المؤرخون الذين كتبوا المصنفات الطويلة تحت بصر وسمع الخلفاء لا يعلنون لنا : لماذا فشل مذهب الأوزاعي الفقهي في الشام موطنه أولا , ثم في الأندلس ثانيا , وذهبت ريحه إلى أبد الآبدين ؟ ولكننا نعلم , ونعلم أن الأندلس لم تقبل مذهبه في أول أمرها إلا لأنه أموي , ولكنها لفظته عندما عرفت ضرورة الوحدة ولم الشمل , ونعلم أن موطنه الشام ولبنان وبيروت التي مات فيها تلك الموتة المشبوهة لم تحتفظ بمذهبه فترة من الزمن إلا بدافع العصبية الجغرافية , وبدافع بعض العواطف القديمة على خلفاء بني أمية بعد أن قتل آخر خلفائهم مروان بن محمد . من الأسئلة المهمة التي ينبغي أن يتعرض لها كل من أهتم بمخترع حديث وفكرة الردة فقهيا هي لماذا انتشر وثبت مذهب أبي حنيفة الذي ولد ومات مثله تقريبا في نفس الفترة من القرن الثاني الهجري ولم يلق مذهب أو نثارات مذهب الأوزاعي تلك ا لفرصة من النشر ؟ لاشك أن مذهب الأوزاعي انتشر في بداية أمر دولة بني أمية في الأندلس الذين كانوا يحاولون وسعهم أن يجعلوا الساعة تعود إلى الوراء وأن تشرق شمس الأمويين مرة أخرى من الغرب . ولكن عبد الرحمن الداخل كان رجلا صالحا ومميزا , وأدرك منذ البدء مقدار الرمال المتحركة التي يسير فوقها , والتي سار فوقها من خلفوه حتى تحولت دولة قرطبة إلى دولة الطوائف مع أن المذهب المالكي الأكثر تسامحا وقربا من العامة والقادر على جمع الشمل وتوحيد الكلمة والمرونة في معالجة القضايا الشائكة كان قد أزاح مذهب الأوزاعي الأموي الذي كان لا ينبع من عقله وإنما من حد السيف لكل معارض لأحاديثه الموضوعة التي كان يبصم عليها ويصدقها خاتم الخليفة وديوان وضع القصص والحكايات . انتصار مذهب على آخر لم يكن العامل الحاسم في بقاء دولة الأندلس لأن المذهب المالكي كان يتعرض لهجمات من الخلفاء ومن فقهائهم أمثال الأوزاعي ولذلك لن يكون غريبا أن يفصلوا ويدرسوا ويشرعوا في الردة وحديثها أو أن ينصاع فقهاء المالكية المعينين في وظائف القضاء لاتجاهات السلطة خاصة وأن حكام دولة الأندلس كانوا يخافون من الحركات الدينية فيواجهونها بقسوة وحزم ولكن قبل القسوة والحزم لابد من تكفيرها وإعلان ردتها كما فعلوا مع عمر بن حفصون الذي تمرد على بني أمية وأقام الكنائس والأديرة , وإنما كان العامل الحاسم هو نوعية الإدارة المدنية في الأندلس وفي عموم الدولة الإسلامية منذ بدايات نشوئها . فنظام الحكم الإقطاعي كان خطوة سياسية واجتماعية متقدمة في العصور الوسطى على نظام الخلافة الإسلامية في الأندلس الذي جمع السلطة كلها في يد واحدة تمسك بحد السيف في يد وبحد الردة في يد أخرى و يتواطأ الفقهاء مع ذلك مما شجع التمرد وتحول التمرد بمساعدة مسيحيي الشمال إلى ردة فوجد فقهاء المالكية في الأندلس الفرصة مواتية لتعميق فكرة قتل المرتد ( المتمرد ) في الأندلس التي ظنوها فكرة أصيلة في الإسلام ومع دوام الاضطرابات تطورت بتلك التفصيلات التي نراها في مذهبهم . فحد الردة هو من أول الحدود التي طورتها حركات التمرد على الدولة الإسلامية وحركات الأفكار السياسية بل نمو الدولة المستبدة في عموم العالم الإسلامي وسار في نموه مع نمو السلطة المستبدة ولم ينفصل عنها أبدا حتى اليوم . وكان العمل والتمسك بحد الردة يزداد كلما تفاقم الصراع بين الإسلام في الأندلس والمسيحية , ولم يأخذ أمراء وخلفاء الأندلس من كل فقه