قبل الاستمرار في عرض أحداث غزوة بني المصطلق و ما تبعها من أحداث يسميها أهل السيرة (فتن) سنتوقف عند ملاحظات عدة : أولا بدأ الاسترقاق و السبي منذ هذه الغزوة ليستمر قرابة ألف و أربعمائة عام و يفوق ضحاياه عشرات الملايين من رقيق و سبايا و ما صحب ذلك من آلام و أحزان لأولئك البؤساء من تشتيت شمل الأسر و القهر الذي يلازم الضحايا عندما يعرف الزوج أو الأخ أن زوجته أو اخته يُمارس معها رغما عنها ما يسميه بالاغتصاب أو الفاحشة و لكنه عند الآخر حق منحه له المقدس ، أو خيال الأب و هو يتصور آلام ابنته مقهورة ذليلة يقضي أحدهم وطره منها ثم يبيعها في السوق كأي معزة (كما روى أبو سعيد ما أوردناه في الحلقة الماضية قال : وخرجت بجارية أبيعها في السوق: أي قبل أن يقدم وفدهم [وفد بني المصطلق]في فدائهم فقال لي يهودي: يا أبا أسعيد تريد بيعها وفي بطنها منك سخلة فقلت: كلا، إني كنت أعزل عنها...) لكن الآلام و الأحقاد تخفت بمرور الزمن لعوامل تاريخية شتى و يتبنى الأحفاد رواية المنتصر كما حدث في أمريكا الجنوبية مع الفاتحين الأوربيين و كيف تحولت أمريكا الجنوبية لتكون من أكثر الأماكن دفاعا عن المسيحية ، حتى أوربا الوثنية صار أحفاد المقهورين الذين حاربتهم الكنيسة منذ القرن الرابع أشد المخلصين للمسيحية قبل أن يقل تأييدهم لها في القرن الأخير . لن ندخل في تفاصيل ما رواه الآخرون عن تلك (الفتوحات) من على الضفة الأخرى منذ بدايتها (شرقا حتى ما وراء النهر و الهند و غربا مصر و شمال أفريقيا و الأندلس و حتى حدود فرنسا) ، أولئك المؤرخون الذين يمثلون وجهة نظر الآخر و يصورون مأساته و انكساراته ، سيأتي اليوم الذي يتناول فيه المختصون و المثقفون و ربما كثيرون من الناس العاديين تلك الأحداث بصورة علمية محايدة و يقومون بنقدها و تقييمها لتستفيد البشرية من تلك التجارب . الملاحظة الثانية هي جمال برة (جويرية فيما بعد) الذي اثار غيرة السيدة عائشة و قول الراوي (علما منها بموقع الجمال منه) و موقع الجمال منه (ص) تجلى في اصطفائه لريحانة بنت عمرو من سبي بني قريظة كما سنرى و في اصطفائه لصفية بنت حيي بن اخطب كما أسلفنا و ما سوف نتعرض له (الثلاث :برة و صفية و ريحانة قُتل أزواجهن في المعركة التي سبقت الاصطفاء) كما تزوج (ص) زينب بنت جحش مصداقا لوجهة نظر السيدة عائشة (علما بموقع الجمال منه) و كما روى لنا أصحاب السيرة و صدق رواياتهم القرآن (حتى إذا قضى زيد منها وطرا ..) و السيدة مارية القبطية المليحة الجعداء و التي كانت قصته معها (ص) على فراش السيدة حفصة سببا في نزول سورة التحريم . الملاحظة الثالثة : ملاحظة أن العرف في الجاهلية كان يقبل من السبايا ذوات الشرف من علية القوم أن يطلبن المكاتبة للخروج من ذل السبي و ذلك لمعرفة من سباهن بمقدرة أهلهن المالية و لهيبة مراكز أهلهن في نفوس العربان ، فالعربان يجلون الشيوخ إجلال يبلغ حد التقديس ، و هذا ما جرى مع برة ، لكن فيما بعد حين زالت هيبة الشيوخ بانتشار الإسلام لم يعد من المتوقع استمرار ذلك العرف . ملاحظة اخيرة : يروي النسائي حديثا للسيدة جويرية يبين مدى تعاطفها مع الأرقاء جاء فيه (عن مجاهد عن جويرية زوج النبي(ص) أنها قالت: يا نبي الله، أردت أن أعتق هذا الغلام، فقال رسول الله (ص):"بل أعطيه أخاك الذي في الأعراب يرعى عليه؛ فإنه أعظم لأجرك" ( 4935 النسائي) . و هو حديث يشبه الحديث الذي ورد عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي (ص) : ( أنها أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم , فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه , قالت : أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي ؟ قال : أو فعلت ؟ قالت : نعم , قال : أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك ) متفق عليه . ارتبطت غزوة بني المصطلق بما سماها صاحب السيرة الحلبية ثلاث فتن فلنتابع روايته "الأزمة الأولى صراع قام بين المهاجرين والأنصار على السقاية من بئر من آبار المنطقة ... وهي :تنازع سنان بن وبر الجهني حليف بني سالم من الأنصار وجهجاه بن سعيد الغفاري الكناني على الماء فضرب جهجاه سنانا بيده فنادى سنان يا للأنصار ونادى جهجاه : يا لقريش يا لكنانة فأقبلت قريش سراعا وأقبلت الأوس والخزرج وشهروا السلاح فتكلم في ذلك ناس من المهاجرين و الأنصار حتى ترك سنان حقه وعفا عنه واصطلحوا. فقال عبد الله بن أبي بن