الخبيثة. ولك أن تتخيل كم يعاني أهالي تلك القرية في سبيل جمع تلك الجباية من حر أموالهم وشعورهم بالقهر والذل عندما يروا أين تذهب أموالهم.
وفي مشهد آخر، يحكي أبو الفرج الأصفهاني في كتابه "مقاتل الطالبيين" عن محمد بن ابراهيم الحسني: "..فينما هو يمشي في طريق الكوفة نظر الى عجوز تتبع احمال الرطب فتلطقت ما يسقط منها فتجمعه في كساء رث. فسألها ما تصنع: فقالت: اني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤنتي ولي بنات لا يعدن على انفسهن بشئ، فأنا اتبع هذا الطريق واتقوته انا وولدي. فبكى بكاء شديدا وقال: انت واشباهك تخرجونني غدا حتى يسفك دمي..".
والآن يمكنك أن تقارن بين هذين المشهدين السرياليين.
إستطاع السلاطين قهر شعوبهم وبطشهم وتأليفهم على الخضوع والذل والإستكانة وتطويعهم على الرضوخ بسياسية الحق الإلهي والأمر الواقع والقضاء والقدر ليتطبعوا على الإستبداد. ومن ثم ضعفت عقول الأمة لتعيش في فقر مدقع، مادى ومعنوي ونفسي. بل وحدث تزعزع في شخصيتهم كأفراد عندما يروا أمير المؤمنين ينهب أموال الناس ويبذرها على شهواته وملذاته. وساهم في ذلك رجال الدين من فقهاء السلاطين والوعاظ الذين يصورون الناهب معذورا والمنهوب معاقبا. فليس مهما للناس أن ينهب السلطان/الخليفة من أموالهم ما يشاء ما دام انه يبني المساجد ويرعى رجال الدين ويغدق عليه النعم ليحافظ على دين الله، ومن ثم يرى الناس عيناه تفيض بالدموع من خشية الله، وفي المسجد الذي بناه من عرق الناس وألصق به إسمه- يحفظه الله.
الفقر نقمة وليس نعمة..
وبالتأكيد منذ الإمبراطورية الإسلاموية ظهر الفارق الطبقي من جديد بين الأغنياء والفقراء وحل البلاء والفساد بسبب عدم تطبيق أوامر الله سبحانه لأن المال لم يصبح دولة بين الناس جميعا بل أصبح دولة بين الأغنياء منهم فقط. وطفق فقهاء السلطان يروجون بأن الفقر نعمة والقناعة كنز لا يفنى. فمتى كان الفقر نعمة وهو وعد من الشيطان الرجيم والعياذ بالله من قوله جل من قائل: ((الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم)) [البقرة: 268]. فالفقر ليس نعمة بل نقمة كبيرة تسبب التأخر والتخلف. فالفقراء يمثلون الطبقة الدنيا و إتساعها يعني إختفاء الطبقة المتوسطة التي تمثل المحرك الرئيسي للإقتصاد. فبدون تحرك الإقتصاد ونموه لا تحدث التنمية ولا تزدهر الشعوب ولا تبنى الحضارات. وبالتالي فإن الفقر جريمة إجتماعية ووطنية. ولكن من المسؤول عنها؟.
لقد توصل الفلاسفة العالميون لهذه الحقيقة بعد مدة. والفقر عواقبه وخيمة ونتائجه كارثية على المجتمعات، بحيث يشكل عاملا يهدد الأمن الإجتماعي في المقام الأول. فالفقير يمكن أن يبيع نفسه للحوجة أحيانا. وقد قال الفيلسوف جان جاك روسو (1712- 1778) "إذا أردتم أن تمنحوا الدولة ثباتاً فقربوا بين الطرفيين الأقصيين ما استطعتم، ولا تحتملوا وجود أناس أغنياء وفقراء، فهذان الحالان اللذان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر بحكم الطبيعة هما كذلك شؤم على الخير العام، فمن أحدهما يظهر أعوان الطغيان، ومن الآخر يظهر الطغاة، وبينهما تقع معاملة الحرية العامة، فأحدهما يشترى والآخر يبيع".
