شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالفيديو.. بشريات عودة الحياة لطبيعتها في أم درمان.. افتتاح مسجد جديد بأحد أحياء أم در العريقة والمئات من المواطنين يصلون فيه صلاة الجمعة    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دِبلومَاسيّة السّودان في رَبيْعٍ سياسِي: أكْتوبَر 1964*
نشر في الراكوبة يوم 12 - 11 - 2014

* نشرت هذه الورقة في الكتاب التذكاري بعنوان: 50 عاما على ثورة أكتوبر 1964: نهوض السودان الباكر ، لندن (2014)
دبلوماسية السّودان في رَبيعٍ سياسي:
أكْتوبَر 1964
مُقدّمَة :
الذي وقع في الأيام العشرة الأخيرة من شهر أكتوبر1964، وعرفه السودانيون بأنّهُ "ثورة"، هو أول انتفاضة شعبية في السودان وعبر سلاح الإضراب السياسي العام، قادت إلى انهيار نظام الحكم العسكري الذي ألغى ديمقراطية شائهة دامت عامين بعد الإستقلال، ثم حكم البلاد لفترة متصلة منذ 17 نوفمبر 1958 وحتى أواخر أكتوبر 1964. وما وقع بالفعل في أكتوبر من عام 1964، هو تحوّل جذري في نظام الحكم وبنيته وتوجّهاته، بعد أحداث حرّكها طلاب جامعة الخرطوم، وامتدت حميّاها حتى وصلتْ إلى عصيان مدني شامل، أحدث شللا في الحياة العامة، وأجبر الحكم العسكري على الانسحاب من الساحة السياسية. وتشكلت بعد ذلك حكومة انتقالية ضمّت ممثلين عن تنظيمات المجتمع المدني والسياسي، بعد أن شكلوا هيئة وطنية لتدير أمور البلاد، عرفت بإسم "جبهة الهيئات". نقل المؤرّخ محمد عمر بشير قولاً لأكاديمي سوداني : "لم يحدث في أيّ مكان في العالم الإطاحة بنظام عسكري بواسطة ثورة شعبية مستخدمة سلاح الإضراب السياسي العام، إلّا بالنسبة لثورة السودان في أكتوبر 1964. لقد وضعت ثورة أكتوبر في دست الحكم حكومتين متعاقبتين، أولاهما مكوّنة من أغلبية كبيرة من العناصر الثورية، بيد أن الانتخابات العامة بعد ذلك أعادت قوى الأحزاب التقليدية لتشكل حكومة ثانية."1
لن نغرق في توصيف ما حدث: أهو "ثورة" أم "انتفاضة" أم "هَبّة" أم "انقلاب"؟ إذ أن معيار التصنيف واضح : وقع حراكٌ شعبيٌ ضد نظام حكم عسكري باطش، دافع عن نفسه باستعمال العنف، ففشل واضطر تحت ضغط الشارع مع انحياز قطاع من العسكريين في القوات المسلحة لجانب الشعب، إلى الإنسحاب من سدّة الحكم لصالح قيادات من المجتمع المدني السياسي، تولتْ الحكم في أجواءٍ استعادت فيها البلاد حرياتها المسلوبة طيلة سنوات ستٍ انطوتْ منذ عام 1958. الذي وقع بعد ذلك كان تغييراً شاملاً في بنية الحكم : هياكلها وتوجّهاتها وسياساتها الداخلية والخارجية.
لو جاز لنا أن نستعير التوصيف الذي ساد بعد تظاهرات الطلاب في أنحاء أوروبا في أواخر العقد السادس من القرن العشرين، وما وقع أيضاً بعد ذلك في "براغ" عام 1968، من اضطرابات بعد جنوح الحزب الشيوعي هناك في نشوزه عن "الكتلة الشرقية" التي تسيطر عليها موسكو، إلى إحداث إصلاحات باتجاه مزيدٍ من الحريات والانفتاح، أجهضها تدخل عسكري من حلف "وارسو"، حامي الكتلة الشرقية، وعرفت ب"ربيع براغ"، سنرى مقاربة مجازية لهذه التطورات بما وقع في أكتوبر 1964في السودان. وفيما وقع مؤخراً بين 2010 و2012، من تحوّلات جذرية في بعض البلدان العربية، وقادتْ إلى تحوّلات سياسية عارمة، وتغييرات بنيوية في أنظمة الحكم فيها، وعرفت ب"الربيع العربي"، فإنّ الذي حدث في السودان في أكتوبر 1964، يُعدّ الأنموذج الأوّل لانتفاضة شعبية أسقطت نظاماً استبدادياً، وحملتْ نفس سمات ذلك "الربيع السياسي" الفريد في المنطقة العربية. حقّ لنا أن نزعم أن ثورة 21 أكتوبر هي الرّبيع السوداني الأوّل، قبل كل مواسم الربيع السياسية التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد عام 2011.
لك أن تنظر فيما كتبَ الأستاذ محمد حسنين هيكل يصوّر الحال في الخرطوم، في مقاله الشهير وقتذاك، "ثمّ ماذا بعد في السودان":
(( لقد حدث فى السودان شىء يستوقف النظر:
" فجأة، وفى لحظة نفسية مواتية، استطاع الشارع السودانى بجماهيره أن يحقق وحدته، وفى نفس اللحظة بسبب صراع السلطة كان الجيش السودانى بغير وحدة تواجه وحدة الشارع، وتقمعها، بمزيد من الإرهاب إذا اقتضى الأمر.
ولقد تحققت وحدة الشارع السودانى تحت ضغوط نفسية قوية، وبغير قيادة تتولى التنظيم الدقيق، وكان حظها السعيد أن ذلك حدث فى ظروف انقسام السلطة المسلحة.
ولم تستطع السلطة المسلحة - بانقسامها - أن تضرب.
