عشرات الأيدي تتناوب ضربه . البيوت الفارهة تردد صدى اللكمات التى أخذت تنهال على جسده الهزيل و الدماء تسيل من شفتيه كنيل كريم . اللحظة حبلى بأصوات عديدة : أصوات نسوة من بعيد يبكين بنعومة على الفقيد الذي نصب له السرادق أمام الفيلا الفخمة ، أصوات اللكمات و اللعنات التى أوشكت أن توديه حتفه ، أصوات بعض العقلاء الذين يحاولون جاهدين أن ينقذوه من براثن مهاجميه و أصوات ثيابه و هي تتمزق بفعل الأيدي الضارية كنمور تبقر بطن غازل وحيد . فى تلك القرية الصغير نشأ " محمود ". والده كان رجلا بسيطا . و أمه كانت امرأة أمية ، لكنها كانت فطرية الوعي . ربياه فأحسنا تربيته رغم أنف الفقر . نشأ في بيتهم الطيني البسيط ذى الغرفتين و الحوش الواسع بشجرة "نيمه" العملاقة فى وسطه . كانت له أخت واحدة ، و لذا فقد كان هو تجسيدا لحلم أبيه في أن يتصالح الزمان مع تلك الأسرة الرقيقة الحال . " بكرة بتكبر و بتبقى دكتور و تفش أبوك من الفقر ود الكلب ". هكذا كان يترنم الأب و هو يحمل "محمودا" على كتفيه صغيرا يافعا. أبوه كان " ذباحا" . يصلى الفجر حاضرا ، و يأتي إلى البيت ليشرب الشاي مع زوجته و ابنه و بنته ، ثم يحمل على كتفه ( شوالا ) في داخله ثروته : سكينه و فأسه و قطعة الخشب التى ضاع لونها بفعل ضربات الفأس و لون الدماء المتواتر . يقف أبوه خارج " ردمية" القرية فى انتظار أن يتشبث بإحدى السيارات الصغيرة لتقله إلى سوق البهائم فى المدينة المجاورة فى انتظار ثرى قد يشترى خروفا أو خروفين . ذاك هو عمله ، ورثه أبا عن جد . لكنه لم يرد أن يورثه لابنه "محمود" . " لا أريدك أن تمتهن مهنة هى رهن بموائد الأثرياء ". هكذا قال له أبوه في أول يوم ادخله فيه المدرسة . ذات يوم قال له مديره ذو الكرش العظيمة " أتريد من " جميلة " أن تتزوجك أنت و تتركنى أنا يا ابن " الذباح" ؟ . حينها لم يرف له جفن و لم ينكسر بل قال للمدير جملة حاسمه قاتلة ،. ثم خرج و صوت المدير يتوعده من ورائه. عرف " محمود " منذ صغره بالذكاء الحاد فى الدارسة ، و بالمهارة العالية فى لعب كرة القدم . . يذكر أنه كان كثيرا ما يبكى إن هزم فريقه فى مباراة ما . وقتها كان أصدقاؤه يلتفون حوله ، يحاولون أن يقنعوه بأنها مجرد مباراة ، لكنه كان يتعامل مع المباريات بجدية و كأن مصيره فى الكوكب الأرضي متوقف على نتيجتها . كان يحضر من المدرسة فى منتصف النهار ، و يقفز إلى ظهر حمار أبيه و يقتاده إلى حفير القرية الضخمة حيث تشرب البهائم مع السابلة في أخوة غريبة . هذا غير صبية الحلة الذين كانوا يقفون أعلى رؤوس الأشجار العالية المحيطة بالحفير كالحراس ثم يقفزون إلى مياهها من عل دون أن يزجرهم زاجر . " كلنا مخلوقات الله " هكذا قال له أبوه يوما في طفولته حينما انتقد له "محمود" شرب الناس مع البهائم سويا . أما الآن و الأيدي البرجوازية تنهال عليه فى حقد فهو يدرك السر : " إن بلاده لا تفرق بين أمثاله و البهائم " . قفز " محمود" سلالم الدراسة قفزا . و رغم أنه قبل فى كلية الطب ، إلا انه أضطر أن يلتحق بكلية الاقتصاد لعجز أبيه عن توفير مصاريف الدراسة له فضاع حلم أن يرتدى البالطو الأبيض و يمر على أسرة المرضى. تخرج فى كلية الاقتصاد