England in the Sudan بقلم: يعقوب باشا آرتن Yacoub Pasha Artin ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي تقديم: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مذكرات الكاتب الأرميني - المصري يعقوب باشا آردن (1842 – 1919م) في كتاب باللغة الفرنسية عن رحلة قام بها إلى السودان في عام 1908م. وترجم جورج روب الكتاب إلى اللغة الإنجليزية، وصدر من دار نشر ماكميلان في لندن في عام 1911م. ***** ******** *************** ************* 14 نوفمبر 1908م قصر الخرطوم عند وصولي للخرطوم كانت "السدود" في بحر الغزال قد حجزت عمليا كل أسطول البواخر الحكومية في تلك المنطقة، مما يعني أن سفرنا إلى النيل الأزرق سيتعطل. إلا أن السردار استلم في هذا اليوم برقية تفيد بأن الباخرة "دال" قد استطاعت السير عبر السدود، وأنها الآن في طريقها للخرطوم. وأخطرنا بأن نتهيأ للسفر يوم 20 نوفمبر. لقد زال قلقنا من انخفاض مستوى المياه في النيل الأزرق. فهذا العام بلغ ارتفاع منسوب المياه في ذلك النهر مبلغا لم يصل إليه منذ عقد من الزمان في مثل هذا الموسم. وفاض النهر في أغسطس وسبتمبر فيضانا مهولا خشي الناس معه أن تبتلع المياه مدينة الخرطوم بأكملها. وكانت كل الدلائل تشير إلى أن رحلتنا ستكلل بالنجاح، فمركبنا جيدة، والنيل مرتفع المياه، ودرجات الحرارة الآن معتدلة، لا تتعدى 36 درجة مئوية عند العصر وفي الأمسيات، والنسيم عليل، بعد أن كانت درجات الحرارة في أيام 11 و12 و13 من هذا الشهر قد بلغت ما بين الأربعين والخمس وأربعين درجة مئوية. إذن لم يك لدينا ما نفعله سوى أن ندع الأمور تجري في أعنتها، وأن نستمتع بأيامنا ونحن نعيش في القصر، وما من مكان خير منه لملاحظة كيف تدار الأمور بالبلاد، ومعرفة مجريات الأحداث من "القلب السياسي" به. وقبل أن استطرد في الكتابة عن الأوضاع والحال الرسمي للسودان لابد لي من التوقف عند ما سمعته من آراء في غاية الدقة والألمعية سمعتها من ضابط مخابرات مصري يعمل في خدمة حكومة السودان، وهو رجل في مقتبل العمر من ابناء محافظة الجيزة، والده فلاح مصري، ووالدته من الشركس. درس الرجل في المدارس المصرية الحكومية، ثم التحق بالمدرسة الحربية حيث أظهر همة ونشاطا منقطع النظير في دراسته وعمله بعد تخرجه إلى أن بلغ، وفي زمن قصير نسبيا، رتبة البمباشي. وعمل في السودان البريطاني – المصري في أول الأمر في إدارة (مصلحة) السكة حديد. ذكر لي الرجل أن كل وظائف الفروع والخدمات بالسكة حديد كان يشغلها جنود من الكتائب المصرية. وكانت الحكومة تدفع للواحد منهم مبلغا يتراوح بين 6 إلى 10 قرشا في اليوم بحسب رتبته العسكرية، وتمنحه بالإضافة إلى ذلك ملابس العمل الرسمية والحصص الغذائية مجانا. وعِلاوة على ذلك كان الواحد منهم يدخل مجانا فصولا لتعلم الكتابة والقراءة باللغة العربية، والتدريب على مهارات العمل في مجالات التلغراف أو الخراطة أو الحدادة أو البرادة أو قيادة محركات (وابورات) القطارات وغير ذلك من المهن. ويلزم الجندي بأن يقضي ست أعوام كاملة في خدمة الجيش (في السكة حديد) يكون في غضونها قد تعلم مهنة من المهن. وكان كثير من الأذكياء من هؤلاء الجنود يؤثرون – بعد إكمال مدة العمل الإلزامي في الجيش- التحول للعمل في الخدمة المدنية في حكومة السودان، عوضا عن أخذ مكافئة خدمتهم في الجيش، إذ أن مرتب الواحد منهم سيبدأ في الخدمة المدنية من 6 – 10 جنيهات مصريا في الشهر، ويتقاضون أكثر من ذلك إن كان الواحد منهم ملما باللغة الإنجليزية (والتي