مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    سلطان دار مساليت: إرادة الشعب السوداني وقوة الله نسفت مخطط إعلان دولة دارفور من باريس    نقاشات السياسيين كلها على خلفية (إقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    هل رضيت؟    الخال والسيرة الهلالية!    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    الإمارات العربية تتبرأ من دعم مليشيا الدعم السريع    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المُخْتَار فِي فَهِمِ أشعارِ المسْدار ..
نشر في الراكوبة يوم 24 - 06 - 2014

المسدار نوع من الشعر الشعبي منتشر بين القبائل الرعوية في السودان وخاصة أرض البطانة، وهي المنطقة الواقعة بين نهري عطبرة و النيل الأزرق في شرق البلاد. يعتبر هذا الشعر الشعبي من الموروثات التراثية الاجتماعية لأنه يحفظ لغة البادية و يؤرخ لزمان و مكان إنسانها وتغيرات المجتمع المصاحبة لتطوره. رغم اندثار المسدار في العقود الماضية إلا من قلوب وعقول المهتمين به ، انتشر هذا الفن مؤخراً كأداة من أدوات العمل السياسي والاجتماعي التي لاقت رواجاً عبر الوسائط الإعلامية الحديثة المختلفة. لأهمية و رقي هذا الشعر الذكي الملئ بالصور البلاغية التي تخاطب العقل و الوجدان، رأيت أن أعرّف القارئ بفنه الجميل فلفن المسدار قوالب شكلية شعرية ثابتة بينما يختلف المضمون والموصوف.
أصل ومعني المسدار:
لا يعرف لكلمة "مسدار" أصلٌ واضح ولكن هنالك الكثير من البحث اللغوي الموثق الذي حاول سبْر غَوْر أصل الكلمة. أول من حاول الاستدلال بفن المسدار في بحث لغوي حديث كان الشاعر السوداني محمد محمد علي في رسالته لنيل درجة الماجستير من دار العلوم بالقاهرة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي و موضوعها " الشعر السوداني في المعارك السياسية 1820-1920م" و فيها اسْتدلّ بالكثير من شعر محمد أحمد عوض الكريم أبو سن الملقّب بالحاردلو( 1830-1916 م) وشاعرة الحرب والحماسة؛ شغبة المرغومابية التي تنازعت جسداً وروحاً بين قبيلتي الكواهلة والبطاحين وهنّ من كبريات قبائل البطانة وساهمت في إذكاء نار الحرب التي خلدتها بأشعار حماسية مأثورة كان بعضها ممن أقتبسه الشاعر محمد طه القدال في قصيدته أمُّونة "بَطْنكْ كرَّشَتْ غيّ البَنْاتْ ناسِي، دِقْنكْ حَمّستْ جِلْدَكْ خَرِشْ مافِي".
كان أول من حاول التحقيق في أصل الكلمة العالم المصري الراحل وأستاذ الأدب العربي في الجامعات السودانية عبد المجيد عابدين ( دأبنا دوماً أن نُكْتَشَف ولا نَكْتشِف مآثرنا) عندما أصدر كتابه " الحاردلو شاعر البطانة" بالاشتراك مع الباحث السوداني العصامي المبارك إبراهيم في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. بدراسته لقصيدة المسدار أيقن الدكتور عبد المجيد عابدين أنها غالباً ما تحمل في مضمونها سرد قصصي فأرجح أن الفعل الثلاثي (سَدَرَ) وهو إبدال ل( سَرَدَ) وهي تتابع الحديث والقصص فخلُص إلي أن كلمة مسدار تعني قصة أو حكاية شعرية كما في الأدب الأوروبي ، يؤخذ علي هذا التخريج أن إبدال حرفي الراء و الدال غير شائع في العامية السودانية كما أن مصدر الفعل يجب أن يأتي علي وزن مفعول (مسرود)، لذا لم يلقْ هذا التفسير رواجاً بين دارسي الشعر الشعبي ممن خلفوا العالم الجليل في تقْفِي أثر المعني.
