لقد أثبتت الدراسات إن العلوم الإنسانية في الغالب الاعم هي التي تصنع القادة /الادارة /الاقتصاد/الإعلام/الفلسفة /علم النفس/الاداب/ اللغات....الخ . بينما العلوم الطبيعية /الهندسة /الطب/التكنلوجيا/الكمبيوتر ....الخ. نادر ما تصنع القيادات..لماذا؟ تقول الدراسة ان العلوم الانسانية:- هي التي تشكل شخصية الانسان, بينما العلوم التقنية:- تشكل عقلية الإنسان وليست شخصيته وهو ما تتطلبه هذه العلوم. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نحن نبحث عند اختيارنا للمسؤولين باختلاف تدرج الوظيفية والمناصب التي يشغلونها؟ ام هنالك معاير ومواصفات واضحة لإختيار قاداتنا نحن كسودانيين؟! واحدة من أهم مشكلاتنا الأساسية، حسبما أرى، أننا لا نؤمن بما نعتقد به؛ كما أننا لا نحترم ما نؤمن به من قناعات وأفكار، وهذا ما يُوقعنا دئماً في تناقضات سلوكية ومبادئية، وهو ما يبدو لنا جليًا في طريقتنا في إدارة صراعاتنا الحياتية الاعتيادية، حتى في أبسط المشكلات التي تواجهنا؛ سواء في البيت أو في الشارع أو حتى على مستوى الممارسة السياسية أو فيما هو أدنى من ذلك أو أكبر؛ ولهذا فإن مجتمعنا يعج بالتناقضات المبادئية التي ترمي بظلالها، آخر الأمر، على سلوكنا وقناعاتنا وحتى أفكارنا العامة والقيمية، فمن يدعو إلى الحرية والديمقراطية قد لا يتخذ ذات الموقف المؤيد عندما يتعلّق الأمر به هو شخصيًا، وهو ما يجعل عددًا لا بأس به بان يفقدوا الثقة في وعي المثقفين، أو فلنقل "أشباه المثقفين"، أو لكي نكون أكثر دقة فلنقل "المثقفين الطارئين"، فهم في حقيقة الأمر ليسوا مثقفين حقيقيين، وإنما هم يتخذون من ثقافتهم سُلمًا يرتقون به نحو أهداف تخصهم، أو في أفضل الحالات، يُلمّعون به أنفسهم أمام زمرة يرغبون في الاختلاف والتمايز عنهم، فالثقافة الحقة هي التي تنسجم بوعي مع مجموعة الأفكار المبادئية وترتبها، لتتمظهر لنا، آخر الأمر، في شكل سلوك متسق ومتناغم مع ما نحمله من أفكار وآراء ومعتقدات. وحين يُعبر زمرة من القادة السياسيين، السودانيين (بصرف النظر عن توجههم الفكري والأيديولوجي) عن رغبتهم الجادة والعميقة للوصول إلى حل للمشكلات السودانية وغايتها فإنهم لا يفعلون؛ لأنهم لا يعلمون أن ممارساتهم الداعية للقومية والحرية والديمقراطية وإسلوب قيادتهم ليست سوى أثر لوعي اني أصيل وراسخ، يبدأ باحترامنا لمفهوم القضية السودانية في جوهرها، ومفهوم الاختلاف قبل كل شيء، وحين يتم تشوييه هذا المفهوم فإن القيمة الأساسية للشعب السوداني لابد أن تكون مشوهة بالضرورة، فلا فائدة تُرجى من حلول. في الوقت الذي يجب فيه على المواطن أن ينظر إلى الوطن من الناحية العامة وليس العكس كما هو الحال الآن، فنحن لا نتعلّم حب الأوطان في المدراس، ولا نتلقن الانتماء إليه أو نكوّم عاطفتنا الوطنية خلف طاولات الدراسة، بل إنه شعور عام وجمعي نكتسبه بالممارسة اليومية والتفاعل الاجتماعي والسياسي المباشر، ولهذا فإننا