وتقدم الشارع - مندفعاً - ليملأ الفراغ الذى أحدثه الشلل الذى أصاب السلطة العسكرية وقيد حركتها، وأحدث التغيير الكبير الذى حدث فى السودان. )) 2
وبرغم ما أثار مقال هيكل من غضبٍ في الشارع السوداني وقتذاك، لكنه كان مقالاً صادقاً، عبّر في جانبٍ عن حال الخرطوم والثورة في غليانها ، وما بقيَ له إلا أنْ يُسمّي تلك الحال بأنّها "الربيع السوداني" الأوّل، ذلك البلد الذي لا يعرف مواسم للربيع في طقسه بسبب حرارته المفرطة..
وتعد ثورة 21 أكتوبرفي السودان 1964 ، الحالة الأولى في منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، التي أزاح فيها شعبٌ أعزل ديكتاتورية متمكنة، وفرض على القوات المسلحة أن تقف إلى جانبه ..
وفي عودٍ على بدءِ حديثنا عن استيلاءِ الجيش في السودان على الحكم في عام 1958، وعلى إدارته لشئون البلاد لفترة امتدتْ حتى قيام الإنتفاضة الشعبية الكبرى في 21 أكتوبر 1964، لابدّ لنا من التعرّض إلى طبيعة البيئة السياسية والأجواء التي كان عليها العالم بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، واتجه بعدها للتوافق على ترتيبات سياسية ودبلوماسية واقتصادية، تجنّبه ويلات القتل والدمار الذي عايشه العالم بين 1938و1945. شملتْ الترتيبات السياسية التي استجدت بعد الحرب صياغة ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وباقي الاتفاقيات التي نشأتْ عنها المنظمات والهيئات الدولية ذات الصبغة السياسية، وكذلك جرى التوافق على وضع الترتيبات الاقتصادية، التي كان قوامها مؤسسات "بريتون وودز"(BRETTON WOODS)، التي أسّستْ للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي اللذين عنيا بضبط التعامل الاقتصادي والنقدي في العالم، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. في إطار تلك الترتيبات والآليات الدولية، توافقتْ الأمم على آليات لضبط العلاقات السياسية بين الدول، على أسس الإحترام المتبادل للإستقلال والمساواة في الحقوق، وذلك في أوائل سنوات الستينات من القرن العشرين، ومنها ما بات يعرف باتفاقيتي فيينا الأولى للعلاقات الدبلوماسية، والثانية للعلاقات القنصلية، واللتين وضعتا الأطر والقواعد العامة للعلاقات الدبلوماسية الرسمية بين الدول.
على أن انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يُنهِ المواجهات ومسبّبات الصراع في العالم بصورةٍ حاسمة، بل اتخذتْ تلك المواجهات لبوْساً جديداً، مَحوره التنافس المستتر لبسط النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي، في عالم تتباين مكوناته وموارده وثرواته من إقليم إلى إقليم، ومن بلدٍ إلى بلدٍ آخر. ذلك ما توافق العالم على وصفه بأجواء حربٍ جديدة هي "الحرب الباردة". صارت المواجهات تأخذ شكلاً مستتراً وغير مباشر، إلّا في حالات قليلة تورّطتْ قوى كبرى في حروب مباشرة، مثلما حدث مباشرة بعد فصل ألمانيا إلى دولتين لتحمل برلين الشرقية وبرلين الغربية رمزية الحرب الباردة لأكثر من أربعين عاما. ثم تنشب الحرب الكورية (1950) لتفرز حرباً مريرة بين الأشقاء، وتليها الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام أواسط سنوات الستينيات، والتي انتهت في عام 1972، بعد مفاوضات سياسية مضنية جرتْ في العاصمة الفرنسية. أسفرتْ الحرب الكورية عن "كوريتين"، وخرجت فيتنام حرّة مستقلة متحدّة بعد تلك الحرب المريرة، ولما انهار الجدار بين "البرلينين"، كانت تلك هيَ النهاية الرمزية لحقبة "الحرب الباردة" .
في تلك الأجواء، نشأتْ حركة عدم الإنحياز، كتلة من الدول نأتْ بنفسها عن كتلتي "الغرب" و"الشرق" في مؤتمر "باندونق" بإندونيسيا عام 1955، وشكّلت أوّل تجمّع للبلدان النامية، وتلك التي نالت استقلالها حديثاً من القوى الكبرى التقليدية بعد أفول شمس الكولونيالية عن العالم والتي درجنا على تسميتها بحقبة الاستعمار. وفي ذات تلك الأجواء، وما شابها من مواجهات مُستترة في آنٍ ومعلنة في آنٍ آخر، وبروز ظاهرة الإنقلابات العسكرية في بلدان ما اصطلح على تسميته ب"العالم الثالث"، وقع الإنقلاب العسكري بقيادة الفريق إبراهيم عبود الذي أطاح بالديمقراطية الوليدة في السودان، عام 1958، واستفرد بحكم البلاد لسنواتٍ ست، حكماً استبدادياً بلا حريات ولا ديموقراطية، انتهى بحلول "الرّبيع السياسي" الأوّل في السودان، في 21 أكتوبر من عام 1964. تلك هي الانتفاضة التي أكملت خمسين عاماً ذهبياً من عمرها في عام 2014.
ولاستهلال تحليلنا لمسارات السياسة الخارجية، وتحوّلاتها وتغيّر توجّهاتها قبل وبعد سقوط النظام العسكري في السودان، في ظلّ هذه الأجواء السائدة في الإقليم وفي العالم، والتي عرفتْ بسنوات "الحرب الباردة"، نعرج على مواقف السودان وعلاقاته الخارجية، وكذلك سننظر في بنية وزارة الخارجية السودانية توجهاتها ورجالها وقيادتها في تلك الفترة (1958-1964)، ونستجلي أساليب إدارة ملفاتها السياسية، ونستكشف العوامل المؤثرة في تشكيل مواقفها التي تغيّرت تبعاً لذلك، في الساحتين الإقليمية والدولية، ثم نختتم باستخلاصات موضوعية حولها.