حاول التحقيق بعده عالمٌ علّامة و بحرٌ فهّامة في علوم التراث واللغة، أصدر الراحل البروفيسور عون الشريف قاسم كتابه الموسوم " قاموس اللهجة العامية في السودان" في أوائل السبعينيات بعد جهد علمي و بحث مضنٍ و فيه استوثق واستنبط أصول جلّ الكلمات السودانية الدارجة، و يعدُ الكتاب منارةً لأصول اللهجة العامية سارت علي هديه جموع باحثي التراث الشعبي. في كتابه أرجع عون الشريف قاسم أصل كلمة مسدار للأصل العربي "سَدَرَ" و معناها لغوياً ذهب لا ينثني علي شيئ و استدلّ عنها بذكاء فطري ببيت الشاعر المهاجري ود ضحوية ( مثلهم كمثل الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي) " ما دام بتْ أمّ قجة واردة و سادرة بالمسدار- شنْ جابر علي الحش و الملود الحار) و يعني إذا كانت الناقة (أم قجّة) تنطلق ذهاباً و إياباً في المرعي الخصيب فلماذا يجبر نفسه علي الزراعة (بالحش و الملود) التي تجهد النفس، و يبْرر ُكالكثيرين غيره أخذها عنوة " إبِلْ البِعْشِي مِرْيتُو قبل الجار" بأن صاحبها يطعم زوجه قبل جاره لذا لا يحق له أن يمتلكها. في استدلاله وردت الكلمة في مقابلة لغوية واضحة ( وَرَدَ: أتي ، سَدَرَ : ذهب) كما وردت كلمة مسدار بمعني واضح تشير إلي مكان المرعي.
بعد سنوات سار علي هذا الدرب تلميذٌ نجيبٌ ممن نهلوا من معين الحَبْر الجليل فأصدر الدكتور (البروفيسور لاحقاً) محمد سيد حامد حريز عندما كان باحثاً في التراث بمعهد الدراسات السودانية بجامعة الخرطوم أفضل بحث علمي في هذا النهج في كتابه " فن المسدار" الذي يعتبر مرجعاً و دليلاً هاماً لباحثي التراث و محبي الأدب الشعبي (لا تتوفر نسخ بسهولة من هذا الكتاب رغم أهميته مما جعل الكثيرون ينادون بالتوثيق الإلكتروني لكتب الأدب الشعبي) ، و فيه أسهب المؤلف في بحث أصل الكلمة و ذكر رأياً مشابهاً لما سبق و لكن زاد عليه بأن المسدار يعني المرعي كما يعني القصيدة و بيّن أن المسدار يصف المكان و الزمان كما فصّل و غالباً ما يحكي في مضمونه قصة ً بعد أن يطوف في حواش المعاني.
حقّق الدكتور إبراهيم الحاردلو الأستاذ سابقاً بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ديوان جَدّه السابق ذكره وفي معرض بحثه خالف في أصل الكلمة تخريج الدكتور عبد المجيد عابدين صراحة و عون الشريف قاسم ضمنياً و مضي إلي ردِّ الكلمة الي اللغة البجاوية - و قبائل البجة من أقدم سكان السودان و إفريقيا- التي كثيراً ما أقتبس شعراء البطانة من كُنُوزِها ، و خَلُص إلي أن كلمة "سدر" تعني "نَظَمَ - أي نظم القصيد و الشعر- في اللغةِ السامية أمِّ اللغة البجاوية التي خبر دروبها لتخصصه في اللغة العبرية ، سار في هذا النهج في مطلع الألفية الثانية تلميذه البروفيسور إبراهيم القرشي الذي مضي فزان كتب الشعر الشعبي بدراسة ممتعة و متفرّدة قارن فيها شعر أمير شعراء البطانة (الحاردلو) بأمير شعراء العصر الجاهلي (إمرئ القيس).
بجانب هؤلاء العلماء الأجلاء أسهم الكثيرون من باحثي و محبي التراث الشعبي في حفظ و توثيق هذا الضرب من الثقافة نذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر، الباحث الشعبي الراحل الطيب محمد الطيب (دوباي)، أحمد إبراهيم أبوسن (تاريخ الشكرية و نماذج من شعر البطانة) ،ميرغني ديشاب (معجم شعراء البطانة)، إبراهيم سالم البطحاني ( مسادير البطانة)، الراحل حَسّان أبوعاقلة أبوسن ( سياحة في عالم الشاعر أحمد عوض الكريم أبو سن) و الباحثين المعاصرين محمد الفاتح يوسف أبوعاقلة ( من خصائص الشعر الشعبي) و أسعد الطيب العباسي.
