قال أحدهم ممن يعتبر داعشي في حالة كمون (البنت الما مختونة عفنة) فهل له و لأضرابه من المنظرين الذين يحرثون الأرض للدواعش حجج من التراث أو كما يسمونه (صحيح الدين) ؟... تستدعي عبارة (في حالة كمون) أسئلة كثيرة ، لنطرح بعضها فالمجال لا يتسع لها كلها . هل تمثل داعش نوعا من الإسلام الصحيح أم هي خروج عليه ؟ و سؤال طرحناه من قبل و نعيده بصورة أخرى : ما هي الظروف التي تصنع داعش و أخواتها من بوكو حرام و قبلها طالبان و الجذر المشترك و الأم الحاضنة لها أي جماعة الإسلام السياسي ؟ و هل هي صناعة مخابرات خارجية أم صناعة محلية خالصة ؟ سنرى أن حجج داعشنا تستند للفقه السلفي و لا مخرج من كلاليبه إلا بفهم جديد متنور يراعي ظروف العصر و أن لذلك الفقه زمنه و لزمننا فقه ربما يختلف بمقدار 180 درجة ... حجج داعشنا التي استندت عليها داعش في فرض الختان على النساء لخصها لنا الأستاذ مجيد البلوشي عن مقال للسيد سعيد عبد السميع قطيفة ، في مقال نشره الأخير تحت عنوان "يا قوم، ختان الإناث من سُنن الإسلام" المنشور في منتدى "طريق الإسلام" بالإنترنيت بتاريخ 15 / 8 / 2007 م فقد أورد داعشهم خمس أدلة نذكرها على عجالة : الأول حديث: "إذا التقى الختانان وجب الغسل". و الثاني حديث: "إذا جلس بين شعبها ومسّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل". و الثالث هو قول أم المهاجر كما جاء فى الأدب المفرد للبخاري قالت: "سبيت وجواري من الروم فعرض علينا عثمان بن عفان الإسلام فلم يسلم غيري وأخرى" فقال عثمان: "اخفضوها وطهروها". أي أنه بعد سبيها أسلمت و تم ختانها أو قل خفاضها. الدليل الرابع حديث أم عطية الأنصارية التي كانت تختن النساء في المدينة. و يورد الدليل الخامس كردٍ على من يقولون لماذا لم يتحدث القرآن عن الخفاض قائلا إن المسألة ما دامت لا ضرر فيها فلم ينزل فيها قرآن وغير ذلك كثير. و يختم الرجل بقول عجيب : "ومن الأدلة السابقة يتبين لنا أن ختان الإناث مشروع فى حقهن وهو أنضر للوجه وأحظى للزوج وتهدئة للشهوة الجنسية عند المرأة...." لم يشرح لنا كيف يكون الخفاض أنضر للوجه ! ... ورد في الأنباء أن داعش في مناطق إدارتها أمرت النساء من سن ربما الحادية عشرة حتى الخامسة و الأربعين حسبما أذكر بالختان ... كيف يعرفون المختونة من غيرها ؟ ربما يستعينون بخبرة صاحبنا الشمّام ! نأتي للسؤال : هل تمثل داعش الإسلام أم هي خروج عليه ؟ هناك إجابتان أساسيتان ، الأولى تقول : نعم داعش تمثل صحيح الإسلام و تهتدي بهدي السلف الصالح و الملايين عبر العالم الإسلامي يؤيدونها في فهمها و أفعالها المستندة على ذلك الفهم ، و ملايين أخرى يرون أنها فقط ترتكب أخطاء هنا و هناك و ملايين أخرى ترى أنها لم تتدرج في التطبيق ، أي أن العلة ليست في تطبيقها و إنما توقيته و مصداقا لرؤية القائلين بذلك الرأي أنه لم تخرج مظاهرات منددة و لا تكفير لأفرادها ... الإجابة الثانية على السؤال ترى أن داعش لا تمثل الدين بل تشوهه بما تقوم به ... الفريق الثاني لا يفند النصوص التي تعتمد عليها داعش و لكنه يغمغم و يجمجم في وقت يحتاج فيه العالم للإبانة ، أي أنه لا يرفض المفاهيم التي تسوّق بها داعش أفعالها ، كيف يفعل ذلك و هو من نَشَرَ تلك المفاهيم بكل الطرق الممكنة ، عبر المناهج الدراسية و المدارس الدينية و عبر وسائل الإعلام و المساجد و في خطبه و وعظه و تجنيده للشباب عبر كل الوسائل الماكرة من حلقات التلاوة إلى العمل الدعوي إلى غيره من الوسائل ، تلك المفاهيم التي لا يقف العقل السلفي منها وقفة نقدية بل كانت شغله الشاغل عبر تنظيماته السياسية من الدعوة للدولة الدينية و تطبيق الشريعة و مراوغة العصر و في قيادته لشعوبه نحو الهاوية و هي مغمضة العينين و في حالة نشوة و غيبوبة لا تنتج أي مفيد غير الاقتتال و الفتن الطائفية و المذهبية و تشظي المجتمعات و الفقر و التخلف ... المجال لا يتسع لتحليل كل أفعال ذلك الفريق ...(في الحقيقة كل من يدعو لإقامة الخلافة الإسلامية داعشي : إما ناشط أو في حالة كمون ينشط في أول لحظة مناسبة) . نأتي لمحاولة الإجابة على السؤال عن الظروف التي تصنع داعش و أخواتها و هل هي صناعة مخابراتية كما يقول البعض أم أنها نبتت في تربة بلادها بسقيا محلية . يتساءل المرء : بما أن النصوص ظلت موجودة و تفسيرها و المفاهيم المستخرجة منها كذلك موجودة منذ زمن ليس بالقصير ، فلماذا ظهرت داعش و أخواتها الآن ؟ في الحقيقة هناك عوامل عديدة أهمها كما قال أحد المحللين الأذكياء : الذاكرة و المخيال ، نعم هناك ظروف محلية من أزمة النظام الرأسمالي العالمي و ما يفرزه من تفاوت رهيب بين الفقراء و الأغنياء : عالميا بين دول الشمال الغني و دول الجنوب الفقيرة و محليا في كل مكان يزداد التفاوت بين الأغنياء و الفقراء بآليات النظام الرأسمالي و أهمها الاستغلال الناتج عن العمل المأجور و عالميا أهمها التبادل غير المتكافئ و في دول العالم الثالث يعضد الفساد كل الآليات (حتى لا يأتينا أدعياء المعرفة ممن يقولون إن السبب هو الربا فالربا من أقل العوامل تأثيرا) . كل الدراسات الاقتصادية تثبت أن الثروات تتركز أكثر فأكثر في يد الأغنياء و أنه لا يبدو أفق لحل تلك المعضلة مما يخلق مناخا مواتيا للفكر المتشدد الساذج و الذي لا يحتاج للشرح للإنسان العادي خاصة إذا تم بلبوس الدين فالستارة الدينية تخفي القبح بل و تصنع من القبح أسمى آيات الجمال (من يرى نشوة القتلة و تكبيرهم و هم يقتلون يتأكد من ذلك ... شخصيا لا أطيق منظر الذبح فاتخطاه لأرى نشوة القاتل و تبلد حسه) . ثم هناك المظالم السياسية المتراكمة و الهزائم المتكررة و الشعور بالغبن و العجز في منطقتنا و بين المسلمين عامة ، لكن كل ذلك ليس كافيا لظهور داعش و أخواتها ، هنا يأتي دور الذاكرة و المخيال ... كيف قامت الذاكرة و المخيال بدور المفرخ لداعش و أخواتها ؟ تدفق البترول في الجزيرة العربية و بلاد الخليج و تراكمت الثروة ، كانت تلك المنطقة حاضنة الدعوة الوهابية التي تشربت برؤية ابن تيمية و أخوانه ، و لأنها هي المناسبة للعقلية البدوية البسيطة [للبيئة تأثيرها فالصحراء ممتدة بلا ألوان و انعكس ذلك حتى على الملبس فهو خال من الألوان غالبا أبيض للرجال و أسود للنساء]و تحتاج لنوع من البداوة المتوحشة و تجلت وحشيتها في المذابح التي ارتكبتها في كل الجزيرة العربية و شملت الكويت و العراق و قامت بالسبي و النهب و السلب و فرضت رؤيتها بالسيف . تدفق الأموال في يد تلك العقلية جعلها تنفق بلا حساب على نشر أيديولوجيتها (و كما ذكرنا من قبل عن عبد الخالق حسين : (حسب مجلة ميدل ايست مونيتر-MidEast Monitor (عدد تموز/ يوليو 2007) دراسة للسفير الأمريكي السابق لدى كوستاريكا (كورتين وينزر) عن دور السعودية في بث التطرف الديني ، ذكر بأن "السعودية أنفقت 87 مليار دولار خلال العقدين الماضيين لنشر الوهابية في العالم (لحد عام 2001) " الفكرة الوهابية و الفكر السلفي كله يصنع صورة منتقاة للماضي و يستدعي ذاكرة الفتوحات و قتل الكفرة و يرسم صورة وهمية عن رقي و عزة و علو . الوهابية تفتقر للعقلانية و الحساسية تجاه الصيرورة التاريخية فهي نظرة سكونية للعالم ترى أنه يمكن تكرار أحداث الماضي من فرض رؤية آحادية على العالم . الطَرْق على تلك الذاكرة التي تقتل العدو الكافر و ترغم المخالف على اتباع رؤية المنتصر أو السيف في انتظاره ، و خيال صورة العزة و الرفعة الماضوي ... و الأهم امتلاك المال لبث تلك الرؤية عبر العالم التي كانت و لا زالت من أهم الأسباب لشحن الشباب بروح التطرف و التشدد ، جاءت العوامل المساعدة و أهمها أحداث محاربة الاتحاد السوفيتي بما سمي (الجهاد الأفغاني) و دعم الولاياتالمتحدة و الغرب لتلك الأيديولوجية بكل الوسائل مما نشرها على نطاق عالمي (ذلك الدعم بدأ منذ العشرينات في القرن الماضي لمحاربة الشيوعية)... طبعا فشل الأنظمة الحاكمة كان له أثر كبير ... تتضح مما سقناه إجابة السؤال : هل داعش و أخواتها صناعة خارجية أم محلية ... هي صناعة محلية و لن تنتهي بين يوم و ليلة ما دام جذور هذه الأيديولوجية مغروس بعمق في تربتنا بذاكرة و مخيال وهميين و تنعشهما مناهج تعليم متخلفة قائمة على التسليم و التلقين و الحفظ و تنشرهما الكتب و الوعاظ و خطب الجمعة و وسائل إعلام هائلة من إذاعة و تلفزيون و صحف ، أبشركم فدواعشنا السودانيون قادمون ... لكن في النهاية سينتصر العقل مهما تكاثف الظلام ... التحية لروح شهداء سبتمبر و كل الشهداء . [email protected]