إدارة دبلوماسية السودان خلال فترة الحكم العسكري(1964-1958) :
على هذه الخلفية، وقع انقلاب السودان في عام 1958، وبدا وكأنّهُ نتاج ضِيْقٍ بالتجربة الديمقراطية الوليدة بعد الاستقلال في عام 1956. من اللافت أن موضوع قبول "المعونة الأمريكية" كان ملفاً تداولته الأحزاب السياسية، ودار سجال طويل، شدّاً وجذباً حولها. برغم أنها لم تكن سبباً مباشراً من أسباب قيام الإنقلاب، لكنها كانت مثار احتكاك بين الأحزاب التي دخلت في تحالفات هشة لحكم البلاد. معروف أن المعونة الأمريكية كانت ذراعاً طويلا من الأذرع الأمريكية النشطة إبان سنوات "الحرب الباردة"، ولم يكن السودان ببعيدٍ عن الاهتمامات الأمريكية.
شهدتْ سنوات الحكم العسكري في السودان بين 1958 و1964، بزوغ حركة عدم الانحياز، بعد مؤتمر "باندونق" عام 1955، ونشوء منظمة الوحدة الأفريقية في مايو من عام 1963، في ظلِّ احتدام الصراع الناعم بين الغرب والشرق. كانت الدبلوماسية السودانية تمشي على سطح حديد ساخن – ويا للمفارقة- في أجواءٍ عرفت بإسم "الحرب الباردة"، فيما كان أكثر انشغال المجلس العسكري الحاكم في الخرطوم، هو بالحرب الأهلية الناشبة في جنوب السودان، وبعددٍ من الملفات الداخلية والخارجية الساخنة الأخرى، مثل مياه النيل، ومشكلة حلايب، وتنمية البلاد وسواها من ملفات.
كان قدر السياسة الخارجية للسودان في الفترة من 1958 وحتى 1964، أن يولي المجلس العسكري الحاكم أمرها للأستاذ أحمد خير المحامي، فارتبطتْ ارتباطاً وثيقاً بشخصه وبأسلوبه في إدارة جهاز دبلوماسية السودان. تُركت ساحة العلاقات الخارجية برمتها للأستاذ أحمد خير، وكانت يده طليقة في ملفاتها، إلا ما احتكرتْ معالجته الزّمرة العسكرية، مثل ملف مشكلة الجنوب وملف مياه النيل.
كانت للرجل- وهو يدير ملفات الدبلوماسية السودانية- مرجعيتين رئيستين أفصلهما في التالي:
أوّل مرجعياته أنّ للرجل سهماً مُقدّراً في إحياءِ الحركة الوطنية في البلاد في عام 1938 عبر "مؤتمر الخريجين"، بعد أن شهدتْ تلك الحركة ارتخاءً لعقدٍ ونيف منذ سنوات ثورة 1924. فهو إذاً رمز من رموز الحركة الوطنية التي أسّستْ للنضال الوطني في مجابهة القوى الكولونيالية3 البريطانية القابضة على الأمور في السودان. تحوّل حراك "الخريجين" عبر مؤتمرهم الذي لعب أحمد خير دوراً رئيسا في إنشائه، إلى بروز جماعات وكيانات سياسية، مثل جماعة "الأبروفيين" وجماعة "الهاشماب" في سنوات الأربعينات من القرن العشرين، ثم تبلورت توجهاتها بعد ذلك وارتبطت بالكيانات الطائفية القائمة في البلاد، وبرزت عنها الأحزاب السياسية بمختلف مسمّياتها من اتحاديين، تنادوا للإتحاد مع مصر، أو مستقلين دعوا لاستقلال السودان، بعيداً عن القوتين اللتين حكمتا السودان، بموجب ترتيبات اتفاقية الحكم الثنائي الموقعة في 1899، فيما برزت بروزاً متواضعا لكنه مؤثر، تيارات يسارية وأخرى إسلامية . كانت لأحمد خير مواقف غير متعاطفة مع الطائفية عموماً. وقبيل الاستقلال بقليل وتسيّد السياسيين الحركيين المُتصلين بالطائفية الساحة السياسية، جرى تهميش الرجل، ويرجّح حيدر إبراهيم أن ذلك الموقف المتسق مع موقفه المعادي للطائفية، كان مدعاة لاقترابه من النظام العسكري في نوفمبر1958.3
ثاني مرجعية لأحمد خير، هي التي تتصل باستقلاله الفكري وتفرّد شخصيته وبراعته كرجل قانونٍ متميّز، وحرصه على النأي بنفسه عن الانخراط في صراعات الأحزاب السياسية، قبل وبعد سنوات الإستقلال. لم يعرف عنه إنتماءٌ لأيّ من الأحزاب الرئيسة في تلك الفترة التي أعقبت الاستقلال. غاب الرجل- أو غيّب لا فرق- عن الساحة السياسية التي حفلت بأحزاب تقاطعت توجهاتها وتباينت مواقفها، قبل الاستقلال وبعده بقليل.
وفي تجربة أوّل حكمٍ عسكريٍّ في السودان، وهو أوّل انقلابٍ يقع في أفريقيا جنوب الصحراء، في نوفمبر من عام 1958، ومن بين وزراء ذلك العهد، "التكنوقراط"- إذا جاز الوصف- والذين استعان بهم العسكريون واستوزروهم، اختاروا "سياسياً وطنياً"، وليس "سياسياً مُستحزِباً"، هو المحامي أحمد خير ليتولى حقيبة الخارجية. كان بوسعِ الفريق عبود رئيس المجلس العسكري أوانذاك، أن يختار عسكرياً من مجلسه، ولكنه لم يفعل، ولربّما لقلة خبرة أعضاء المجلس العسكري في العلاقات الخارجية والدبلوماسية. بل وكان بإمكان الفريق عبود أن يُحيل عدداً من الوزارات الأخرى، مثل وزارة الري أو وزارة المالية أو الصحة لعسكريين من زمرته، لكنه آثر الركون إلى الخبرات الفنية، البعيدة عن التحزّب السياسي لإدارة تلك الوزارات.