شعراء المسادير:
أشتهر من شعراء المسادير في نهاية القرن التاسع عشر إبْنا ناظر الشكرية أحمد (بك) عوض الكريم أبوسن ، عبد الله و محمد الملقّب بالحاردلو أميرشعراء المسادير(مسدار الصيد و المِطْيرِقْ) ، أعقبهم شيخ العرب أحمد عوض الكريم أبوسن (مسدار رفاعة و الصباغ) و الشاعر عبد الله ود حمد ودشوراني الكواهلي (مسدار النجوم) و الصادق ود آمنة (مسدار أم شديدة) و عبد الله ود أبوسن (مسدار سيتيت) و من خارج البطانة إشتهر شعراء الهمباتة الجعليين ود ضحوية و طه الضرير ومن بربر الشاعر إبراهيم الفراش الذي عاصر الحاردلو و لم يمنعه أصله المصري من إجادة لغة البادية فأضاف لها الكثير من المعاني ، يضاف إليهم الشاعرعكير الدامر.
حديثاً أشتهر الشعراء المعاصرون المتميزون أحمد الفرجوني (مسدار البطانة) و محمد طه القدال (مسدار أبو السرة) ومحمد الفاتح أبو عاقلة و محمد الحسن إبنعوف (مسدار النصيحة ) الذين حافظوا علي جذوة هذا الفن البديع.
الشكل:
تتكوّن قصيدة المسدار من أبيات رباعية (رباعيات أو مربعات) تنقسم إلي بيتي صدر (مقدمة) و بيتي عجز ( مؤخرة) حيث تتوافق في القافية و تختلف في المضمون ، غالباً ما يكون الصدر عاماً في الوصف و يكون العجز خاصاً في المعني المراد.
يقول الشاعر (مما ينسب للحاردلو) و لحّنه الموسيقار محمد الأمين:
يا خالق الو جود أنا قلبي كاتم سرّو
ما لقيت منْ يدْرك المعني ليهو أبرو
قصبة منصح الوادي المخدِّر درِّو
قعدت قلبي تطويهو و كل ساعة تفرِّو
(يا خالق الكون إن قلبي يكتم سرّ حبه و لم أجد من يلمُّ بمغزاه فأبره بهذا السر الدفين ، تلك الجميلة (القصبة) التي نشأت في وادٍ ارتوى بماء السيل حتي إخضرِّت حشائشه (منصح عربية فصيحة بهذا المعني في لسان العرب، ذرّ (قلبت الذال دالاً كما في العامية السودانية وهي فصيحة) : صغار العشب و تطلق أيضاً علي صغار النمل) ، تلك الجميلة أخذت تلعب بقلبي فتطويه بين يديها ثم تنشره كرةً أخري.)
المضمون:
يختلف مضمون شعر المسادير باختلاف الزمان والمكان، و يختلف الوصف باختلاف مقتضي الحال، وكدأب الشعراء دوماً يدْغَدِغُ الجمال أوتار قلوبهم فتسيل الأشعار و المعاني سلسبيلاً عذباً في نظم قصيدهم . في الماضي كانت الطبيعة، البيئة المحيطة بنْباتاتِها و حيواناتِها، الصيد و القنص ، صفات الفروسية و جمال المحبوبة ، أهم المعاني التي استنبط منها الشعراء إلهامهم . رغم أن المسادير الحديثة اختلفت في المضمون إلا أنها لا زالت تدور في فلك الماضي لاسيما صفات الفروسية ووصف المحبوبة.