سلول: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" ثم أقبل على من حضر من قومه فقال "هذا ما فعلتم بأنفسكم" وسمع ذلك زيد بن أرقم فأبلغ محمد قوله فأمر بالرحيل وخرج من ساعته وتبعه الناس ... ثم نجمت عن هذه الفتنة فتنة أخرى خطيرة، وهي فتنة نداء المنافقين في أوساط الأنصار بأن يخرجوا المهاجرين من المدينة، وقال عبد الله بن أُبي بن سلول كلمته يعلق فيها على المهاجرين بقوله: "والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منا الأذل". وكانت أزمة خطيرة توشك أن تقضي على الأمة الإسلامية. ثم حدثت فتنة ثالثة شنيعة وهي حادثة الإفك، وفيها اتهم المنافقون زوجة النبي عائشة بالفاحشة، وقد وقع بعض المؤمنين في الأمر، واتسع نطاق الأزمة حتى شمل المسلمين كلهم ما بين مدافع ومهاجم وما بين مبرئ ومتهم، ولم ينزل وحي في القضية إلا بعد شهر كامل حين نزل الوحي بتبرئة السيدة عائشة من التهمة الشنيعة التي أثارها المنافقون حولها، واشترك فيها بعض المؤمنين، وكانت حادثة الإفك هذه من أشد الأزمات التي مرت بالمسلمين، ليس في هذه الفترة فقط ولكن في كل فترات السيرة النبوية." ... انتهى ما نقلناه من السيرة الحلبية و سنلقي الضوء على ما أسماها صاحب السيرة ب(الفتنة الثالثة الشنيعة و هي حادثة الإفك) ... سنقرأ تفصيل الحادثة من البخاري : لقد روى الإمام البخاري حديث الإفك في صحيحه، و هو حديث طويل سنختصر منه من غير تغيير أي كلمة في النص : "... أن عائشة زوج النبي (ص) قالت: ..... فخرجت مع رسول الله (ص) بعدما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا ... ودنونا من المدينة قافلين ... فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فالتمست عقدي، وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل العلقة من الطعام .... جئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي.فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته، فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك.... فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح ..... وقد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟! قالت: أي هنتاه، أولم تسمعي ما قال؟ قالت: قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك؛ فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله (ص) تعني سلم - ثم قال: كيف تيكم، فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ .........فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة، فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله، ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.فقام سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان - الأوس والخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت.قالت: فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع... قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني، قالت: فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس، ثم قال: أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه.قالت: فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال، قال: والله، ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقلت - وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله لقد علمت، لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقني، والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف قال:(فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) (يوسف، 18) قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها، قالت: فوالله، ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت: فلما سري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: يا عائشة، أما الله - عز وجل - فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، قالت: فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل، فأنزل الله عز وجل:(إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه ... (النور، 11) العشر الآيات كلها ....قالت عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل زينب ابنة جحش عن أمري، فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك ." انتهى حديث البخاري .... نواصل و عذرا للإطالة . [email protected]