أنظر ما كتب جمال محمد أحمد عن أحمد خير، يصف حاله لمّا غاب عن الساحة السياسية قبل وقوع الإنقلاب العسكري في 1958 : (( دُفعَ به بعيداً رفاقه، ومضوا في طريقهم، فإذا صاحبي في وحشة سياسية طويلة، أحسبه كان يحاور نفسه فيها، يسائل أين كانت العثرة، إنّه موضع الإجلال، نعم ماذا يفيده الإجلال لكن. إنه في بيته قاعد لا يجد مكاناً مع أية جماعة سياسية. يريد ليعمل، يريد جماعة سياسية تحتويه وكان أفطن من أن يرمى الناس جميعاً بالحمق ويستأثر هو بالحكمة والفصل في الخطاب. أخاله أقبل على نفسه يعتب أيضاً عليها، وأسفر في وحشته ما استنام، ما تصنّع النوم! ))4.
لعلّ اختيار المحامي أحمد خير وزيراً للخارجية، لسِتِ سنواتٍ متصلة هي سنوات الحكم العسكري، وبهاتين المرجعيتين اللتين تلخّصتا في دوره الوطني الخالص، ثم جنوحه إلى النأي بنفسه عن التكوينات الحزبية السائدة، هو ما مكّن وزارة الدبلوماسية من أن تستقل بمهنية منسوبيها خلال سنوات حكم الفريق عبود، بعيداً عن تاثيرات السياسة الداخلية، وبعيداً من تغوّلات السياسيين، أو العسكريين على أدائها. شهدتْ تلكم السنوات دوراً مرموقاً للدبلوماسية السودانية، ولأحمد خير اليد الطولى في إدارتها. ويرى السفير أحمد عبدالوهاب جبارة الله أنّ الكينونة المهنية لوزارة الخارجية لم تهتز خلال فترتي الحكم العسكري في السودان (1958-1964) و(1969- 1985)، وأن أحمد خير عوّل بشكل كبير على خبرات الدبلوماسيين واحترم مهنيتهم للعب دورٍ فاعل في تنفيذ السياسة الخارجية.5 عاون الوزير أحمد خير على ذلك سفراء لهم سهم مقدر، بحكم الثقافة والخبرة الطويلة، مثل محمد عثمان يسن وخليفة عباس وجمال محمد أحمد. كان السفير جمال " أحد كبار المدافعين عن حياد الخدمة المدنية وحصاناتها، وواحداً من الذين ساهموا مساهمة كبيرة في حماية الخدمة المدنية من تغوّل الأحزاب والسياسيين".6
نوجز بعض معالم ومواقف للسودان إبان تلك السنوات، في التالي:
1- الوساطة الدبلوماسية السودانية في النزاع الذي نشب عشية استقلال الكويت مع العراق.
2- الدور الذي لعبه السودان في إطار دور الأمم المتحدة في جمهورية الكونغو وتداعيات مقتل الزعيم الكونغولي باتريس لوممبا، وما تلى ذلك من أحداث لقي فيها الأمين العام داج همرشولد حتفه بعد سقوط طائرته في أحراش الكونغو.
3- قيام نظام الفريق عبود بالاعتراف بجمهورية الصين الشعبية، وهي مبادرة أفضت إلى اعتراف واسع بها بعد ذلك، من قبل أكثر البلدان الأفريقية.
4- الدور الفاعل الذي لعبته الدبلوماسية السودانية خلال الميلاد العسير لمنظمة الوحدة الأفريقية في العاصمة الإثيوبية، وقد أسهب في وصفه جمال محمد أحمد في كتابه "عرب وأفارقة".
5- استطاع الفريق عبود أن يوثق علاقاته شرقاً وغرباً، وكان يردّد دائماً أنه "جلب للسودان صداقة الشعوب". ويُعزى إلى الدبلوماسية السودانية بمهنيتها، انجاز عددٍ من زيارات رؤساء الدول الأجنبية إلى السودان في السنوات الأربع الأخيرة من عمر النظام العسكري :
(أ) إذ زار السودان نكروما رئيس غانا، ورئيس جمهورية الهند جواهر لال نهرو، والرئيس جمال عبد الناصر، ورئيس الوزراء الصيني شو إن لاي، ورئيس مجلس السوفييت الأعلى وقتذاك ليونيد بريجنيف، ورئيس دولة يوغسلافيا السابقة جوزيف بروز تيتو، وغيرهم. في المقابل قام رئيس النظام العسكري بزيارات شملت دولاً كبرى في الشرق والغرب، منها لندن وواشنطن، بكين وموسكو ودلهي وبلغراد..
(ب) لعلّ زيارة "تشي جيفارا" ضمن وفد كوبي رسمي للخرطوم أوائل سنوات الستينيات، كانت أحرى بالوقوف عندها في تلكم السنوات9، خاصة إذا علمنا أن "جيفارا" قام بعدها بمغامرة في الكونغو المجاورة للسودان، لم يكتب عنها كثيراً. غير أن هذه الزيارة لم تأخذ بريقاً إعلامياً يذكر. 8
(ج) لقد ورد أيضاً أن المناضل الأفريقي نلسون مانديلا، شاباً في ثلاثيناته، زار الخرطوم ومنحته وزارة الخارجية جواز سفرٍ دبلوماسي، وذلك قبيل عودته إلى بريتوريا ليزج به في السجن قرابة الثلاثين عاما. على أن الأمر يحتاج لمزيد تعضيد موثق، لم يتح للكاتب لأسباب شتى، منها تعذر الاطلاع على وثائق وزارة الخارجية السودانية المتصلة بالواقعة .
لا يمكن إنكار أنّ هذه الزيارات والمبادرات السياسية عكستْ رغبة النظام في الانفتاح تجاه إقليمه القريب، بل وتجاه العالم من حوله، في محاولة لخلق علاقات متوازنة في عالمٍ مضطرب الأحوال خلال سنوات "الحرب الباردة". في معايير الصداقة مع الدول الأخرى، لا ينظر الآخرون للإخفاقات الداخلية الكبيرة المتمثلة في استمرار الحرب الأهلية في جنوب السودان، فهم رأوها شأناً داخلياً محضا. لم يتململ العالم الغربي، إلا حين أقدم النظام العسكري في آخر أيامه، على طرد القساوسة وممثلي الكنائس التبشيرية في جنوب البلاد. كسب النظام العسكري بعدها، عداوة بلدان الجوار الأفريقي المحيطة بإقليمه الجنوبي.
