كان مقتل الأوزاعي غامضا ولم تكشف أسبابه حتى اليوم ولم يكن كمقتل الإمام النسائي , أحمد بن شعيب , الذي اغتيل بسبب الصراع بين علي ومعاوية في دمشق , وكان النسائي يحسن فنون الحروب والقتال , ويخرج مع والي مصر إلى الجهاد , وكان واليا على حمص في زمن من الأزمان , وكانت كراهيته لمعاوية والأمويين ظاهرة في دروسه ومؤلفاته وكان يحاول بمؤلفاته عن علي وبنيه أن يرجعهم إلى سواء السبيل . فإن كان الأوزاعي قد اغتيل رغما عن أنوف من حاولوا إخفاء ذاك الاغتيال , وأن كتبه أحرقت حرقا ولم تضع في أحد زلازل الشام (الرجفة ) كما حاول بعضهم أن يروج , ولم يكن الرجل صاحب إمارة محسودة و أو زعامة مغبوطة , ولم يكن جنديا في الجيوش يخرج في الجهاد , ولم يؤلف في مناقب أحد الخلفاء بحيث يرضى عنه ذاك ويغضب ذاك , فليس من مندوحة لتعليل مقتله غير الانتقام . كيف اغتيل ؟ ولماذا ؟ ومن الذي انتقم منه ؟ وهل في هذا دليل على أن حديث الردة الذي ابتكره بلا سند وفي موقف عصيب بعد دخول عبد الله بن علي العباسي منتصرا هو السبب الذي جلب له النقمة وراكم له الأعداء بعد تكفيرهم ومطاردتهم ونفي الإسلام عنهم بحديث الردة . سنرى . ثم أننا لم نسمع أنه وقع في محنة في عصر ملئ بالمحن والمصائب كما وقع الإمام أبو حنيفة النعمان أول من أسس مذهبا في المذاهب ال4 و الذي كان معاصرا له , وعمره قريبا من عمره , وكان على تماس بالخلفاء في العصرين العباسي والأموي . كانت محنة الإمام الأولى مع الأمويين عندما ناصر ثورة زيد بن علي ورفض العمل عند والي الكوفة على كثرة ما أغراه وداهنه وبذل له المكانة والسمعة ثم سجنه وضربه بالسياط وأهانه , فلم يجد أبو حنيفة سوى أن يهرب إلى مكة . وهكذا كان , وكانت محنته الثانية في الدولة العباسية عندما تمسك بولائه القديم لآل البيت من شيعة علي بن أبي طالب , ووقف مع ثورة الإمام محمد النفس الزكية قلبا وقالبا , وكان لا يخاف الخليفة المنصور كما يخاف الأوزاعي , بل يجاهر بفتاوى مضادة لا تلبي رغبات الخليفة عندما يستقدمه ويستفتيه و يلين له القول , ومرة أخرى كما في زمن الدولة الأموية دعاه أبو جعفر المنصور لتولي القضاء فرفض فما كان منه إلا أن سجنه إلى أن توفي وعاش بعده الأوزاعي سبع سنوات إلى أن لقي حتفه في ظروف غريبة وعجيبة . كل تلك المحن والأوزاعي بعيد عنها كما كان يظن , يتجاوب مع رغبات الخلفاء الدموية في التنكيل والمطاردة والتكفير , ويفتي بما يريدون ويحبون في ذلك الوقت الذي رفض فيه أجلة الأئمة أن يساعدوهم ويقفوا في صفهم ويفتوا بما في قلوبهم كرجال حكم يطلبون الشرعية الدينية , ومن تلك الفتاوى التي غيرت وجه التاريخ ووجه الإسلام ووجه المسلمين إلى الأبد حديث الردة الذي كان تقنينا مؤكدا وصارما وإلهيا وحيلة من حيل فقه الأوزاعي بقتل المخالف بحجة الخروج من الدين وبحجة الزندقة , فكل رافض للطاعة فهو مرتد وكان كل رافض للطاعة منتم لجماعة عسكرية تطلب السلطة وتنادي بالخلافة فما أن سقطت الدولة الأموية حتى تصاعدت تلك الدعوات وأشتد زخمها فلم يكن هناك من سبيل سوى مواجهتها بحجة الخروج والردة , وكان الأوزاعي جاهز لذلك . وكانت الدولة العباسية تضع أول مداميك بقائها الطويل . لو ظهر الكلام عن حد الردة وأنواعها وتفريعاتها عند الشافعي أو عند الشافعية فيما بعد أو عند مالك أو المالكية أو عند ابن حنبل أو الحنبيلة أو عند أبي حنيفة أو الحنفية وهي مذاهب تطورت وتدرجت على أيدي علماء غير المؤسسين الأوائل لعدة قرون فإن المسافة الزمنية بين مخترع الحد وهو الأوزاعي في بداية الدولة العباسية وبين أولئك الفقهاء لجد بعيدة عندما ولدوا وهي أكثر بعدا عندما أصبحت تلك المذاهب أيدلوجيا جغرافية في أيدي علماء آخرين كانوا يدعون الانتماء لهذا المذهب أو ذاك حتى يصيروا قضاة وموظفين عند السلاطين والحكام , وكان لابد لأصحاب المذاهب الأربعة أن يتلقفوا حدين الردة الأوزاعاني لأن الشام التي تضرب الأئمة بالسياط وتنادي عليهم في الشوارع والأزقة كانت مركز الخلافة والهوى , ومركز وضع الأحاديث والقصص والأخبار , ومركز نشرها وتوزيعها والتي تختم بصحتها وصدقها حيث كانت مركزا علميا تضرب له آباط الإبل وحيث كان الأمويون وعباسيو السنوات الأولى يستحسنون الشفاهية وخبط عشواء الكلام ويقدسون الحفاظ على التدوين والتحفظ والتثبت ومن هناك جاء حديث الأوزاعي الذي لقي في ما بعد كل تلك التفريعات بعد أحيانا 800 أو 1000 سنة من اختراعه ونشره في كثير من كتب المالكية والشافعية والحنبلية والحنفية . ولأن حديث الأوزاعي وضع في نفس زمن أبي حنيفة النعمان زمن الفتن والمؤامرات وتطويع الأئمة والتراث فإنه كان يذكره في أحاديثه على استحياء ويشير إليه على وجل وبلا سند لأنه لم يكن يؤمن به ولا بمن وضعه ولا بمن أصبح قبره بعد ذاك نسيا منسيا . ومن تلك الإشارات غير المحققة وغير المثبتة انتشر موضوع الردة في المذاهب ومن ألف في صفها بعد أن انتثر عقد الخلافة وصار شذر مذر . هل كان النبي يشجع الردة و لا يلقي لها بالا ؟ وهل كان القرآن لا يخاف الكافرين ولا يتعجل عذابهم في الحياة الدنيا ؟ وهل هناك حد اسمه حد ( الجبرية ) نشأ في العهد الأموي الذي لم يعرف حد الردة لأن الأمويين لم يكونوا يستطيعون تكفير آل النبي والفرق من حولهم بل كانوا يسعون إلى أن يقبل الناس قتلهم وإبادتهم وأن يعتبروا ذاك إرادة ربانية مكتوبة في اللوح المحفوظ لا يسأل عنها خلفاء بني أمية ؟ ولكن عندما أصبحت فكرة اللوح المحفوظ فكرة قديمة تسطر فيه جرائم العباد كان الأوزاعي يجهز فكرته الجديدة لكي يتهمهم بجرائم أخرى تطارد الحرية المعنوية في الوصول إلى الله على بصيرة . وسنرى . خالد بابكر أبوعاقلة [email protected]