والفيلسوف الفرنسي أوجست كونت (1798-1857) ألقى بالمسؤولية على الأغنياء فقال بأن: " الغنى وظيفة اجتماعية تتمثل بمساعدة السائلين والمحرومين". وكتاب الله الذي يتلى ترد فيه هذه الحقيقة بوضوح. والله تعالى يلقي بالمسؤولية أيضا على عاتق الأغنياء. فيشجع الحق جل وعلا الأغنياء على إنفاق أموالهم بل يعتبره إقراض لله سبحانه ذاتيا بسؤاله جل وعلا: ((من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟)) [البقرة: 245]. وترد كلمة ((و أنفقوا)) في مواضع كثيرة جدا. بل سمى هذا مالهم "ما جعلكم مستخلفين فيه".
ثبت في علم الإجتماع بأن الإجرام يكثر بين الفقراء والمعوزين من الناس أكثر من المرفهين. فالفقير يضطر منذ طفولته الباكرة للعمل في البرد والحر، ليلا ونهارا، ويجتهد ويكدح ليعين أبويه على قوت أسرته. وقد تضطره، أو تضطرها، الظروف أحيانا لحوجة ماسة بمرض الوالدين مثلا، لفعل أشياء لا يريدون فعلها بتاتا كالسرقة أو الإحتيال، أو بيع الشرف أوالكرامة أو الذمة، و حتى لحوم وأعضاء أجسادهم.
يقول المفكر توماس بين (1737-1809) الذي عاش فقيرا ردحا من الزمن: "إن الفقر ليتحدى كل فضيلة وسلام، لانه يورث صاحبه درجة من الإنحطاط والتذمر تكتسح أمامها كل شئ، ولا يبقى قائما مستمعا لنصيحة: كن، أو لا تكن، وأفعل ولا تفعل".
فالفقراء بشر وهم لم يولدوا سيئين ولكن قدرهم أن يكونوا في هذا الظرف. والبشر طبيعتهم واحدة، فإذا كان الأغنياء فقراء لفعلوا مثل ما يفعلون والعكس صحيح.
لقد توصل الفاروق في آخر أيامه لحل بقوله: "لو إستدركت من امري ما إستدبرت لأعطين الفقراء عطاء سنة كاملة- أو أخذت فضول أموال الأغنياء ورددتها على الفقراء". فقد كان يصرف على الفقراء رواتب شهرية، ولكن بالعطاء السنوي كان يمكنه أن يستثمرها في مشروع يدر عليه دخلا لا يجعله يحتاج للعطاء. فتعليم الصيد أفضل من عطاء سمكة.
بينما جاء معاوية وقال: " إنما المال مالنا والفيء فيئنا، فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا منعناه"، ولم يتغير وضع الفقراء منذ حينها. وجاء بالقول المأثور عن رسول الله (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ليفرضه على المسلمين لقوله بعد دبر كل صلاة. فقد أصبح كسنة مؤكدة إلى يومنا هذا لينطبع في عقل الناس الباطن الإستسلام لأمر الله، ولكنه في حقيقة المراد الإستسلام لأمر السلطان.
إن العامل الثاني المهم الذي تتطور به الأمم و يساعد في نمو كل الدول المتقدمة، بعد الحرية والسلم والامان، كأمريكا مثلا وغيرها هو: حركة المال وجعله دولة بين الناس، بالإستثمارات والأعمال التجارية خصوصا المتوسطة أو بما يسمونه بال Business. فهذا التحرك الإقتصادي بتوفر الأموال، كفيل لأن يطرق الناس كل أبواب الإستثمار في مختلف المجالات كالعلمية، والزراعية، والطبية، والفلكية، وغيرها، مما يحقق التفاعل الذي يأتي بالتطور الفعلي. وليس كأن يحصر جل الناس أنفسهم في أعمال تجارية بسيطة تدر عليهم "رزق اليوم باليوم" أو ما يعرف ب"النقاطة". وحراك الأموال الفعلي يحقق أيضا توفير مختلف وظائف العمل وتقليص نسبة العطالة وبالتالي الدفع بالبلدان نحو التطور والتقدم والرقي بإتساع رقعة الطبقة المتوسطة، والتي تسطيع حكم الأسعار وتحطيم شبح الغلاء لوحدها فيما بعد. ولكن إذا كان الغلاء مسيطرا ومستفحلا في مجتمع ما، فذلك يدل على أن فيه كثير من الأغنياء الغلاة المترفين الذين لا يبسطون أيديهم البسط المفروض، و يقبضون أيديهم كل القبض وبذلك يساهمون في بقاء الغلاء والفقر والوضع البائس التعيس كما هو عليه.
مأساة الفقراء في فقهاء السلطان..
