أجري عالم النفس الامريكي الشهير إستانلي ميلغرام في ستينيات القرن الماضي ,تجربة مثيرة حول(مدي إنصياع الناس للسلطة) وحاولت السلطات الامريكية اخفاءها لفترة طويلة نظرا لخطورة الدراسة ونتائجها وأخلاقيتها. بدأ ميلغرام تجربته بنشر إعلان صغير في أحد الصحف الامريكية يطلب ممن يرغبون بخدمة العلم, الحضور لمقر جامعة (ييل)الامريكية العريقة ذات السمعة العالمية المحترمة وذلك للمشاركة في تجربة صغيرة مدتها ساعة واحدة مقابل أجر رمزي وهو اربعة دولارات ونصف فقط. ادخل ميلغرام كل مشارك في غرفة صغيرة خالية من الاثاث إلا من طاولة صغيرة عليها مايكرفون صغير وعدد من الازرار تصدر صعقات كهربائية متدرجة في الشدة,وبجانبها مجموعة من الاسئلة المكتوبة.كانت المهمة المطلوبة من كل مشارك هو توجيه هذه الاسئلة عبر الميكرفون الصغير لطالب في الغرفة المجاورة,وكلما أجاب الطالب اجابة خاطئة,كان المشرف الموجود بالغرفة يأمر المشارك بتوجيه صعقة كهربائية عقابا له,وكانت الصعقات تتدرج في القوة مع الاجابات الخاطئة, من مستوي 30 فولت البسيط وحتي مستوي450 فولت القاتل,وكان المشارك يسمع صيحات وتأوهات الطالب مع كل صعقة ,وعند تردد المشارك أو توقفه يأمره المشرف بالاستمرار حتي النهاية وانه لامجال للانسحاب, ويطمئنه انه يتحمل المسئولية كاملة,,وقد تم إيهام المشاركين بأنهم ليسو موضع التجربة,وان التجربة هي لقياس مدي تحمل الناس للألم ودراسة ردود أفعالهم,وفي الحقيقة فقد تم خداع المشاركين ,فلم يكن هناك صعقات حقيقيةوولم يكن هناك طلاب ,بل ممثلون محترفون يطلقون الصيحات والتأوهات المدروسة,احضرهم ميلغرام لغرض التجربة الحقيقي وهو قياس انصياع المشاركين لسلطة أعلي يمثلها المشرف في التجربة. وقد أجري ميلغرام قبل الشروع في التجربة استطلاعا علي خبراء علم النفس عن النسبة المتوقعة من المنصاعين لسلطة المشرف والذين سيصلون لأعلي شدة في جهاز الصعق الكهربائي وهي الجرعة القاتلة 450 فولت والتي تختفي بعدها التأوهات ويسود صمت الموت,وقد كانت توقعاتهم أن أقل من واحد بالالف من المشاركين سيفعلون ذلك,ولكن ولدهشة ميلغرام ودهشة الخبراء ,إتضح ان اكثر من 65% من المشاركين وصلوا للجرعة القاتلة , وقتلو ضحاياهم-كما أعتقدوا- استجابة لأوامر المشرف وتهديداته احيانا وتطميناته احيانا أخري. وقدأجريت نسخ عديدة مشابهة للتجربة في مختلف بقاع العالم وأدت لنتائج مشابهة مما أكد نتائج ميلغرام ,والذي علق وقتها علي التجربة بقوله:((النتائج كما تابعتها في المختبر مقلقة,إنها ترجح أن الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتماد عليها لتبعد الانسان عن القسوة والمعاملة اللانسانية,وعندما تتلقي الاوامر من سلطة عليا فاسدة ,فإن نسبة كبيرة من الناس مستعدون لتنفيذ مايؤمرون به دن أخذ طبيعة الامر بعين الاعتبار وبدون حدود يفرضها الضمير)). وهذا مايفسر سر طاعة (عسكري) شرطة مكافحة الشغب وفرد الامن-والذين يعتمد عليهم كل ديكتاتور لاستمرار حكمه- بإطلاق الرصاص الحي علي المتظاهرين العزل وقتل طلاب الجامعات وتعذيب المعتقلين والناشطين والمعارضين السياسيين,رغم ادراكهم ان مايفعلونه يخالف ضميرهم وطبيعتهم البشرية,فالعساكر في نهاية الامر بشر وليسو روبوتات الية.وهذا مايفسر ايضا حرق جندي لقري أهله في دارفور وإغتصاب اخواته في جبال النوبة وقتل أخيه في جنوب النيل الازرق. وليس السبب -كما يظن البعض-هو تلك المبالغ التي تدفع لهم نظير ذلك,فكلنا يعلم ضآلة الرواتب التي يتلقاها العسكرمما يضطرهم للإرتشاء وابتزاز المواطنين,فهم مثل الجميع لديهم أسر وأفواه يجب ان تطعم لتعيش. إن الحل الوحيد لايقاف مثل هذه التفلتات هو التقييد بالقانون لمصدر الاوامر العليا وهم كبار الضباط والقادة الذين يقبعون خلف المكاتب الوثيرة يصدرون الاوامر ويتلقون الامتيازات والحوافز الضخمة,ويتهربون وقت الحساب من المسئولية,بينما تصطاد لجان التحقيق في مثل هذه القضايا صغار العسكركما حدث في قضية مقتل الدكتورة سارة حيث تم اتهام وكيل عريف بشريط واحد ككبش فداء,وتجاهلت من اعطاه الامر بذلك.وقد اشار عدد غير قليل من كتاب الراكوبة لهذا الامر وأوصو بتفكيك جمهورية الضباط هذه. وختاما أختم بكلمات أدولفو فرانسسكو سيلينغو,ضابط البحرية الارجنتيني أثناء الحرب القذرة في الارجنتين والتي دارت رحاها في سبعينات القرن الماضي ايام الديكتاتورية العسكرية والتي يقال انه راح ضحيتها ثلاثون ألف مواطن وإختفي اكثر من عشرة الاف ارجنتيني,وقد اعترف بعد ستة عشرعاما وصدر ضده حكما من محكمة اسبانية بارتكاب جرائم حرب وهو حكم مشابه لما أصدرته محكمة الجنايات الدولية بحق الرئيس السوداني عمر البشير,وقد قال سيلينغو:((أنا مسئول عن قتل ثلاثين شخصا بيدي الاثنتين,أكون منافقا إذا زعمت أني نادم علي مافعلت ,أنا لاأشعر بالندم لاقتناعي ان ماقم به كان تنفيذا لأوامر,ولأننا كنا انذاك نخوض حربا .كنا نقتل البشر,لكن مع ذلك مضينا نفعل مانفعله.كم من الليالي قضيت أخيرا راقدا في ساحات بوينس آيرس برفقة زجاجة نبيذ محاولا النسيان)). عماد عثمان -طبيب بالصحة النفسية / السعودية. [email protected]