نرى المسؤولين في دول العالم الأول يُقدمون على تقديم استقالاتهم في حال فشلهم في إدارة أعمالهم ومسؤولياتهم على الوجه الأكمل والسليم، انطلاقًا من مبدأ الوطن العام، وليس الوطن الشخصي، في الوقت الذي لا يحرك فيه القادة الديمقراطيين ساكناً، لأنهم ببساطة ينظرون إلى الأمر من وجهة النظر الشخصية وليست العامة، فعندما يُصبح الوطن مفهومًا خاصًا، يُصبح العمل السياسي مُجرّد محاولات لحماية المصالح الشخصية، وعندها فقط لا تعود للمسؤولية المباشرة قيمة أخلاقية تذكر. فاذا نظرنا الى "الكاريزما القيادية" بمعناها الادق نجدها تعني الجاذبية الشخصية التي يتمتع بها القائد، ولكنها توحي للوهلة الأولى أنها موهبة يُولد بها الواحد منا، لذا؛ فإن هذه الكاريزما القيادية هي التي تمكن من قيادة الأتباع، الذين يمثلون أحد دعائم القيادة نحو الهدف، لكن هذا ربما هو غير وافر لدي عدد كبير من القيادات في السودان فدائماً ما يحاولون إغتيال المصطلحات لمصالح شخصية. نحن إذًا أمام معضلة مُركبة؛ فنحن لا نحترم القيادة الديمقراطية لأننا لم نفهم أن الديمقراطية عقيدة والقيادة فن قبل أن يكونان سلوكًا وممارسة، ولم نفهم أنهما سلوك وممارسة قبل أن تكون هدفًا سياسيًا استراتيجيًا، وأيّ دعوى للمناداة بالديمقراطية والقومية والحريات قبل تحقق شروطها واستحقاقاتها، يُصبح ضربًا من الاغتيال؛ إذ أننا بذلك إنما نحاول اغتيال مفاهيم الديمقراطية والحرية، وتشوييهها قسرًا في أخيلة العامة، حتى النخب، وهو ما جعل قطاعًا كبيرًا من الناس لا يؤمنون بما يدعو انفسهم ديمقراطيين ودعاة تغير ولا يتشجعون لهذه المساءل، حيث أنهم لم يروا، في الواقع، إلا الصورة المشوّهة منها، وفي ذات الوقت فإننا لا نمتلك أدوات الوعي الكافية التي تجعلنا نفرّق بين ما هو عام وبين ما هو خاص، وهو أمر يرتبط، في المقام الأول، بمدى امتلاكنا للوعي الفلسفي، ليس مجرّد التفريق بين العام والخاص فقط، وإنما القدرة على تصنيفهما التصنيف السليم، والالتزام باستحقاقات كل تصنيف على حدة لنصبح قادة حقيقيين للشعب لان الوطن ليس نزعة ذاتية خاضعة للتقييم والتقدير الشخصي والخاص، إنما هو مفهوم عام، يجب أن يتسق فيه الوعي مع السلوك والممارسة، ولا يُمكن أن يتم ذلك إلا من خلال تربية مؤسسة واكتساب مُباشر، لا يتخلله أيّ شائب يحمل عنصر التناقض والمفارقة. فلا يكفي أن نحمل أفكارًا ديمقراطية، إذا لم نكن نملك أدوات تطبيقها على أرض الواقع، أو حتى دون أن نملك إيمانًا عميقًا بالفكرة الديمقراطية نفسها. كما نفس الحال في "القيادة" التي هي (علم وفن), وهو مبدء يجعل القيادة ليست حِكرا على فئة معينة, ولكن يجعلها باباً مفتوحا لكل من تثبت مواهبه واستعداداته وخبراته وتحصيله العلمي التخصصي, والاشخاص الذين يُظهرون مثل هذا السلوك هم الذين يوصفون بالمبدعين. لكن دعونا ننظر قليلاً الى واقعنا اليوم في اوساط القادة دعاة الديمقراطية في السودان حدث ولا حرج فان