وإذا جئنا لتعريف من هو الفقير؟. فالفقر يعني الحاجة الضرورية للشئ. والمتعارف عليه بين الناس فإن الفقراء هم المحتاجين للمال. والفقير هو الذي يحتاج للمال لحاجته الضرورية. ولقد أتى ذكر الله للمساكين للعطاء أكثر من الفقراء. والمساكين أصلا هم فقراء أساسا ولكنهم سكنوا عن الحركة والسعي فسموا مساكين وأحدهم مسكينا.
وقد عرف البعض الفقير بأنه الذي لا يملك قوت عامه والمسكين الذي لا يملك قوت يومه. وإذا اعتمدنا هذا التعريف فيعني إن غالبية الناس، حتى الموظفين فقراء، إذا أن الغالبية العظمى منهم لا تكفيهم رواتبهم حتى لعاشر يوم في الشهر. وتحديد الحد الأدنى للرواتب هو من إختصاص الدولة كي تضمن عيش الناس في طبقة متوسطة يستطيعون فيها تأدية عملهم بالكفاءة التي تحقق الإنتاجية والإتقان المطلوب.
و في أرض الواقع نجد عكس ذلك، من تردي في الخدمات والبلاء، والأنكى الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا. ويرى بعض الأغنياء أنفسهم انهم محظوظون في هذه الحياة الدنيا بأن الله تعالى يسر لهم رزقهم فيها ولا من يعظهم بأن هذا أيضا إبتلاء لهم كما إبتلى الله الفقراء أيضا. أولا يقرأؤون: ((فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن*وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن*كلا بل لا تكرمون اليتيم* ولا تحاضون على طعام المسكين* وتأكلون التراث أكلا لما*وتحبون المال حبا جما)) [الفجر: 20]. ويحث الوعاظ الأغنياء على إخراج زكاة أموالهم فقط وما عليهم من شئ بعدها إن شاء الله. ثم يلتفتون إلى الفقراء أن أصبروا وأربطوا على بطونكم وأعبدوا الله وكونوا من عبيده الشاكرين، ((وفي السماء رزقكم وما توعدون.. وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)).
نعم إنه لحق وإن رزق كل إنسان، بل كل دابة خلقها الله على الله، ولكن هذا في مجمل الإطلاق. ومسألة الرزق مهمة لأساسيات عبادة الله سبحانه. فقد سأل نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام رب العزة بقوله: ((ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)) [إبراهيم: 37]. ولكن في الواقع، السعي للرزق الحلال في حد ذاته عبادة، ويقول ((والله يرزق من يشاء بغير حساب))، ففي السماء "رزقكم" ولكن الله "يرزق" بالأسباب. فبمشيئة العبد وحركته يرزقه الله بالرزق المكتوب له و بدون رزق وإطعام لا تستقيم العبادة كما قال أبو الأنبياء.
لا يجب أن يخلط علينا فقهاء السلطان والوعاظ الأمور، فهل تأدية الأغنياء للزكاة معناه إعفائهم من مسؤوليتهم تجاه الفقراء، كلا ورب العزة. فهذا المال مستخلفين فيه فقط، وهو إبتلاء فيؤدي أحدهم الزكاة ويقول ربي أكرمن والحمد لله على ما رزقني، فأنا محظوظ. فأين شكر النعمة؟. فشكر نعمة الغنى هو الإنفاق، غير الزكاة المفروضة. والله تعالى يقول مكررا في الكتاب الحكيم في مواقع كثيرة جدا ((أنفقوا.. أنفقوا.. أنفقوا)). وهذا الإنفاق ليس فضل ومنة من الغني على الفقير بل واجب وخدمة متبادلة، ((وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم)) [الأنعام: 165]، و بتسخير بعضهم لبعض ((نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون)) [الزخرف: 32]. أي أن يتبادلوا التسخير فالفقير يخدم الغني و الغني يخدم الفقير.
ولا يعني الإنفاق على الفقراء رمي الفتات بل إعطاءهم ما يمكن لأحدهم الإعتماد على نفسه به. فإذا اعطي الفقراء حاجتهم لذلك لتحقق جزء كبير من الأمن الإجتماعي ثم تحرك الإقتصاد ليتطور المجتمع.