غير أن لمرحلة الحكم العسكري (1958-1964) إخفاقاتها في مجال العلاقات الخارجية، وهي تُعدّ وتُحصى، ولكن لنوجز منها المواقف الرئيسة هنا :
1- فشل الحكم العسكري، حتى سنة انهيار نظامه في أكتوبر 1964، في التوصل إلى حل لمشكلة الجنوب والحرب الدائرة فيه منذ 1955، عكس نقمة كثير من القادة الأفارقة على نظام الفريق عبود. والملاحظ أن مشكلة الجنوب لم تأخذ بعداً إقليمياً أو دولياً وقتذاك، فلم تكن تلك المشكلة ملفاُ من ملفات وزارة الخارجية أو هماً يؤرق الدبلوماسية السودانية، بل كانت شأناً داخلياً يعالج في وزارة الدفاع السودانية، تحت نظامٍ عسكريٍّ قابض .
2- مع حرص الخرطوم على علاقات حسنة مع القاهرة إبّان سنوات الحكم العسكري- وتعدّ اتفاقية مياه النيل الموقعة عام 1959 مؤشراً عليها- إلا أن ذلك الملف ظلّ يعالج بعيدَ نسبياً عن وزارة الخارجية في الخرطوم، وكان ملاحظاً أن وزير الخارجية لم يكن طرفاً رئيساً ومباشراً في المفاوضات التي أفضت إلى ذلك الاتفاق، وإنْ لا يعني ذلك أن وزارة الخارجية تبنت موقفا معارضا لذلك الاتفاق. ومن المعلوم أيضاً أن شئون السودان ظلت ملفاً يدار في مكاتب المخابرات المصرية، لا في وزارة الخارجية المصرية.
لعل شهادة سفير مهني وكاتب شاعر مثل محمد المكي إبراهيم، هي ممّا يجدر الوقوف عندها. كتب عن تلك المرحلة : (( وكما كان للنظام حسناته فقد كانت له خطاياه، وعلى رأسها استسلامه المتهافت أمام السمعة الداوية للرئيس عبد الناصر، وقبوله ثمناً قليلاً للأراضي السودانية التي أغرقها السد العالي وأقيمت عليها بحيرة ناصر. ومنها اهتمامه الكبير بحركة التشييد السكني التي استفرغت جهد ومدخرات السودانيين وجمدتها في هياكل أسمنتية بدلا من استغلالها في الزراعة والتصنيع، ومنها عدم استفادته بصورة متساوية من معونات المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وكانا يتنافسان على خطب ودّ السودان في تلك المرحلة الباكرة من مراحل الحرب الباردة. وعلى الجانب الآخر، كان ثوار أكتوبر يحلمون بديمقراطية عميقة الجذور تهيئ البلاد لتنمية أسرع وأقوى)) .8
3- والجدير بالاشارة أن قضية "حلايب" ظلت معلقة في الأمم المتحدة، طيلة سنوات الحكم العسكري، ولم يثرها أي طرف خلال تلك الفترة. تابعت وزارة الخارجية السودانية عن بعد، بقاء الملف مجمّداً في أضابير مجلس الأمن، وقد تتحمّل الدبلوماسية السودانية وأحمد خير عميدها، طرفاً في هذا "التراخي"، ولا مندوحة من أن نراه تفريطاً في شأنٍ يتصل بالسيادة.
4- يُرصد للسودان، خلال سنوات حكم الفريق عبود، ضعف تأييده لحركات التحرّر في القارة الأفريقية بصورة واضحة، بل كان النظام العسكري يقف إلى جانب إثيوبيا، ولا يؤيد ثوار إريتريا الذين تواصل نضالهم لفك بلادهم من الوصاية التي وضعتهم تحت سيطرة إثيوبيا بعد سنوات الحرب العالمية الثانية..
5- أمّا في اليمن الجنوبي، فقد وقف النظام العسكري يساعد بريطانيا في محاصرتها لثوار اليمن الجنوبي. أشار بيان للحزب الشيوعي السوداني إلى أن نظام عبود آثر الوقوف إلى جانب الأحلاف المشبوهة في المنطقة، وحلف بغداد تحديداً، ممّا أثار عليه نقمة أطرافٍ عربية عديدة. 9
6- فيما يتصل بأحداث الكونغو، لم يُرصد للسودان دعم ومساندة لثوار تلك البلاد الذين جرت تصفية قياداتها، بدءاً بباتريس لوممبا، الرئيس الشرعي الذي تآمر عليه المستعمر البلجيكي والمتواطيء الأمريكي، متحالفاً مع الرجعي "مويس تشومبي"، ووصولا إلى انفصال إقليم "كاتنقا" هناك. واجه النظام العسكري الحاكم في السودان انتقادا من أطراف داخلية وخارجية، لكونه لزم الصمت إزاء محاصرة العناصر الوطنية في الكونغو وتصفية قياداتها، وذلك عشية إعلان استقلاله في عام 1960. يشير السفير أحمد عبدالوهاب في كتابه "محطات دبلوماسية" إلى الضغوط التي تعرض لها الفريق عبود في زيارته الرسمية لواشنطن عام 1961، إذ أثارت أطرافٌ أفريقية أن ثوار الكونغو الذين لاذوا بيوغندا وبالسودان، جرى ابتزازهم وسرقت مواردهم، ولم يتحصّلوا على السلاح الذي دفعوا ثمنه.10 لا غرو أنّ سيكوتوري رئيس غينيا المتعاطف مع حركة التمرّد في جنوب السودان، وصف السودان وقتها بأنه "رجل أفريقيا المريض"، فيما العلل قد استفحلت في عدة أطراف من القارة الأفريقية، والحرب الباردة تفعل فعلها في السنوات الوسيطة من القرن العشرين. من بين بلدان القارة، لم يحمل هذا الوصف التجريمي إلا السودان..