غالبا ما يتعلمها غالب من يعملون في الجيش). وبعيد قبولهم للعمل في الخدمة المدنية يسارعون باستقدام عائلاتهم من مصر للاستقرار (النهائي) في السودان، بينما يعجل العزاب منهم بالأوبة إلى قراهم في مصر للزواج وجلب زوجاتهم معهم دون أي نية عودة للوطن مرة أخرى. وأخبرني ذلك الضابط أيضا بأنه يعرف عددا من الجنود المصريين المسرحين الذين عادوا لمصر لبيع ما يملكونه فيها (مثل قطعة أرض صغيرة) والعودة للسودان بمبالغ تكفي لشراء أرض أو بيت في السودان، وكانوا في غاية الرضاء عن خياراتهم تلك. وأضاف الضابط قائلا: "فالجيش إذن من هذه الناحية هو المدرسة لأولئك النفر (من المصريين) الذين لم يروا من الحياة غير أذيال أبقارهم وجواميسهم، والذين ارتفعوا – بفضل الجيش- في سلم الرتب الاجتماعية إلى مراتب تتيح لأطفالهم أوضاعا أفضل بما لا يقاس لأوضاعهم هم، ووسعت من مداركهم ونظرتهم للحياة". ويجب علي هنا القول بأننا وعند نزولنا من الباخرة في وادي حلفا قابلنا النقيب وود، حاكم المدينة، وناظر المدرسة، وعرضا علينا – في كرم صادق- خدماتهما. وفي وادي حلفا سمعت من السكان شكوى متكررة – سمعتها من قبل مرارا في عام 1902م- من عدم توفر المياه في المدينة! وكنت أحسب أن مرد تلك المشكلة هو نقص الموارد المالية في ذلك الحين لنصب مضخات بخارية لجلب المياه للمدينة. وأحسست حينها أن الحكومة لا تعد وداي حلفا إلا "مدينة صغيرة يصادفها المرء في طريقه للخرطوم"، لذا ظلت مكانا هامدا لا نشاط فيه ولا حركة. وعلى الرغم من هذا فلا بد من الاعتراف أنني هذه المرة لحظت بعض الاشارات الدالة علي بدء نشاط وحركة في هذه المدينة الصغيرة. فالمدرسة مكتظة بالطلاب، ويبدو السكان أقل بؤسا وأكثر حيوية مما رأيتهم من قبل. ووصلت محطة سكة حديد أتبرا. ويا لها من محطة رائعة! ويا لها من أعجوبة – في البدء- أن تنشأ سكة حديد في السودان! تعد محطة أتبرا هي محطة تقاطع بين خطي "وادي حلفا – الخرطوم"، و"بورتسودان – الخرطوم". وقابلت في الساعة التي قضيتها في أتبرا النقيب ميدونتر، مدير السكة حديد، والذي قدم لي شرحا موجزا وطاف بي سريعا على الورش والمنازل والفلل وبيوت العمال، وحتى الكنيسة الأنغليكانية الصغيرة، وكل ذلك كان قد "نبت من الأرض" بسرعة عجيبة في أقل من أربع أعوام. ويعمل في السكة حديد في هذه المدينة، والتي تقع بين نهري أتبرا والنيل، ما لا يقل عن 1500 فردا. وبعد ساعات قليلة من مغادرتنا لأتبرا، وقبل وصولنا إلى شندي مررنا بتل من الجرانيت الأسود، كانت هي أهرامات ملوك مروي الزنوج. أما شندي نفسها فقد انتعشت مؤخرا بوجود سلاح الفرسان الذي شيد له مركز في أحد أطرافها. وفي هذه المدينة وضع ملك شندي نمر حرقا بالنار أو اختناقا بالدخان حدا لحياة فاتح السودان إسماعيل باشا، ابن محمد علي باشا. ولكن من يتذكر الآن ذلك الحدث؟ لم يكن هنالك من يمكن أن يخبرني بما حدث، وأين حدثت تلك المحرقة للأمير ومماليكه مثل سلاطين باشا، وليس غيره من العرب أو الإنجليز! ومن جهة أخرى، كان كل شيئ وكل حديث عن غوردون (( ȃ la Gordon ... القصر الذي اغتيل فيه، والذي دمره أنصار المهدي قد أعيد بنائه، والمكان الذي يظن أن تلك المجزرة قد وقعت فيه زرع فيه شجرة وردها أحمر فاقع يدل على الدماء التي روت أرضها من قبل. وفي الشارع الذي يحمل اسمه نصب له تمثال ضخم. بينما لا تجد في شندي من يتذكر حتى اسم إسماعيل باشا!... فقط وحدها الشعوب التي تفتخر برجالها العظماء وتكرم ذكراهم هي من تستحق أن توصف بأنها شعوب عظيمة! [email protected]