لقد كان الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري يناطح الطغاة ويناصر الفقراء ليسترد لهم حقوقهم و يصرخ في وجه معاوية قائلا: أغنيت الغني، وأفقرت الفقير. ويتلو الآية: ((والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)) [التوبة: 34]. ويرد معاوية كما يردد فقهاء السلطان اليوم مثله: نزلت فى أهل الكتاب. وبذلك يدارون الحكمة من قصص بني إسرائيل الكثيرة المذكورة في القرآن والتي أتت لتذكرتنا ولكي لا نقع في نفس بلوتهم، وليس للتسلية والتقريع على أهل الكتاب.
فتجد أحدهم يريد للفقراء المستمعين لخطبه المبكية أن يقتفوا أثره رضي الله عنه ويكونوا مثله، ولا يرى كفاحهم وكدحهم في هذه الحياة الدنيا وراء لقمة العيش، وجريهم المتواصل وسعيهم الدؤوب لسد رمق جوعهم بكل السبل مما ينسيهم غالب الأحيان لقمة الزقوم وطعام الأثيم للأسف الشديد.
ويواصلوا بالوعظ الخاوي ليرموا اللوم: "كيفما تكونوا يولى عليكم"، "وغيروا أخلاقكم لتتغير ظروفكم". فلماذا يولى علينا كيفما نكون، ولا نولي علينا كما نريد. فلو كانوا منصفين حقا أو قائمين بالقسط لقالوا: لو تغيرت ظروف الناس لتغيرت أخلاقهم بالطبع.
والأنكى من ذلك ينصحون الناس ويعظونهم بأن لا يشتكوا من الظالم ولا يثوروا عليه أبدا، للجماعة وطاعة ولي الأمر. فالظلم قد حل بالناس مما عملت أيديهم، والبلاء إستحكم بسبب فسادهم، ومنع منهم الرزق ومحقت البركة بسبب أعمالهم وسؤ نياتهم، وإنما الأعمال بالنيات والناس على نياتهم يرزقون، وكما تدين تدان، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وأقم الصلاة...
فمعظم هؤلاء وجدوا أنفسهم موظفون اولا وفقهاء وشيوخ دين مبجلون نتيجة للظروف. فهم يصلون بالأجرة ويخطبون بالأجرة ويحجون بالأجرة ويفتون بالأجرة وتصرف لهم المكافاءات والعلاوات والبدلات ويترقون بحسب خطبهم الرنانة ومواعظهم المبكية و مداراتهم على الطاغية. ولولا سلاطين العهد الأول الذين خلقوا هذه المهن الدينية لهؤلاء المأفونين لكانوا الآن: بقالين أو قصابين أو ترزية يفصلون كما يشاؤون، ولا من يسألهم، وبالتالي تكون لديهم فائدة فعلية للمجتمع، بعكس ما يفعلون الحين.
الربا يأكله الأغنياء فقط..
و لقد دأب فقهاء السلاطين والأغنياء المترفين بتخويف الفقراء من أكل الربا!! في حين أن الفقراء لا يأكلون الربا ولكن يريدون الإستدانة لأنهم لا يسألون الناس إلحافا. وقد ورد الربا في القرآن الكريم نحو سبع مرات تقريبا، وكل الآيات تشير إلى أن الأغنياء هم المعنيون أصلا بهذا الأمر وتلقي التحذير والنذير على الأغنياء فقط.
ورد ذكر الربا في سورة البقرة أولا. ويتحدث الله تعالى في الآيات من [البقرة: 273- 283] عن هذا الأمر. والآيات التي قبلها من الآية [البقرة: 261-272] تتحدث عن أهمية الإنفاق وتحث وتشجع عليه. ((مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم)) [البقرة: 261]. ثم الآيات التي تليها تحث على عدم إتباع الإنفاق بالمن والأذي. وتحذرهم بأن لا ينفقوا إلا من طياب ما كسبوا ولا يتيمموا الخبيث منه، وأن الشيطان يعدهم الفقر بعدم الإنفاق، وإن أخفوا الصدقات وأعطوها للفقراء فهو خير لهم، إلى أن يقول الله تعالى: ((للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم*الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) [البقرة: 274].