في وصف الطبيعة و نزول المطر بأرض البطانة رسم الشاعر الحاردلو لوحةً مليئةً بالصور الجمالية في مسدار الصيد أعجبت كاتبنا الراحل الطيب صالح فشارك بها قرائه في صفحته الأخيرة بمجلة الدوحة أيقونة الثقافة العربية في ذاك الزمان:
الخبر اللكيد قالوا البطانة اتْرشّتْ
ساريةً تبْقَبْق للصباح مانْفشّتْ
هَاجْ فَحَلْ أمُّ صِرْيصِر و المَنَايحْ بشّتْ
وبِتْ أم ساقْ عَلي حَدَبْ الفَرِيقْ اتْعشّتْ
إن الخبر المؤكد إن أرض البطانة قد أصابها رشاش المطر الذي لم ينقطع طوال الليل (سارية: مطر الليل)، و كان البرق يتْلألأ (يبْقبْق: تمعّن في استخدام الكلمة كاستعارة لفظية تشير إلي المعني وهو أمر شائع في كل اللغات ) ولم يتوقف المطر حتي شروق الشمس (فَشّ: خفّ وسَكَن : عربية فصيحة)، و لقد هاجت الحيوانات جزلة مثل حشرات الخريف (أم صريصر) وفرحت و امتلأت ضروع البهائم (منيحة : الشاة أو الناقة ، بشّ : تهلل بالسرور ) ، و لكثرة الحشائش استطاعت الناقة (بت أم ساق) أن تأكل العشب من مسافة قريبة من السكن دون الحوجة للسفر للبحث عن الكلأ (حدب: الأرض المرتفعة و تعني هنا طرف ، الفريق الطآئفة من الناس وتعني في العامية القرية أو محل السكن).
واصل الشاعر في وصف الطبيعة في الخريف :
البارِحْ بشْوفُ بشْلّعْ برِيقْ النَوْ
وحِسّ رَعّادُو بِجْرحْ فِي الضَمِير كَو ، كَو
داك كير القطا دوّر مَشارِع الهَوْ
وفُرْقَان البُطَانَة اتْمَاسَّكَن بالْضَوْ
ليلة البارحة رأيت السحاب الممطر يبرق متتابعاً، و كان دوىُّ الرعد المتعاقب يُحسُّ بشدة في دواخل القلب، بعد نزول المطر رأيت سرب طير القطا غيّر مساره نحو تجمع المياه الوافرة في مشرع "الهَوْ"، كما رأيت ليلاً قري البطانة مضاءة بالمصابيح من علي البعد و قد تماسكت كالعقد المضئ ( البارح: الليلة الماضية، شاف: رأي، بشلع: برق و تلألأ ، جرح: أصاب ، الضمير: القلب ، كو: لفظ للتعبير عن دوىّ الرعد، لاحظ التوكيد اللفظي الذي جسد المعني بقوة، كير: سرب - وردت أيضاً في بعض الروايات طير، القطا: من أنواع الطيور التي تصاد، دوّر: التف و غيّر اتجاهه ، مشارع : جمع مشرع وهو مورد الماء، الهو: اسم مورد للماء بالبطانة).
ووصف أحمد عوض الكريم أبو سن جَمْلِه الذي يعتز به في مسدار الصباغ:
جاو باري العطاش تيس الرواين داحْ
كُوْرُو يِجْض مِتْل كلب الخلا النباحْ
هَجّامْ دَكّة الرَعْنَاء أم عَبِيراً فاحْ
مَصَعْ و اتْهَبْلعْ الربِّد الوطاتو صباحْ
لقد أتي الجمل الملقب ب(باري العطاش) الذي يشبه ذكر وقائد الظباء في جماله (تيس: ذكر، الروينة: الظباء الراتعة) وهو في مسيره المسرع يصدر أصواتاً متتابعة من احتكاك السرج مثل نباح الكلب الذي يطارد فريسته في الخلاء (كُوْر: السرج علي ظهر الناقة، يجض: إبدال يضجّ: الصياح العالي)، ووصل مسرعاً إلي ديار المحبوبة المنعّمة والمترفة التي مافتئت تضوح شذيً و عطراً، و كان في سيره المميز كالنعامة السريعة النْشِطة في الصباح الباكر( دكة: الأرض المرتفعة، الرنعاء: المنعّمة و فسّرت أيضاً بمعني بضة الجسم، عبير: شذي وعطر، فاح: انتشر، المصع: من ضروب سير الدواب وهو عدو سريع مع تحريك الذنب ، الهبلع : كلب الصيد السلوقي السريع الجري، الأربد : ذو لون رمادي وهي أنثي النعام و يقابلها الذكر الأسود اللون المعروف بالظليم (الضليم بالعامية)، وطاة : وقت )
ومما ينسب للحاردلو استعطافه للخليفة التعايشي في زمن المهدية للعفو عن عمارة ود أبوسن، نورد بعضاً مما أنشده:
مِنْ قُومة الجَهْل ولْداً مُمَيز عُومو
حافلات اللَبوسْ فيهم بيغزِرْ كُومو
خليفه المنتظر عمارة أغفر لومو
جاكْ كبشْ الضَحِيةْ الليلةْ آخر يومو
مما كان عمارة طفلاً يافعاً يجهل الحياة تبيّن أنه مُتميّز يبزُّ أقرانه، و هو شجاع عند الحرب يغْنَم الخيل المحفّلة و له نصيب وافر منها، ياخليفة المهدي المنتظر أغفر لعمارة فقد جاءك كبش الفداء واليوم آخر أيامه.( العوم: السباحة، الخيل المحفّلة: التي تلبس دروع الحرب، يُغْزِّر: يُكْثر، كُوم: حصة ونصيب، كبش الضحية : كبش الفداء).