تلك كانت الفترة التي تولّى فيها أحمد خير زمام الخارجية السودانية بين 1958 و1964، وذلك حال وزارته أوانذاك، بنجاحاتها وبإخفاقاتها. كتبَ جمال محمد أحمد يحدّث عن وزيره أحمد خير، وقد صحبه حين كان جمال سفيراً في أديس أبابا، يشارك في الاجتماعات التأسيسية لمنظمة الوحدة الأفريقية (التي صارت تعرف الآن بالإتحاد الأفريقي) في مايو من عام 1963، بلغة مواربة مستترة، لكنها مُبينة وإنْ حملت لهجة إعتذارية لا تخفى :
((.. بعد أن استعاد إستقلاله السودان وتباينتْ السُّبل مِن بعد ، وعطسَ الجيشُ عندنا، حينَ عطستْ جيوش حولنا، إنّ عراك السياسة عبث في جوفه خطر محيق، لن يدرؤه غيره، فاغتصبتْ ديمقراطية كان ذاك الجدال واحدة من دعائمها العدّة لو درَى. وعابثَ التاريخُ صاحبي معابثةً مشى الجيشُ نحوهُ ذاك الفجر يَستعين به، فأعان على مقدارٍ أراده، وأياماً قليلة بعدها وجدَ مكاناً في السياسة ظلّ يرنو له، يراه قريباً ولا يصلهُ. هنا عابث صاحبي التاريخ بدوره، فقد كان يعمل مع الجيشِ، يقول عن أهله حين يخلو لمِن يأتمن "الجماعة" ويبسم بسمة، تهمّ أن تكون أو لا تكون..)). 11
يمضي جمال يكتب عن أحمد خير : ". . ملك النفوذ كلهُ وكان لغيره السلطان. ما عناهُ هذا ولا أوقره..".. لعلّ رضا السفير جمال عن أداء صنوه الوزير أحمد خير، هو الرضا النابع من غيرة على المهنية والدبلوماسية الاحترافية، التي حَمَى سياجها وزيرها، فلم يتسلق أسوارها دخيل، ولم يتغوّل عليها غائل. ذلك ربّما يُعزى للشخصية البراجماتية والقوية للمحامي أحمد خير. يلاحظ د.حيدر ابراهيم أنه يمكن أن يصنف أحمد خير بالنظر إلى تجربته في الأربعينات، نصيراً للديمقراطية بمكوناتها الأساسية وهي الحريات السياسية والاقتصادية والثقافية وتوجّهها نحو التنمية الشاملة والعادلة، واحترام التنوع، غير أنه اختار بعد انقلاب نوفمبر في عام 1958- ولربّما لاحساسه بمرارات تجربة الأحزاب عشية الاستقلال- أن يكون جزءاً من نظام عسكري "دكتاتوري شديد التخلف". 12
وفي إشارة من السفير أحمد عبدالوهاب إلى شخصية الوزير أحمد خير، إبّان توليه المنصب خلال سنوات الحكم العسكري، يكتب: "ولعل المرؤ لا يستطيع أن يغفل حقيقة هامة، وهي أن السيد أحمد خير كان يُنظر إليه بأنه العقل المدبّر للسياسة الخارجية السودانية في ظلّ نظام الفريق عبود، ولعل موقعه كشخصيةٍ مرموقة في الحركة الاستقلالية السودانية، وشهرته كقانوني ومحامٍ من الطراز الفريد، قد هيأته لما تمتع به من موقع متقدّم في حكومة عبود".13
وهكذا نلاحظ أنه لم يكن للنظام العسكري من نيّة لإحداث تحوّل بنيوي في هيكل الدبلوماسية السودانية، ولا من سعيٍ لتمكين المنتمين لعصبته للإمساك بملفات وزارة الخارجية، وقد إئتمنوا أحمد خير عليها، سوى ميلهم لمعالجة ملف مياه النيل بعيداً عن نظر الوزارة. ذلك ملمحٌ مُهمٌ، إذ نلاحظ أنّ التطهير الذي وقع عقب انتصار ثورة أكتوبر عام 1964، وشمل عدداً من المرافق الحكومية، لم يمسّ ذلك التطهير جسم وزارة الخارجية، إلا مسّاً طفيفاً غير مؤثر.14
تحوّلات في السياسة الخارجية بعد أكتوبر 1964 :
بعد اندلاع الهبّة الشعبية الغاضبة على الحكم العسكري وسقوط نظامه، اتفقت جبهة الهيئات على ما أطلق عليه "الميثاق الوطني"، والذي تضمّن عدداً من المباديء العامة، شملت تصفية الحكم العسكري، وإعادة الحريات العامة، واقرار استقلال القضاء، وإستقلال جامعة الخرطوم. من بين المباديء الرئيسة، أقرّ الميثاق الوطني ضرورة أن ترتبط الحكومة الانتقالية التي تم تشكيلها بموجب الميثاق الوطني، والتي جاءت في أعقاب انهيار حكومة الفريق إبراهيم عبود، بانتهاج سياسة خارجية ضد الاستعمار والأحلاف. 15
لعل أوّل مظاهر التغيير بعد تولّي محمد أحمد المحجوب وزارة الخارجية في حكومة الثورة التي رأسها السيد سرالختم الخليفة (1964-1965)، وقعت في ملفات السياسة الخارجية، إذ تبنّى السودان تحولاً دبلوماسياً كاملا في أمّ ملفات علاقاته الخارجية، فأعلن تأييده لثوار الكونغو والذين لجأت قياداتهم إلى جوبا، كما أبدتْ دعمها للحكومة للحكومة الثورية في اليمن، وأيضاً أبدى دعماً للثوار الإريتريين الذين ظهرتْ قضيتهم في دائرة الضوء للمرّة الأولى. 16
سننظر في السطور التالية إلى تفاصيل ذلك التغيير الذي وقع في مواقف السودان وعلاقاته الخارجية، في أعقاب تولّي حكومة الثورة الأولى مقاليد الأمور في السودان.