فالله تعالى يذكر إن هناك فقراء لا يسألون الناس أبدا، حتى يظنهم "الجاهل" أغنياء من تعففهم. فهؤلاء الفقراء ماذا سيفعلون إذا؟. فلديهم ثلاث خيار: الإستدانة، أو السرقة، أو الموت جوعا. فإذا خيارهم الأول هو الإستدانة، وإن لم يجدوا فإما السرقة أو الموت جوعا. لذلك سيضطرون للإستدانة من الأغنياء إذاً. ومن بعد ترغيب الله عز وجل للأغنياء بالإنفاق تنقلب الآيات على الأغنياء الجشعين، الذين يستدين منهم الفقراء ولكنهم يستغلون ظروفهم. فيقول تعالى: ((الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا..)) [البقرة: 275]. ويشدد جل وعلا ((يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم)) [البقرة: 276]. ثم يطمأن الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين يؤتون الزكاة وينفقون، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ثم يخاطبهم بتقوى الله ويحذرهم بحرب منه يمحق الله بها أموالهم وأن يأخذوا من المدين مبلغ الدين أو مايعرف برأس المال فقط. ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين*فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)). وإن كان الفقير معسر، فيجب التيسير عليه، وإذا جعل مبلغ الإقراض أو الدين صدقة فهو خير في اليوم الآخر والذي بالتأكيد ستوفى فيه الأجور ويجد كل أجره عن الذي لا يظلم عنده أحدا. ((وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون*واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)) [البقرة: 281]. وهذا يوافق الآية ((ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو)) [البقرة: 219]، والعفو هو ما يزيد عن حاجة المال. بل ويبشر المؤمنين بأن قرض الفقراء كإقراض الله تعالى ((إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم)). ووردت كلمة قرض دوما مقرونة ب " قرض الله قرضاً حسنا"ً لتؤكد مكانة المقرضين لوجه الله وليس للربا.
وبعدها يختم الله تعالى آيات الربا بأطول آية في القرآن العظيم، آية الدين [البقرة: 282] ليبين حفظ الحقوق لجانب الغني والفقير.
وهناك آية أخرى في آل عمران يحذر الله تعالى الأغنياء من أكل الربا ((يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون)) [آل عمران: 282]، وفي النساء عدم أخذ الربا لأنهم منهي عنه أصلا ((وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما)) [النساء: 161].
لقد قاوم رسول الله أغنياء قريش وحارب الربا والإستغلال والإستعباد، ونجح في القضاء عليه إلى حد بعيد. فقد كان قائدا لحرب الله التي أذن بها على المرابين الجشعين. فأمر أواخر أيامه بمصادرة جميع الأموال التي أستثمرت في الربا ورد رؤوس الأموال فقط لأصحابها. فقد كان يريد بتحريم الربا القضاء على الإستغلال والجشع للمال وتكديس الثروات وإلغاء تداوله في أيد قليلة. فقضى صلوات الله وسلامه عليه لحد كبيرعلى الغنى الفاحش. فتحريم الربا كان وسيلة لا غاية. لكن فقهاء الأغنياء والسلاطين جعلوه غاية بعد ذلك، بل حوروا معناه لتخويف الفقراء من عدم الإقتراض. فظهر أغنياء من طراز جديد وإبتكروا أساليب جديدة لمضاعفة أموالهم على حساب الفقراء بطرق لم يأتي فيها تحريم، لتختل الموازين ويتسع الفارق الطبقي بين الأغنياء والفقراء من جديد ويصبح أسوأ مما كان.
إن كل تشريع عبارة عن وسيلة للوصول إلى هدف إجتماعي معين، تتحقق به مصلحة المجتمع. ولكن غالبية الناس ينسون الروح والهدف من التشريع ويهملون المقصد العام المناط به تحقيقه، ومن ثم يهتمون بالتطبيق بالحذافير متجاهلين أن الإنسان لا يغلب في إبتداع وإبتكار طرق المكر المختلفة لينمي طمعه وجشعه وحبه للمال.
عندما جاء الفاروق قال: "توفي رسول الله ولم يبين لنا في الربا كثيرا". ولكنه الفقيه وعرف المقصد فحبس الأغنياء ومنعهم من التجول في الأمصار، وهذا تصرف لم يأتي فيه تشريع ولكنه يعرف ان المقصد هو القضاء على الجشع وتكديس الأموال والفساد بالفارق الطبقي. وقال: "إنهم يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عبادة الله". وقال في آخر أيامه: "لو استقبلت من أمري ما أستدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين".