بإمتياز رغم كثرة تغيبه بسبب عمله بالتدريس في مدرسة مجاورة للجامعة. قضى شهورا يبحث عن عمل بلا جدوى . و رغم إعتراضه ، فقد ذهاب أبوه متسولا إلى جارهم " فراج" الذي يتمتع بعلاقات تفتح الأبواب المغلقة فى الدواوين الرسمية. بعد أسبوعين عين محاسبا فى شركة حكومية ضخمة . فى تلك الشركة تعرف محمود على " جميلة " . صبية تتدفق الأنوثة من حواف أصابع يديها و قدميها . تعمل سكرتيرة للمدير . أصابت عيناها قلبه الخالى فتمكنتا منه كما يتمكن المطر من مسام التربة الظامئة ، فأحبها رغم ملاحظته لاهتمام المدير الصارخ بها . بعد أيام قلائل من إلتحاقه بالشركة لاحظت " جميلة" تفانيه فى العمل و طيبته فى التعامل مع الوافدين إلى الشركة فبدأت تأنس له . سألته يوما عن سر حضوره متأخرا بعض الشئ فقال في استسلام " المواصلات ". و حين سألها ذات يوم عن سر السيارات الفارهة التي يقودها بعض الموظفين ذوى الدخل العادي قالت له أربع كلمات " هؤلاء هم أحباب المدير " . و أردفت بعبارة واحدة حاسمة " خليك فى حالك " . ثم حدثت المعجزة الكبرى : أحبته " جميلة" . و من وقتها بدأت العلاقة بينه و بين المدير تتوتر شيئا فشيئا . فنقل إلى قسم ثان لكن علاقته بجميلة ظلت في توهج متزايد . بدأت حكايتهما تلفت أنظار الزملاء فلم يهتم . ثم جاءت الطامة الكبرى : يذكر أن المدير أرسل في طلبه يوما . و قبل أن يذهب إليه آثر أن يرى "جميلة" . مازحها قليلا ثم ترجاها أن تغير تلك اللوحة التى تضعها على مكتبها و تصور غلاما صغيرا يجهش بالبكاء. دلف إلى مكتب المدير الضخم . جلس قبالته و طفق ينظر إلى الأوداج الناعمة و اليدين اللتين توشك الدماء أن تطفر منهما و تسيل على المكتب الأنيق المصنوع من أجود أنواع الخشب الايطالي . لم يضع المدير وقتا . بل حدثه بهدوء بأنه يريد الزواج من "جميلة" و أنه لن يتنازل عن هذا الحلم . و سأله في صفاقة عن سر علاقته بها . لم يقل شيئا فسأله المدير عن مطالبه . لم يرد فقد ألجمته جرأة الرجل . بل وقف كنخلة تشمخ فى وجه ريح سفيهة و قال و أسنانه تصطك " حبى ليس للبيع " . قال له المدير " أتريد من "جميلة" أن تتركني و تتزوجك يا ابن الذباح"؟ . عندها رد محمود فى حسم " إن أبى يذبح الخراف أما مثلك فيذبح هذا البلد الطيب و يذبح أمثالي من الشرفاء" . بعد عشرة أيام تزوجت "جميلة" من المدير في مفاجأة زلزلت كيان " محمود" . لكنه عرف من بعض الخلصاء فى المؤسسة أن المدير ورطها فى جريمة مالية دون أن تدرى ، ثم ساومها على الزواج مقابل عدم سجنها فوافقت على مضض . لم يستوعب " محمود" المفاجأة فقدم استقالته رغم علمه بأن هذا يعنى أن يجوع أبواه و أخته . إنقضت شهور و هو يحاول أن يجد له وظيفة جديدة. و لم يشأ جارهم " فراج" أن يساعده ثانية . بل إنه اتهم " محمودا" بالاستهتار و تبديد الفرص الذهبية . فآوته مجموعة من أبناء القرية "العزابة" فى بيت في أطراف العاصمة . كان حين يعود قبلهم إلى البيت يعد لهم العدس أو الفول أو اللحم إن كانت متوفرة ثم يقضى وقته يقلب الجرائد باحثا في إعلاناتها عن بصيص أمل . و ذات يوم عاد إلى البيت جائعا كعادته . لم يجد في المطبخ شيئا يؤكل . فتمدد على السرير المتسخ و طفق يقلب