الأوزاعي الذي فشل في الصمود سوى حد الردة واستعمله الخلفاء في حروبهم الداخلية التي استمرت في زمن كل خليفة وكل أمير وكانوا كثيرا ما يغزون الممالك المسيحية في الشمال وكثير من المؤرخين يعتقدون أن سبب ذلك هو البحث عن الغنائم ولكن السبب الأوضح أن تلك الممالك كانت تدعم كل من يرتد ويؤسس إمارة مسيحية وربما أن ا لحساسية المفرطة بين المسلمين والمسيحيين وردة المسلم ليكون نصرانيا قد أتي من إمارة الأندلس . ومثلما حدث في السودان بفصل الجنوب المسيحي كانت إمارات أندلسية تنفصل مرتدة كإمارة عمر بن حفصون الذي أخرجه المسلمون من قبره حتى يتحققوا من التحاقه بالمسيحية بمراسيم دفنه وصارت أمواله فيئا وقتلت ابنته . ثم تحولت الأندلس بعد ذلك كلها لدولة مسيحية برغم حد الردة وبرغم سيطرة عقلية الأوزاعي من خلال فقهاء المذهب المالكي . الإمام مالك رحمه الله ومذهبه كانا ضحية لتشدد المسلمين والخلفاء وفقهاء المال وملك اليمين . فقد عاش الإمام مالك المولود في 93 للهجرة والمتوفي في 179 منها في نفس زمن الأوزاعي فقيه لبنان وبيروت وملوك بني أمية في أواخر عهدهم ولابد أنه تعرض لاهتمامات السلطة وخياراتها في العسف بالخصوم , ولتشدد الأمويين مع الإمام مالك وضربه والتشهير به في قضية ( الإكراه ) لابد أنه لان لهم في أحاديثه عن الردة وحدها . ثم لان فقهاء المالكية في الأندلس بعد ذلك . المؤرخون لا يعلنون لنا لماذا فشل مذهب الأوزاعي في الأندلس وحل محله مذهب الإمام مالك وكان فشل ذاك المذهب مبكرا من بناء الدولة الأندلسية . ففي عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل رحل بعض العلماء إلى المشرق وعادوا بمذهب يجنح إلى المنطقية والعقلانية وإلى البعد الواقعي في أحكامه وإلى الوسطية والاعتدال والتيسير في أحكامه وأرائه وكان متقبلا للتجديد ومواكبة العصر والأخذ بالعادة الحسنة وتحقق أولئك العلماء من وفرة مصادر هذا المذهب الفقهي وجنوحه إلى الرأي الصحيح من الشرع والقياس ورأوا أنه حتى في القرآن والسنة لا يقبل بظاهر النص وإنما يقبل أيضا مفاهيم الدلالات وروح السياق ويقبل كل التشريعات التي شرعت لأهل الأديان السابقة وأنه كان يقبل أنواعا في القياس لا يقبلها غيره كالمركب والمخصوص والعكسي وتصحيح حكم المخالف وكان ينادي بأفكار فقهية من أمثال الجرح مرفوع والمشقة تجلب التيسير والضرر يزال والضرورات تبيح المحظورات والأصل في الأشياء الطهارة والإباحة ولابد أن فقيه الحيل والمداورات ومتخصص القتل بحد الردة كان غائبا أو مغيبا عن تلك الطفرات التي توصل لها مالك وهو في المدينة داخل الصحراء قبل أن يتلوث مذهبه برغبة الخلفاء بالقضاء على المعارضين بأي ثمن حتى ولو كان بحد الردة . فقد كان مالك يرفض تكفير المسلمين وعندما سئل عن المعتزلة أكفار هم قال : من الكفر قد فروا , وهذا سبب من أسباب زوال مذهب الأوزاعي وهو تكفير المسلمين والتصريح بردتهم وكان سببا من أسباب الفتن السياسية التي لاحظها حكام الأندلس الأوائل في وسط كثير الطوائف والقلاقل والممالك المسيحية فأرادوا استبداله بمذهب لا يجنح إلى التكفير ولا إلى الردة . ولكي نعطي صورة لفقهاء الحيل الذين كانوا يبيعون الفتوى بعرض الدنيا نلجأ إلى كتاب جمعت قصصه من كل عصور الاستبداد الإسلامي وتعطي صورة أقرب إلى الحقيقة من كل تاريخ الإسلام الذي لوثته شبهات الوضع