كثير من يسمون انفسهم دعاة التغير يتعارض سلوكهم مع ما يدعون اليه، حينما نراهم يتوجهون وينادون بالحوار مع اصحاب التوجهات الشمولية والدكتاتورية متناسين ما يحملونه من توجهات فكرية متنافية تماماً مع واقعهم، الا هذ لا يتعارض مع ما يعتقدونه ويؤمنون به من توجهات ام اصبحت القيادة البروقراطية والفوضجية تتمثل في الديمقراطية؟! اذا كانت تلك هي مسؤولياتنا القيادية الداعية للديمقراطية، اذاً ستكون هنالك ضرورة لرسم وايجاد طريقة جديدة وممنهجة وتبني إستراتيجيات واضحة للخروج من مأزق التفكير الضيق لتحقيق طموحات الشعب الذي وثق في قيادته وليس الميول الى الاهداف الشخصية،' فملايين اللأجئين السودانيين في كل دول الجوار يعانون من مقاومات الحياة والالاف يتم تطهيرهم عرقياً في جبال النوبة والنيل الازرق ودارفور، فضلاً عن ذلك هل تناسينا المجازر التي تمت في حق الشعب السوداني ناهيك عن معاناة من يفترشون الارض الان في كل أقاليم السودان بما في ذلك العاصمة الخرطوم دون مئوى بسبب الفقر والجوع والعطش الثلاثي الذي لا نستطيع الخروج منه مادام الانقاذ باقية، قرى واطفال يتم حرقهم وإغتصاب للنساء وقصف بالطيران على قرى المدنيين، وفوق ذلك نجد من يدعون للديمقراطية يريدون الدخول الى حوار مع المؤتمر الوطني ويتقدمون بقضايا الحريات والديمقراطية على القضايا الإنسانية وقضايا الارض والهوية والابادة الجماعية، فنحن بدورنا نتساءل هل هذه الدعوات الحوارية لإيجاد هامش من الحريات لخدمة مصالحنا الشخصية؟ ام دعوة حوار لحل ومخاطبة جزور المشكلة السودانية؟! ان ما يحدث في الهامش ربما اعتقد انه لا يعني كثيراً تلك الاحزاب الاكسسوارية، اذا افترضنا جدلاً انهم دخلوا في حوار مع المؤتمر الوطني هل يعتقدون بان الوطني سيعمل حسب ما دعا اليه للحوار عبر إتصالاته ببعض اطراف قوي الاجماع الوطني بدعوات رسمية أو بلقاءات ثنائية وفردية لاقناع قادة تلك الاحزاب" بأنه جاد" لحل مشاكل السودان عبر الحوار بدون شروط السؤال الذي يطرح نفسه بقوة لماذا اذاً رفض الوطني دعوة الحركة الشعبية لتحرير السودان حينما دفعت باجندة تهدف لحل كافة مشاكل السودان بدلاً من المنطقتين هل القضايا الإنسانية وقضايا الارض والهوية والابادات الجماعية وتحقيق مبداء العدالة الإجتماعية ومحاسبة المتهمين بإرتكاب جرائم ضد الانسانية والتداول السلمي للسلطة في اجندة المؤتمر الوطني او في مخيلته؟ هذا بالطبع قد يكون بعيداً عن اذهان من تسمروا في كراسي السلطة فهم اهوج الى شرعية أخرى ليبقوا على كراسي السلطة. فمن يفتكر بان الحوار مع هذا القوم ياتي بنتيجة فهو يقترب الى الاوهام المتخيلة. ان النظرة البعيدة لمستقبل السودان تتطلب من نخبنا السياسية التخلي عن النظرات الرومانسية والهلمانات والتفاخر والعمل بعقلية لمواجه الواقع الوطني المرير بما يتطلبه الحال يكون هذا بالتاكيد لصالح ابناء الهامش وليس لصالح المصالح الشخصية. [email protected]