الجرائد فى يأس ، بينما من المذياع طفق مصطفى سيد أحمد يصدح " غدار دموعك ما بتفيد فى زول حواسه أتحجرت " . وجد عزاءا فى نصف صفحة لمدير مؤسسة ما فى وفاة احد أبنائه فى حادثة مرورية فى كندا . فجأة ، بدأ لاوعيه يتأرجح بين صورة الخبر و صوت مصطفى صادحا بمفردتى " حواسه أتحجرت ". ثم خطرت له فكرة غريبة لم يقو على مقاومة سطوتها . تشبثت روحه المشلولة بكرسيها المتحرك المدعو جسده . ثم لملم أمعائه الخاوية و ساقيه المنهكتين و نظراته الزائغة ، و اندس فى بنطلونه المتسخ و قميصه المتواضع ، قبل أن يندس وسط الجموع فى حافلة متجهة إلى الخرطوم و يده تقبض على الجريدة فى عنف . ركب حافلة أخرى أوصلته قرب ذاك الحى الأنيق حيث عنوان ذاك المدير . البيوت هنا غريبة . ليست مجرد حجارة مندسة في رحم الأرض لكنها لوحات فنية راقية . الأشجار تتمايل في حدائقها فى حياة و الشرفات تتلألأ بالورود المختلفة الألوان . الأطفال تضج أجسادهم بالحياة و ليسوا مثل أطفال قريته الذين لا يفرق بين "عراريقهم" و تراب الأرض على الإطلاق . السيارات الفارهة تتناثر أمام البيوت و على الشوارع التي تفصل الفلل الأنيقة تتسكع نسوة حقيقيات تمتلئ أجسادهن باللحم و الراحة . " تساءل فى غيظ " هل هو نفس الوطن الذي انتمى إليه ؟ " . من بعيد سمع صوت مقرئ و لمح أنوارا أمام سرادق عزاء. " حتى موتانا لا يشبهون موتاكم يا لصوص " . و حالما اقترب من الجموع التفتت إليه الرقاب الممتلئة فى دهشة سمينة . لم يأبه بهم بل جلس على كرسى بعيد . احضر له خادم كوب ماء فدلقه بعد أن قرأ على القارورة " صنع فى الصين " . وقف و شد قامته ثم تقدم إلى حيث المقرئ يتلو آيات مباركات . و لدهشة الأخير استأذنه ثم امسك بالمايك . نظر إلى الجمع بغيظ عظيم . تنحنح لدقيقة ثم قرأ فى صوت جهورى قوله تعالى " و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " . تململ القوم فى كراسيهم و قد ترجرجت كروشهم العظيمة . لم يطرف لمحمود جفن بل أمسك بالمايك فى قوة و صاح بأعلى صوته " قتلتم حبى و حياتى و أحلامى فقتل الله إبنكم . تلك هى عدالة السماء . مثلكم من أفسد بلادي و استورد الماء من الصين بينما النيل يتمدد علي أرضنا كامرأة مثارة إرتمى قربها زوج عاجز . أنتم لصوص و سفلة. عليكم لعنة الله و الشعب " . الأيدي تمزق ثيابه فى قسوة و تنهال عليه بلا رحمة . السباب يشتد وقعه " أيها الجربوع ، الجائع ، الحاقد ، عليك لعنة الموائد المترفة و السيارات الباذخة و الكلاب التي تأكل الطعام المستورد " . ضربه القوم حتى تمزق بنطلونه و قميصه و سال ما تبقى من دمه الفقير على سائر ما تبقى من جسده الهزيل . لكن بعض العقلاء أفلحوا فى اقتلاعه من بين الذئاب الضارية . بدأ يترنح فى مشيته بعيدا و البيوت حواليه تكتسي بضباب كثيف . لكنه رغم الألم المبرح أحس بابتسامة تشق طريقها إلى شفتيه المشقوقتين بفعل اللكمات . طرب للألم يتغلغل فى ثنايا جسده . و دون أن يدرى وجد نفسه يصرخ و البيوت الفارهة تردد صدى صوته الثائر " أيها الأوغاد . شكرا للكماتكم و كلماتكم السكاكين . لقد كنت فعلا فى حاجة إلى تجربة تشعرني بأنى لا زلت حيا أحس" ...... مهدى يوسف ابراهيم جدة [email protected]