ولكن حور مفهوم الربا لشل أيدي المحتاجين من الإقتراض وغض النظر والطرف عن آكلي الربا الأصليون. ونحسب أن بني اسرائيل لهم يد طويلة في تصوير الربا للمسلمين في كل أنواع المعاملات التجارية للبنوك وخلط مفهوم الإقتراض لحدهم من التعاطي مع الأموال لمنع تقدمهم. فهل تعلم ان البنوك السويسرية التي يدخر فيها أغلبية الأغنياء أموالهم هي بنوك برعاية يهودية ويصل عمرها ل 723 عاما. والغريب ان أثرياء المسلمين يضعون فيها أموالهم المكدسة الطائلة وشعوبهم من أكثر الشعوب فقرا في العالم، ولا نسمع أحد فقهاء السلاطين أو الوعاظ بالكاد يذكر ذلك!. بل تجدهم فالحين في شق حلوقهم وتشقيق آذان الفقراء بالصراخ من عدم الإستدانة والإقتراض من البنوك فهو ربا ونسيان الأغنياء الجشعين الذين يكدسون أموالهم بخارج أوطانهم، ولا يدينون البنوك الإستغلالية التي تفرض عليهم نسب فائدة خيالية للربا. فمن هو الذي أدخل أساسا تلك البنوك في البلاد لتستغل الفقراء؟. وهل للفقراء مصادر أخرى ليستدينوا منها غيرها؟. فأصحاب الإمبراطورية الإسلاموية أنشأوا المصارف التي أسموها إسلامية لإقراض فئات معينة أو الذين ينتمون إليهم في تنظيماتهم ليكون المال دولة بينهم. بينما تجد العراقيل كثيرة لمن يريد أن يقترض من الفقراء. ونجد نسبة الفائدة التي تحظى بها البنوك الإسلامية أعلى من البنوك الأخرى التي يسمونها ربوية. إذا هي تمارس نفس الجشع وإحتكار المال المراد النهي عنه!.
يجدر بنا هنا أن نذكر البروفيسور محمد يونس البنغالي صاحب بنك الفقراء والحائز على جائزة نوبل للسلام في 2006، والذي أفردنا له مقالا خاصا قبل ذلك ب "محمد يونس البنغالي واين انت يا مو السوداني؟!". فهذا الرجل أعظم من أي فقيه متفيقه وعالم سلطان متشدق، وهو نسيج وحده. فحمل هم الفقراء في بلاده بنغلاديش وقد أنشأ بنكا خصيصا لإقراض الفقراء، لفتح مشاريع وأعمال تجارية صغيرة خصوصا للنساء، وبنسب فائدة ضئيلة جدا. ولا يمكن أن نقول ان تلك الفائدة ربا لتغير أسعار صرف العملات، وإختلاف نسبة التضخم، وتغير الميزان التجاري.
إن الحوجة الماسة تدفع الفقراء والمحتاجين للإقتراض لكي لا ينزلقوا في مضرة أكبر مما هم فيه. ولكن يجب عليهم عدم مساعدة الأغنياء الجشعين أو البنوك المستغلة لظروفهم في إستغلالهم. و البنوك لا تقرض الفقراء أساسا، الذين لا يسألون الناس إلحافا، بل تقرض الأغنياء ومن تكون لديهم مصالح مشتركة معهم فيصبح المال دولة بين الأغنياء منهم فقط، عكس ما ينادي به كتابنا العزيز بثورته الفكرية والإجتماعية وسار على نهجه نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه ((كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب)) [الحشر: 7].
التغيير يقوده الفقراء دوما ولكن يقاومه الأغنياء عادة..
الأغنياء والمترفين من مصلحتهم هو بقاء حالهم على ما هو عليه بغض النظر عن الحالة العامة للمجتمع و لا يتبدل الحال ب"كي لا يكون دولة بين الأغنياء". فقد كان الأغنياء المترفين هم أعداء التغيير الذي أتى به الأنبياء بدين الله على مر الزمان لأنهم يريدون إستمرار حياتهم بنفس العز والجاه و الترف والغنى دون أن ينغص عليهم أحد عيشتهم الهنيئة. فتجدهم دوما في الفريق المعادي للشعب الذي يريد إسقاط النظام إلا قليلا.
