جلس عبدالباقي بالقرب من شباك الحافلة لأنه سينزل في آخر محطة لذلك كان دائماً يحرص على الجلوس بالقرب من الشباك وفي الناحية التي تكون فيها الشمس بعيدة منه حتى لا تضربه أشعة الشمس فيصيبه صداع نصفي أو ربعي أو صداع كامل فهو يحمل ما يكفيه من الأمراض ما يغنيه من الجري وراء بلاوي أخرى، وبالصدفة المحضة جلس بالقرب منه شاب أنيق يفوح منه عطر قوي مما جعله يلتفت نحوه، ألقى الشاب السلام عليه فرده وزاد عليه؛ ففي ذكر أجر عظيم .. أن ترد التحية بأحسن منها، هكذا علمنا ديننا وعاداتنا السمحة، فالردود المقتضبة غير مريحة، بل هي رسالة مبطنة أو مغلفة بأن الشخص يكتفي بهذا القدر، فغير مسموح بالتقرب بالسؤال عن القبيلة ومكان الميلاد والعمر وما إلى ذلك. بدأ الشاب بالتأفف من الجو الساخن، ومقاعد النصف في الحافلات، ودخان الركشات .. عبدالباقي وجد نفسه متجاوباً مع الشاب؛ فهذه أحاديث عامة مسموح بها وهي غير معرضة للرقابة القبلية أو البعدية .. وحتى الوزير أو الوالي يحق له أن يتضجر من جو السودان والتلوث والنفايات المبعثرة دون تجميع رغم دفع رسومها على داير مليم .. ولكن هنالك فرق؛ فالوزير أو الوالي لديه الحلول الذكية في الهروب من سخونة الجو باللجوء إلى تكييفه والاختباء في مكاتب وثيرة .. أو بيوت ذات تكييف مركزي يعمه في كل حركاته وسكناته فهو يسبح في جو أروبي جميل مبتعداً بقدر الإمكان عن زحمة الطرقات بكل ما هب ودب من الدواب ذات الأربع والثلاث عجلات، والدراجات النارية وغير النارية. ويبدأ التعارف عادة بين خلق الله في السودان بالسؤال عنك القبيلة .. عبدالباقي لم يكن بالمبادر بالسؤال فهو غير مكترث لأي شيء سوى المشوار الذي هو مقبل عليه .. فهو بصدد مقابلة نائب الدائرة بالبرلمان ليشتكي له عن تأخر استلامه للراتب المعاشي الذي لا يعيشه إلا أياماً معدودات، وحتى هذه الأيام المعدودات لا تخلو من قيام سيد الدكان، وسيد اللبن، وسيد سيدو بطرق بابه ليل نهار لانتزاع حقوقهم لديه .. فلا يصح لعبد الباقي أن يتخلى كل شيء.. فتخليه عن أكل اللحوم البيضاء منها والحمراء لم يوفر له إلا شوية قروش يقتات بها قليل من الشاي والسكر من سيد الدكان، ورطل لبن مدعوم بالماء من سيد اللبن؛ ذلك الشخص (اللميض) الذي لا يخجل من أن يضيف إلى رطل اللبن رطل ماء رغم وصول سعره إلى خمسة جنيهات بالتمام والكمال. رد عبدالباقي على ذلك الشاب بأنه من قبيلة المعاشيين .. لم تعجب تلك الإجابة الشاب، وقال له مستنكراً .. ليس هنالك قبيلة زي دي في قاموس السجل المدني، ممكن تمشي معاي السجل المدني عشان نسجلها .. الظاهر الجماعة ما عارفين القبيلة دي .. نفد صبر عبدالباقي مبكراً لأنه أصلاً لديه صبر على حاجات كتيرة لا يعلم بها إلا الله، ولكنه ساكت وفي حالو لأنه الحمد الله مشغول بالأولاد والمدارس وقروش الترحيل وقروش الإيجار والجمرة الخبيثة المربوطة بفاتورة الماء العجيبة .. والبنزين كمان رغم عدم امتلاكه لعربة في المنظور القريب والبعيد جداً، وكان عندما زوجته تتمنى هذه السيارة الفرهة لابنه أو ابنته .. يذكرها بأنه ما زال حياً يمشي على الأرض .. ولكنه كان يجفل متذكراً .. هو أنحنا عايشين .. هييه. أوقف الشاب الحافلة وطلب من عبدالباقي النزول لأنهم قد وصلوا السجل المدني. لم يجد عبدالباقي من يسعفه بحبة الضغط فنفد ما تبقى من عمره وقضى نحبه قبل أن يصل إلى نائب الدائرة. [email protected]