1- عن مصر:
إذا نظرنا إلى ملفِ العلاقات السودانية المصرية، سنرى رؤية تعكس عدم اطمئنانٍ من جانب مصر على مواقف السودان في عمومها. برغم أن مصر حققتْ باتفاقية مياه النيل عام 1959، مكاسب لها في ملف مياه النيل الذي أقلق القاهرة خلال فترة الحكومات الحزبية بعد استقلال السودان. لم تكن توجّهات مصر نحو أهدافها المعلنة للوحدة العربية قريبة إلى نظر الخرطوم، بل لا تجد تعاطفاً يُذكر، والخرطوم هي جغرافيا القرب، لا سوريا التي عقد معها عبدالناصر دولة وحدة سمّاها "الجمهورية العربية المتحدة" ، لم يكتب لها أن تثبت طويلا. أشار ك.د.د. هندرسن، الإداري البريطاني الذي خبر السودان لسنين، إلى أن ملف النزاع حول "حلايب" بقيَ متروكاً على منضدة الأمم المتحدة بلا حسم، وبصمتٍ مِن الطرفين عن إثارته 17، حين انتفضتْ الخرطوم على نظام عبود، جاء مقال محمد حسنين هيكل "بصراحة" بتاريخ 6 نوفمبر 1964 بعنوان "ماذا بعد في السودان؟" 18، فكأنه يشكّك في الذي وقع من أحداث، ويلقي بتساؤلات فسّرها الشارع السوداني بعدم ترحيب من قبل القاهرة، إذ يعلم الناس أن قلم هيكل هو الصوت الرسمي للقيادة المصرية. هبّت جماهير الخرطوم واندفعت في تظاهرة عارمة، قوامها طلاب من معهد الخرطوم الفني (جامعة السودان الحالية) وهاجموا السفارة المصرية، ووقع عنف شديد، جرى خلاله تحطيم شعار الجمهورية المصرية، منحوتة النسر الشهيرة. إستعملتْ قوات الشرطة المسيل للدموع لتفريق المظاهرات العارمة، حول مباني السفارة المصرية في الخرطوم. خلال هذه الأحداث وبسبب مقاله الذي اثار غضب الشارع في الخرطوم، كتب الصحفي السوداني عبد الرحمن مختار مقالا ساخنا يرد فيه الصاع صاعين لهيكل وعنوان مقاله : " وماذا قبل في السودان".19
2- عن إريتريا:
في نظرةٍ إلى ملامح السياسة الخارجية التي اتبعها الحكم العسكري إزاء القضية الإريترية، نجد رصداً مفصّلاً وتقييماً سياسياً، ورد في كتاب "ثورة شعب" ، وربّما هو الإصدارة الوحيدة من نوعها وقد نشرها الحزب الشيوعي السوداني بعد فترة وجيزة من اندلاع الثورة، ووثقت لمظاهر المقاومة للحكم العسكري، والتي لعب فيها اليساريون، وبالأخصّ عناصر من الحزب الشيوعي السوداني، دوراً بارزاً في إذكائها. رصدتْ الإصدارة بعض البيانات التي أصدرها الحزب الشيوعي السوداني، تناولت بالانتقاد مواقف الحكم العسكري من قضية الثورة الإريترية، وذلك حين قام النظام العسكري في أكتوبر 1963 باعتقال عددٍ من الثوار الإريتريين وقدمهم لمحاكمات عاجلة، وجرى بعدها تسليمهم للسلطات الإثيوبية، وقد وصف البيان الإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي، بأنّه جلاد الشعب الإريتري. 20
ظلتْ الحكومة العسكرية تلتزم سياسة التضييق على ثوار إريتريا، تودّداً لنظام الإمبراطور هيلاسلاسي. بعثت نقابة المحامين السودانيين، إثر ذلك بمذكرةِ احتجاجٍ قوية اللهجة للحكومة العسكرية، تشجب التضييق على ثوّار إريتريا، ولكن لم تكن تلك الحكومة على استعداد للإستجابة لأيّ مذكرات من هذا النوع. لعلّ العلاقات السودانية الإثيوبية كانت في أفضل مستوياتها في تلك السنوات، خاصة وأن علاقات صداقة قوية قد ربطت بين الفريق عبود والإمبراطور الإثيوبي، تلكم السنوات. 21
لقد وقع تحوّل كبير في سياسة السودان تجاه الثورة الإريترية بعد نجاح ثورة أكتوبر وسقوط النظام العسكري، وتلقى الثوار دعما قوياً من السودان، كما استقبلت الخرطوم مساعدات جمّة مررتها للثوار الإريتريين وقد جاءت من أطرافٍ عربية متعاطفة.
3- عن اليمن:
أما عن حركة التحرير في اليمن الجنوبي، فلم يكن النظام العسكري الحاكم في الخرطوم، يتعاطف البتة مع حركة المناضلين في اليمن الجنوبي فحسب، بل مضى إلى أكثر من ذلك وتعاون مع بريطانيا لمحاصرتهم وقطع دابر ثورتهم، كما سبق أن أشرنا هنا. وهكذا في الوقت الذي اتسعتْ فيه المقاومة ضد الوجود البريطاني في اليمن الجنوبي، وثق نظام الخرطوم العسكري من صلاته مع لندن، وأبرم اتفاقاً مع الخرطوم سمح بموجبه للطائرات البريطانية – مدنية وعسكرية- بعبور الأجواء السودانية، مكايدة لم تعجب "العرب التقدميين" ممّن وقف مؤيداً نضال الإريتريين ضد السيطرة الإثيوبية، والنضال اليمني في الجنوب العربي. الذي يؤكد ميول نظام الخرطوم العسكري في الوقوف مع بريطانيا ضد الثوار في اليمن الجنوبي، ما أشارت إليه صحيفة "القارديان" بتاريخ 26/5/1964- أي قبل خمسة أشهر من الإطاحة بالنظام العسكري الحاكم في الخرطوم، أن الحكومة البريطانية تأمل أن تتمكن من عقد اتفاقية تؤمّن حق مرور الطائرات الحربية والمدنية البريطانية عبر الأجواء السودانية، خلال السنوات الخمس القادمة، وأن اتفاقا قد تمّ بالفعل مع السودان على ذلك.22 لاشك أن زيارة الفريق عبود، رأس النظام العسكري في الخرطوم إلى لندن، ثم زيارة الملكة اليزابيث الثانية إلى الخرطوم، والتي كان مقدّراً أن تتم وعبود على دست الحكم، لكنها تمّت بعد سقوط نظامه، هما الزيارتان اللتان تعلقتا بأمر التعاون الوثيق بين لندن والخرطوم، لمحاصرة ثورة اليمن الجنوبي. لم تخرج زيارة الملكة إلى الخرطوم بعد وقوع ثورة أكتوبر 1964 من طبيعتها المراسمية، ردّاً على زيارة الفريق عبود رئيس السودان السابق إلى لندن، في أوئل عام 1964. قبل نهاية عام 1965، أوقف السودان التسهيلات التي كانت تقدم للطائرات البريطانية العابرة إلى اليمن الجنوبي.