والاختلاق والتزيين والتقديس لأنه كتب في دور وصوالين الخلفاء وليس في المقاهي الشعبية كما يظن الكثيرون . ألف ليلة وليلة . حكاية هارون الرشيد مع الإمام أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة . ولكن أبا حنيفة وهو أول من وضع مذهبا في تاريخ الإسلام وأول الأئمة الأربعة فقد كان مغضوبا عليه من الأمويين والعباسيين كما رأينا من قبل , ولد في الكوفة , وكان أصله فارسيا أو نبطيا , وربما ألصقت القصة بأتباعه وهي أكثر انسجاما مع تاريخ وحياة وفشل الأوزاعي عند الخاصة من خلفاء وأمراء والعامة من جماهير الشعب الذين كان لا يقبل أن يكونوا طرفا في موضوع ( الإجماع ) بل وكذلك بعض الفقهاء . تقول القصة : " حكي أن جعفر البرمكي نادم الرشيد ليلة , فقال الرشيد : " يا جعفر بلغني أنك اشتريت الجارية الفلانية ولي مدة أتطلبها , فبعها لي . " فقال : " لا أبيعها يا أمير المؤمنين " فقال : " هبها لي " فقال : " لا أهبها " فقال الرشيد : " زبيدة ( زوجته ) طالق ثلاثا إن لم تبعها لي أو تهبها لي " قال جعفر : " زوجتي طالق ثلاثا إن بعتها أو وهبتها لك " ثم أفاقا من نشوتهما وعلما أنهم وقعا في أمر عظيم وعجزا عن تدبير الحيلة , فقال الرشيد: " هذه واقعة ليس لها غير أبي يوسف " ( وربما يعني الأوزاعي وربما يعني أبا يوسف بعد أن طلب الدنيا ورمى الحنفية وراء ظهره ) فطلبوه وكان ذلك في منتصف الليل , فلما جاء الرسول قام فزعا وقال في نفسه . " ما طلبت إلا لأمر حدث في الإسلام " ثم خرج مسرعا وركب بغلته وقال لغلامه : " خذ معك مخلاة البغلة لعلها لم تستوف عليقها , فإذا دخلنا دار الخلافة فضع لها المخلاة حتى تأكل ما بقي من عليقها إلى حين خروجي " فقال الغلام : " سمعا وطاعة " فلما دخل على الرشيد قام له وأجلسه على سريره بجانبه وكان لا يجلس معه أحدا غيره وقال له : " ما طلبناك في هذا الوقت إلا لأمر مهم وهو كذا وكذا , وقد عجزنا عن تدبير ( الحيلة ) " فقال : " يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر أسهل ما يكون عندي " ثم قال : " يا جعفر . بع لأمير المؤمنين نصفها وهب له نصفها الآخر و بذلك تبرآن في يمينكما ذلك " فانسر أمير المؤمنين بذلك وفعلا ما أمرهما به . ثم قال الرشيد : " أريد أن أتزوج الجارية في هذا الوقت " فقال أبو يوسف . ( وهو بالطبع يبحث عن حيلة ) " ائتوني بمملوك ( عبد ) من مماليك أمير المؤمنين الذي لم يجر عليه العتق " ( وكلمة العتق هنا مهمة حتى يتم استغلاله في الفتوى ) فأحضروا مملوكا فقال أبو يوسف " " ائذن لي أن أزوجها منه ثم يطلقها فيحل أن تهدى له في هذا الوقت من غير استبراء " فأعجب الرشيد بذلك أكثر من الأول , فلما حضر المملوك قال الخليفة للقاضي . " أذنت لك في العقد " فأوجب القاضي الزواج ثم قبله المملوك , وبعد ذلك قال له القاضي : " طلقها ولك مئة دينار " فقال : " لا أفعل " ولم يزل يزيده وهو يمتنع إلى أن عرض عليه ألف دينار , ثم قال للقاضي : " هل الطلاق بيدي أم بيدك أم بيد أمير المؤمنين ؟ " قال : " بل بيدك " قال : " والله لا أفعل أبدا " فاشتد غضب أمير المؤمنين وقال : " ما ( الحيلة ) يا أبا يوسف ؟ " قال القاضي : " يا أمير المؤمنين لا تجزع الأمر هين , ملك هذا المملوك للجارية ( أي أجعله عبدا لها ) قال : " ملكته لها " فقال لها القاضي : " قولي قبلت " فقالت : " قبلت " فقال القاضي : " حكمت بينهما بالتفريق لأنه دخل في ملكها فانفسخ الزواج " ( فسخ الزواج بالعبودية دون طلاق من الزوج ) فقام أمير المؤمنين على قدميه وقال : " مثلك من يكون قاضيا في زماني " ونادى بأطباق الذهب فأفرغت بين يديه وقال للقاضي : " هل معك شيء تضعه فيه ؟ فتذكر مخلاة البغلة فاستدعى بها , فملئت له ذهبا فأخذها وانصرف إلى بيته , فلما أصبح قال لأصحابه : " لا طريق إلى الدين والدنيا أسهل وأقرب من طريق العلم فإني أعطيت هذا المال العظيم في مسألتين أو ثلاث " . انتهى .. ومع أن الاختلاق ظاهر في هذه القصة إلا أنها تتحدث عن عصر الأوزاعي وتكشف لنا عما يدور داخل قصور الخلفاء وكيف يتحيلون على المسائل الدينية بظلم ذوي القربى والمساكين وكيف يطوعون الفقه لأمنياتهم فكيف لا يجدون حدا للردة يكون أسهل ما عندهم من أجل ردع المخالفين والعاصين ؟ , فأمثال هؤلاء القضاة والفقهاء فصلوا البلدان وملكوها لأصحاب الديانات الأخرى . هذه الصورة خير مثال على فشل مذهب الأوزاعي المرحلي في الأندلس وفي الشام و الذي كان فقيها مرحليا ومؤقتا في محاكم الخلافة وكان مثيرا للفتن المذهبية والطائفية التي منعت المذهب الحنبلي فيما بعد أيضا من الانتشار ثم الاندثار في العراق إلى أن جاءت الدعوة الوهابية فأيقظته من سباته الطويل . ولكن المذهب الحنبلي كان آخر المذاهب وعندما ظهر كانت المذاهب قبله ومنها مذهب الأوزاعي ومذهب مالك ومذهب أبي حنيفة قد ظهرت إلى الوجود وتمكنت من مفاصل الخلافات الإسلامية . ورغم أن مذهب الأوزاعي يعد من أقدم المذاهب الإسلامية إلا أنه لم يجد من يتبناه حتى من ا لأمويين أنفسهم . أو العباسيين الذين طلبوا من الإمام مالك في زمن المنصور أن يتبنوا كل أفكار ( الموطأ ) وفرضه في الأقاليم ولكنه رفض . ومن أسباب تلاشي مذهب الأوزاعي فقيه القتل بحد الردة أنه لم يكن له تلاميذ يحترمون فكره وأحكامه ويقتفون طريقته ويدونون اجتهاداته إلى جانب أنه كان من أكثر الكارهين في زمن بني أمية للتدوين وكان يفضل العمل شفاهة حتى لا يحاسبه التاريخ بعد أن عرف مع الأمويين كيف يسربون الأحاديث للأئمة وكيف يحشون بها الأدمغة والكتب والمخطوطات وكيف يحركون المذاهب الفقهية بواسطة الفقهاء الجدد كأبي يوسف الذي تحدثت عنه ألف ليلة وليلة . عامة الناس يتبعون المذهب المعين لوجود دعاة , ولم يكن للأوزاعي اللبناني تلاميذ أو مؤمنون بأفكاره أو مقتنعون بفقهه , ولم نسمع أن أميرا أو خليفة طلب منه أن يتبنى مذهبه على كثرة دخوله على الخلفاء وقبول جوازهم ورشاهم كما طلبوا من مالك صاحب حديث ليس على مستكره طلاق والذي جلد بسببه 70 سوطا وحلق شعره وحمل على بعير . أما الأوزاعي المدلل في بيوت الأمراء فلم يتعرض لنكبة كما حدث لمالك في سنة 147 هجرية و لا للهروب من موطنه كما حدث لأبي حنيفة إلا موته الغريب داخل حمام عمومي . فهو فقيه الحيل ولم يصل لهذه الدرجة من ثوابت الفقه ولا للتمسك بالمبدأ , فلم يذق طعم السياط في كل حياته . كل المذاهب الفقهية التي انتشرت في العالم الإسلامي انتشرت لتبني السلطة لها بشكل أو آخر , فإذا كان الأوزاعي فقيه سلطة وزير بلاط , ولم يكن ذلك مساعدا له كي يتبنى أحدهم مذهبه وفقهه فلابد إذن أن يسقط ذاك الفقه كما سقط فعليا بدلالة التاريخ والواقع ولابد أن يسقط مع ذلك أيضا حد الردة . الجزء الرابع . [email protected]