1. الوضع الاجتماعي الحالي: السودان الآن يعيش وضعاً اجتماعياً انتقالياً حيث ينتقل الناس من القرية إلى المدينة، ليس فقط بالمعنى الجغرافي وإنما الانتقال من المجتمع القروي إلى المجتمع المدني، بمعنى الانتقال من الزراعة والرعي إلى الصناعة والخدمات، ومن التجارة المحلية إلى الرأسمالية والإنتاج الواسع، ويعني الانتقال من المجتمع العشائري المرتبط بأواصر القرابة والرحم إلى مجتمع واسع تختلط فيه الأعراق والقبائل بعقد اجتماعي وقانوني وتحت مظلة قومية. من هذا الوصف يمكن ملاحظة أن عملية (التمدن) هذه بدأت بشكل واضح في أيام الحكم البريطاني الذي أسس مفهوم المدنية الحديثة في السودان الحديث، فأسس الحكومة بمفهومها السياسي والدولة بمفهومها الإداري والمدينة بمفهومها الاجتماعي. وحيث إن الحكم الثنائي لم يمض على دخوله السودان أكثر من 115 عاماً، فإن المدينة في السودان ما زالت يافعة ولم تنضج بعد. ويمكن الآن لمعظم سكان المدن السودانية أن يتتبعوا أصولهم الريفية في جيلين أو ثلاثة بالأكثر، بمعنى أن الذي لم يهاجر بنفسه من الريف إلى المدينة يكون أبوه أو جده هو الذي هاجر. يشهد لذلك أن نسبة سكان المدن هي 33.2% أي أن سكان الأرياف هم ضعف سكان المدن (2011 CIA). إضافة إلى ذلك فإن هذا التمدن القليل هو تمدن شائه. فسكان الأرياف قدموا إلى المدن دون أن يتركوا القروية، بل حملوها معهم إلى المدينة فاستمروا في زراعة المساحات الصغيرة (الحواشات) حول المدن – حتى العاصمة – ورعوا الماشية وسكنوا في تكتلات قبلية أو جهوية، فكانت المدينة في كثير من الأحيان عبارة عن تجميع جغرافي لقرى متباعدة دون أن ينشأ عن هذا التجميع خليط متجانس أو ثقافة مدنية. الثقافة المدنية كانت تصدر عن النخبة المتعلمة وأهل الأسفار ولكن مصدرها الأساس كان هو الدولة. لا ننسى أن المدينة هي في الأساس تقسيم إداري للتكتلات السكانية الكبيرة، وهكذا يأتي موظفو الدولة بثقافة وتقاليد مدنية فرضتها ثقافة الدولة القطرية الحديثة. هذه المؤسسات والنظم الإدارية تغري القطاع الخاص الذي يتخذ أساليب مشابهة للتوسع وتسهيل إدارة الأعمال الكبيرة، فتنتشر بذلك طبقة الموظفين أو (الأفندية)، وتنتشر معها ثقافة المدينة. غير أن هذا التمدن يسير بخطى متثاقلة في مقابل دفق ريفي متسارع على المدن. والذي فاقم من ذلك هو جهاز الدولة، الراعي الأساس للتمدن. فالدولة، سوى أنها نفسها جهاز مدني يبث المدنية عبر منسوبيه، هي الجهة المنظمة (regulator) لحالة الاجتماع المدني وهي المسؤولة عن تمكن هذا الاجتماع من الخروج كنسيج متماسك هو مجتمع المدينة. ولكن الدولة في السودان صنعها البريطانيون لأغراضهم ثم رحلوا فباتت من بعدهم ضعيفة واهنة لا تقوى على شأن نفسها ناهيك عن شأن الناس. والأدهى من ذلك أن النظام السياسي – الحالي تحديداً – لجأ إلى القبيلة لتحقيق مآرب سياسية، فصنع بذلك ردة اجتماعية كبيرة بمنح القبيلة صفة اعتبارية والاعتراف بها ليس فقط كمؤسسة اجتماعية، ولكن كمؤسسة سياسية لها دور سلطوي. وبعد أن كان المجتمع المدني يكافح بصعوبة لتذوب القبيلة داخل المدن، منحتها الانتهازية السياسية صلابة جديدة وأصبح المجتمع المدني يكافح الآن حتى لا يذوب هو داخل القبيلة. إذًا فثلثا سكان السودان يعيشون في القرى والذين انتقلوا إلى المدن انتقلوا بإشكالات القرية واكتسبوا إشكالات المدينة دون كثير من محاسنها. فقد انتقلوا بالولاءات القبلية والاقتصاد ضعيف الإنتاج واكتسبوا عادات الاستهلاك والتطلعات المدنية، فصاروا يطلبون خدمات المدينة دون أن يكون لهم إنتاج أهلها، وصاروا يطلبون حظهم من الحكم والسلطان دون أن يتنازلوا عن الولاء للقبيلة أو يمنحوه للوطن الكبير. كل ذلك يجعل من المدينة السودانية ما يمكن أن يسمى – للطرافة – (قرينة)، نصف قرية ونصف مدينة وهي تقرن بين الحالين! وهي في انتقال مستمر نشهده جميعاً فيسعدنا أحياناً ويزعجنا أخرى. فقد يلاحظ المرء كيف اكتسب السودانيون بعض المسالك الحضارية التي كانت معدومة كأدب الاصطفاف وانتظار الدور، والتبسم لطالب الخدمة (فقط في بعض القطاع الخاص، ما زالت معدومة في الحكومة!)، ولين الطباع وتهذيب الكلام وترك الكثير من العادات الاجتماعية القروية المتخلفة في مناسبات الأفراح والأحزان. ولكننا أيضاً نشهد أشكالا للجريمة لم تعرفها القرى إطلاقاً ربما معزاها غربة الناس عن بعضهم في المدينة وانعدام الألفة وزيادة الحاجة، وهذا أمر يطول فيه البحث. المراد هنا هو الإقرار بأن السودان لا يزال قطراً ضعيف التكوين وهو يعيش انتقالاً من كونه مجموعة قبائل متباعدة ذات ثقافات متباينة، إلى كيان محتل ثم دولة وكأنها ظهرت إلى الوجود كمساحة تركها الذين من حولها عندما رسموا حدودهم! كيان لا تجمع مكوناته قومية واحدة ولا يزال يبحث عن هوية وقد بدأت أطرافه في التنافر عن بعضها حد الانقسام. إن مثل المجتمع السوداني مع دولة السودان كمثل الروح الصبية في الجسد الهرم، فالروح يافعة متطلعة ما زالت تتنقل في أطوارها الأولى إلى النضج بكثير من المغامرة والتقلبات ولكن جسدها الضعيف لم يعد يحتمل فبدأ يتداعى وأطرافه وأعضاؤه تنهار تباعاً حتى إذا مات الجسد انطلقت الروح تبحث عن جسد شاب يحملها ويحتمل صبوتها وهو لن يكون بذات صفات السابق ولا شكله ولكن ليس في ذلك بأس، لا بأس إطلاقاً إن أفلح هذا التزاوج في الانطلاق نحو المستقبل بقوة ودفع وأمل. الشرق