قد تتفق معي الأغلبية من الناس أن ممارسة تسوية المخالفات لشرطة المرور فيه كثير من الأخطاء التي يدفع ثمنها المواطن الذي في آنية الحدث ليس له علاقة بطيش سائق أو غفلة كمساري أو ترخيص حافلة أو غيرها من المخالفات... وربما تأتي مسرحية المخالفة وتسويتها على حساب زمنه وعمله أو حتى مزاجه... لكن هذا المشهد الذي يؤجج التذمر عند الركاب هو قضية بلد بحالها ففي جميع دول العالم تسوية المخالفات تأتي بأثر رجعي ولا تتم وسط الشوارع في مشاهد أشبه ببطولات.. (توم أند جيري) ولكن الوجه الآخر من هذا العبث الذي لم يتسن لي الاستمتاع به طويلا هو أن ثمة علاقة حميمة باهتة خلقتها هذه التسويات وهي أن السائق المخالف أصبح يتعايش مع الإيصال والمخالفة وباتت جزءا من برنامجه اليومي وخط سيره الذي ربما يرسمه صباحا في خياله أن يبدأ بتغيير (الزيت) وصب الماء للماكينا وتنظيف زجاج الحافلة... وأن يدفع الإيصال اليومي.. هذا التصالح الغريب بين المواطن والشرطة هو ذاته ربما يكون سببا في ولادة اللا مبالاة في مجتمعنا... ولادة دون أوجاع وألم لما يدفعه نظير تسوية المخالفة. المشهد... (والحافلة تئن من الركاب صباحا الكل ينظر إلى ساعته خوفا من أن يتأخر على مكتب أو موعد أو بنك أو غيره والصافرة من رجل المرور تصيب الأذان بمرض لا يستطيع تسميته إلا أطباء الأذن والأنف والحنجرة وهو نشوان بممارسة هذه الهواية اليومية ومستمع بها يشير له أن (يبركن) جانبا والسائق يستجيب برغبة أكيدة في التوقف والكمساري قبل أن تتوقف الحافلة قام بمراجعة جيبه ليخرج ما عنده من مال المبلغ المقرر لتسوية المخالفة. وتقف الحافلة بجانب عربة المرور ليترجل الكمساري ويتوجه إلى الضابط داخل العربة الكل يتابع عن كثب ليروا تلك المصافحة الحارة والابتسامة العريضة التي تبادلها الكمساري مع الضابط ولا اختلاف ولا نقاش كما كنا نرى دائما ولا تأخير ولا احتجاج... ولا غضب ولا حتى امتعاض... يسلم الكمساري الضابط المبلغ.. والضابط يسلمه الإيصال ويودع كلا منهما الآخر بذات الابتسامة غير المصنوعة وكأنه يقول له (غدا لنا لقاء) وعندما يعتلي الكمساري الحافلة يقول السائق (هو دا زولك ذاتو بتاع أمبارح) ليرد الكمساري.. (أيوه هو ذاتو). تمت تسوية إيصال المحبة أقصد المخالفة... تمت بسلام... وهو المشهد الذي يؤكد أننا أحيانا نتعايش مع الخطأ نتوارث اللا مسؤولية نكرس لاستمرار اللعب والتلاعب بالقوانين فلا الضابط يرشد المخالف إلى أنه يجب عليه أن يتوجه للترخيص غدا أو في مدة أقصاها أسبوع كل ما يريده تسوية المخالفة ولا حتى السائق له الوعي الكامل الذي يجعله قادرا على تغيير هذا النمط... فالمسؤولية المرورية يجب أن تخرج من هذا النفق المظلم والنظرة العقيمة إلى الأشياء ونشر ثقافة الالتزام بالقوانين والقواعد المرورية حتى لا تصل علائق الصلات بين رجل المرور وأصحاب المركبات مرحلة التآخي السلبي والمحبة الجوفاء الكاذبة غير الحقيقة ما دام أنها تقوم على الخطأ.. وننسى ما هو دورنا الحقيقي... وأخاف وأخشى أنه ولو قام السائق بترخيص المركبة سيعاوده الحنين يوما إلى الوقوف أمام الضابط ودفع مخالفة لم يرتكبها.. طيف أخير: العيب ليس في أن نخطئ.... في أن نتعايش مع أخطائنا. [email protected]