لقد كان أول ما آمن بالأنبياء المرسلين هم الفقراء، وبالمقابل كان يسخر منهم وكذبوهم الأغنياء ((قال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين)) [هود: 27]. وأول من آمن وناصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم العبيد والموالي والإماء، وقاومه وحاربه غالبية الأغنياء والمترفين. فكان الضعفاء والفقراء بجانبه وسنده وعضده في كل مسيرة دعوته و رسالته. فهم حملة لواء الثورة الذين مكنوا لدين الله من الحرية والمساواة وإقامة المثل العليا للدين. وقد كان معظمهم هم المهاجرين الأوائل الذين خلد الله تعالى سيرتهم بنصرة النبي والشهادة لهم بالصدق في القرآن الكريم ب ((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون)) [الحشر: 8]. وحتى بعدما أسلم الأغنياء كان منهم أيضا كثيرا من المتعنتين الذين قعدوا خلاف رسول الله فكانوا مع الخوالف من النساء و الأطفال و العجزة.
وقد كان المترفون سببا في هلاك بعض الأمم السابقة ومن المساهمين الكبار في ضلالهم مع الطغاة. ((وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)) [الزخرف: 23]. ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً* وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)) [الإسراء: 16]. ((وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون)) [سبأ: 34].
وضرب الله مثلا للناس بقارون. ((إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين*وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين*قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون*فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم*وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون*فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)) [القصص: 81]. فقد كان قارون غنيا مترفا ومن قوم موسى أو بني إسرائيل الذين أراد الله أن يخلصهم من ظلم طاغيتهم فرعون. ولكن قارون، ابن جلدتهم، ظلمهم وبغى عليهم بعدم إحساسه بهم، وإحسانه إليهم وتأديته حق الله فيهم، بل وكان يخرج متكبرا عليهم بزينته. وقد كان من أشد الموالين لنظام الطاغية فرعون. وبالتأكيد كان ممن يحرق له البخور ويتبرع بسخاء لتمكين سلطة فرعون على الناس. فهذا النظام يضمن له عزه وجاهه الذي فيه. ولكن الله العظيم أهلكه وذكره في كتابه الحكيم ليكون عبرة لمن يعتبر.
ولقد إبتلى البعض بهذه الظاهرة القارونية بالجري وراء إستحواذ المال بشتى السبل ومسكه وعده جيدا وإحصاءه وإدخاره. وعندما يصبح غنيا يرمي الفتات للفقراء ويبخل بالعطاء الحقيقي. ويحمدالله على حظه في الدنيا، والذي لم يحالفه الحظ يندب ويزمجر بأن فلان ياله من محظوظ. ويتباهى قارون زمانه بأنه شاطر وتعب في جمع ماله وكد فيه بعرقه والخروج على الناس في زينته. بل وبلي المجتمع الفقير بظاهرة "البوبار" فسمعنا بحكايات غريبة وعجيبة من البذخ والترف والإسراف خصوصا في المناسبات في تدل على الغنى الفاحش في وسط هذا الفقر المدقع تجعل قارون يستصغر نفسه أمام هذه المناظر. والحمد لله على الواتساب الذي يرينا العجب العجاب. ولكن علينا تذكر: ((فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)) [الأنعام: 44]. ولولا فضل الله على الدنيا ورحمته للعالمين بنبي الرحمة وخاتم الأنبياء والمرسلين، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، لأستمر نزول العذاب على أمم الدنيا المختلفة، بإختلاف معاصيهم، كما كان في السابق.
وهناك حديث خطير يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية في النذير لمن لا يحض على طعام المسكين، حيث قال: (أيما أهل عرصة أمسوا وفيهم جائع فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله). العرصة تطلق في اللغة على البقعة الواسعة بين الدور. فيا ويلنا إن كان هناك إنسان يبيت جائعا بين القصور والفلل والبنايات؟. وهذا الحديث يتماشى فعلا مع القرآن الكريم في ثورته للضعفاء والمساكين ضد الأغنياء المترفين. ولكن نجد فقهاء السلطان والواعظين لا يذكرون لك مثل هذه الأحاديث لشئ في نفوسهم. فسورة الماعون والتي من أبسط السور وتتوعد مانعي إطعام المحاتجين والمساكين بالويل لهؤلاء المرآين الذين لا يؤدون حقوقهم للفقراء والمساكين بآية: ((فويل للمصلين..الذين هم عن صلاتهم ساهون))، أي وإن كانوا يصلون ولو في أوقاتهم ولكنهم يسهون عن صلاتهم في معاملاتهم فلا يحضون على طعام المسكين ويمنعون الماعون والخير على خلق الله. ولطن نجد الوعاظ يعكسون الآية بأن "فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون" بأنهم الذين يسمعون الأذان ولا يأتون للمسجد لأداء الصلاة!. بذلك يريدون هؤلاء الفقراء الكادحين صم أفواههم و الذهاب للمسجد سريعا والتضرع بجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، والصبر على البلاء، وأن يوفق راعي الأمة لما فيه الصلاح وخير العباد.