يقال فسأله مَنْ فِي المجلس " و من هذا الذي أسرفت في وصفه؟ " فأفاض في مدحه بما لحنّه الفنان المثقّف عبد الكريم الكابلي الذي كان له السبق في إدخال التراث الشعبي في ثقافة الغناء:
دا إنَّ أداك و كتّر ما بِقُول أدْيتْ
أبْ درقْ المُوشَحْ جِلْدُوا بالسُوميتْ
أبْ رِسْوة البِكْرْ حَسّرْ وُرُود سَيتِيتْ
كاتَالْ فِي الخَلا وعُقْبانْ كَرِيمْ في البَيتْ
هذا الرجل الشهم الكريم إن أعطاك وأجزل لك العطاء فهو لا يمنُّ عليك، و هو شجاع مغوار كالثعبان الذي ينفخ أوداجه كترس الحرب (الكوبرا) و يتوشح جلده بالألوان كما الخرز، وهو كالضرغام الذي يهجم فيمنع الناس من ورود الماء في نهر سيتيت وهو رغم بسالته و قتاله في ساحة الوغي إلا أنه عقب ذلك كريم ومضياف في بيته يجمع بين نقيضي الشدة واللين. (أب درق: اللفظ البدوي لثعبان الكوبرا، توشح: ازدان، السوميت: خرز شعبي ملوّن، رسوة: قلادة و يصف بها شعر العنق الكثيف وأب رسوة كناية عن الأسد، يكرّ: يهجم، حسّر: منع ، ورود الماء: طلب الماء، كاتال (عامية): مقاتل، الخلا: الخلاء، عقبان (عامية) : عقب ذلك ).
في أبيات موجزة وفّى و كفّى الشاعر ممدوحه بوصفه بصفات الكرم و الجود، عدم المنّ والأذى، الشجاعة والبسالة، الإقدام والمروءة وهو مدحٌ فريد يمجّد قيِّم الفروسية و البطولة في إنسان البادية.
كما سبق وصفه، يمتلئ شعر المسدار بالصور البلاغية التي تشكل لوحة فنية رائعة ، فالتشبيه لا يكون مباشراً بل عن طريق تورية واستعارات لفظية بلاغية شديدة الذكاء مرتبطةً بالبيئة المحلية تصاغ في قالب موسيقي يكثر فيه السجع و الجناس. يتميّز شعراء المسادير حسب قدرتهم في رسم الواقع عبر لوحة بلاغية تثير الخيال و تخاطب الوجدان، كما يلاحظ فطرة استخدام لغة البادية التي تختلف عن لغة المدن خاصة تلك التي تصف الطبيعة بنباتها و حيوانها.
الأدب الشعبي من الموروثات الثقافية التي يجب أن تحافظ عليها الأمم لأنها كنز ثقافي واجتماعي يوثق للزمان والمكان. يعاني المهتمين بهذا الضرب من الثقافة في تقفي المصادر والمواد التي تعني بهذا الفن ومعظم المواد الموثقة جهد ذاتي من أفراد اهتموا بأن يجمعوا هذا الأدب الثقافي اليتيم في زمن مادي يصعب فيه تخصيص الوقت والجهد والعمل، أملنا أن تتضافر الجهود في المستقبل لجمع وتوثيق و نشر فن المسدار في إطار مشروع قومي.
+++
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.