يقول أبا ذر الغفاري: "أعجب بمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج شاهرا سيفه أمام الناس". فلسفة هذا الصحابي الجليل الثائر ديمة بأن الله عدل ورزق العباد بقدر، ولكن هناك من طغى في الميزان. فبعد أن شبع إستأثر برزق غيره في جيبه أوخزينته فحرمه من رمق العيش ولا جعله لا يتذوق إلا شظفه. وبذلك يكون قد إعتدى وظلم والله يأمر بعدم الركون للظالمين. والغريب إن بعض العلماء فندوا وقالوا إن أبا ذر كان مثيرا للفتن ولا يعرف مصلحة الأمة. أي بمعنى آخر مغفلا. ولكن ما لا يعرفه هؤلاء المتحذلقون بأن فلسفة هذا الصحابي تتخذها البلدان المتقدمة في دفع الضرائب. فهي تزداد بإزدياد غنى الأشخاص. بيد أننا نجد أغنياؤهم أنفسهم لا يبخلون بأموالهم في العطاءات والتبرعات ويحملون هموم الفقراء في العالم كله للقضاء على الفقر فيه. فقد تبرع الملياردير بيل قيتس بنصف ثروته ويقول الهدف هو القضاء على الفقر في العالم عام 2035.
و يعتبر الإمام علي أن مسؤولية الفقر تقع على عاتق الأغنياء قائلا: "إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي فقراءهم. فإذا جاعوا أو عروا أو جهدوا فبما منع أغنيائهم وحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة، قالوا وأن يعذبهم".
والإنفاق هو البر من قوله تعالى: ((ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)) [البقرة: 177]. فليس البر الصلاة في الصف الأول والحج كل عام وبناء المساجد، ولكن البر من آمن وآتى المال المال المال على حبه " ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب". ومن ثم لاحظ يقول الله عز وجل وأقام الصلاة وأتى الزكاة"، أي أن الزكاة هي من العبادة المفروضة أصلا وليست من البر، ليتحجج الأغنياء بأنهم أدوا الزكاة والسلام.
ويقول الله عز وجل بأن في الإمساك التهلكة: ((وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)) [البقرة: 195]. فأفضل الأغنياء هم المحسنون الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وأفضل الفقراء هم العفيفون. فالعفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى كما قال الإمام علي.
والغني المادي ليس مذموما بحد ذاته، والفقر ليس عيبا قبيحا، وإنما المذموم والعيب أن يعيش المجتمع ويدع الهوة تتسع بين طرفي النقيض، فيصبح الأغنياء مرفهين مترفين ويصير الفقراء مساكين محتاجين، ولا يبالي المجتمع بالفارق الرهيب بين المتخومين والمحرومين. فهذا يعد من أحد الأسباب الرئيسية لإستشراء مختلف أنواع الفساد في المجتمات، من رشاوي وجرائم ومحسوبية لإنتشال الأقارب من الفقر وهكذا. والأمر الفصل بين ضمير الأغنياء وكرامة الفقراء.
لقد جاهد النبي صلوات الله وسلامه حق جهاده وعلم الإنسانية تحقيق العدالة الإجتماعية بإصلاحه بالفعل المجتمع الجاهلي بإحقاق الحقوق للفقراء والمساكين. ولم يعيش كالملوك ولم يكنز مالا في حياته وتوفى ولم يترك لا درهما ولا دينار. و وقف دائما في صف الفقراء والمساكين في حياته وكان يدعو: (اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين) لأنه يعلم أن الله تعالى دوما في صف كل المستضعفين والمنكسرين، وكل كتابه العزيز الذي أنزله الله على قلبه ثورة ضد المستكبرين والمفسدين والمسرفين الذين لا يحبهم الله والذين مثواهم جهنم، فلبئس مثوى المتكبرين.
ومن دعاءه المأثور أيضا: (اللهم احشرني في زمرة الفقراء والمساكين). فاليفعل أغنياؤنا مثله إذا أرادوا أن يحشروا معه صلوات الله وسلامه عليه في زمرته مع الفقراء والمساكين، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
*الحلقة القادمة الأربعاء بإذن الله.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.