4- عن الجوار الأفريقي:
ولقد كان تقييم اليسار السوداني– إذا اعتمدنا ما ورد في كتاب "ثورة شعب" تعبيراً عن اتجاهاته- أنّ ما قد رأيناه في السطور السابقة من ايجابيات أنجزتها الدبلوماسية في القيام بأدوار للتوسّط في محيط السودان العربي والأفريقي، هو وجه سلبي اختصر دور دبلوماسية السودان في القيام ب "وساطة بين الشعوب والاستعمار، لصالح الاستعمار"، حسبما ورد في الكتاب، بل يمضي ليُحمّل السودان " مسئولية أساسية في ضياع استقلال الكونغو وتفتت وحدته وفي اغتيال البطل الأفريقي باتريس لوممبا " . 23
حينَ انعقد مؤتمر المائدة المستديرة لبحث أزمة جنوب السودان، في 16 مارس1965في الخرطوم، وشارك فيه ممثلون من الجزائر وغانا وكينيا ونيجيريا وتنزانيا ويوغندا ومصر، كان ذلك تحولاً واضحا في اتباع سياسة ترتضي الشفافية في ايجاد حلول لمشاكل كان الظن خلال الحكم العسكري، أنها من المحظور مناقشتها، بحجّة أنها من الشئون الداخلية. أشار محمد عمر بشير إلى أن مشاركة ممثلين من هذه البلدان في تلكم الاجتماعات، يعدّ تعبيراً عن الأهمية الكبرى التي علقتها الحكومة السودانية، التي تشكلت بعد انهيار الحكم العسكري، على قرارات المؤتمر وعن رغبتها الأكيدة في إشراك الأقطار المجاورة في مساعي ايجاد حل لمسألة الجنوب. ويلاحظ أنه لم تتم دعوة ممثلين لإثيوبيا ولا للكونغو، وذلك برغم وجود أعداد كبيرة من اللاجئين السودانيين في هاتين الدولتين. ذلك يعد مؤشراً إلى ضعف الثقة من طرف الدولتين في القيادة الجديدة في الخرطوم. 24
أوضح السفير والأكاديمي د. محمد أحمد عبد الغفار أن مساندة الكونغو لحركة التمرّد التي كانت تنادي بانفصال السودان، جاءت كرد فعل لمساندة السودان المعلنة لثوار الكونغو. بعد أكتوبر 1964، قبل السودان استقبال الثوار أتباع "أنطوان جيزنجا"- خليفة لوممبا- على أراضيه، كما عمل على شراء أسلحة لهم من أطراف في الإقليم.25 لقد تغير الموقف الكونغولي وضعف تأييده لحركة "أنيانيا"، خاصة بعد تولي محمد أحمد محجوب رئاسة الحكومة الوطنية الثانية في عام 1965، ويرجح جوزيف لاقو أحد كبار زعماء جنوب السودان، أن التعاطف الغربي تراجع بعد ذلك، إذ لم تكن هنالك من حاجة للتصدى لاتساع نفوذ الشيوعيين في الخرطوم. فقد تم إيقاف الامدادات العسكرية من طرف الكونغو لحركة التمرّد، بايعاز من أطراف غربية، كما لاحظ زعيم حركة "أنيانيا" ، جوزيف لاقو 26 .في حقيقة الأمر أنّ سند دول الجوار قد زاد إثر وضوح تأييد حكومة ثورة أكتوبر للحركات المناوئة للنظم القائمة في الكونغو وإثيوبيا ويوغندا.
وهكذا، جاء دعم إثيوبيا لمتمرّدي جنوب السودان كردّ فعل لدعم السودان المعلن والسافر لثوار إريتريا، وذلك في أواسط سنوات الستينات من القرن العشرين..27
ويؤكد هذا الزّعم ما أورده عبدالغفار نقلا عن الأكاديمي د. محمد بشير حامد من " أن السياسة الراديكالية التي اتبعتها حكومة أكتوبر الانتقالية، أفزعتْ النظم المحافظة في الدول المجاورة. فكلّ من حكومة الكونغو وتتشاد وإثيوبيا، لها مشكلات تتعلق بالأقليات، الأمر الذي جعل رد فعل هذه الحكومات على ما اعتبرته دعماً ايجابياً من جانب السودان للجماعات المناوئة في بلادها ، هو تقديم المساعدة العلنية لحركة التمرّد في جنوب السودان المناوئة للحكومة في الخرطوم."28
بعد أسابيع قليلة من ثورة اكتوبر، جاء اقتراح من حزب "سانو" Sudan African National Union (SANU)) أكبر أحزاب الجنوب التي تأسست خارج البلاد، لعقد مؤتمر يضم القيادات الشمالية والجنوبية، بقصد ايجاد حل لأزمة جنوب السودان، عرف فيما بعد بإسم مؤتمر المائدة المستديرة. قبلت الخرطوم الاقتراح ولكن ثار جدل طويل حول مكان انعقاده : الخرطوم أم جوبا ؟ ولكن آخر الأمر، وافق الجميع ولأسباب لوجستية على عقده في الخرطوم. 29
سافر وفد من الجنوبيين المعتدلين بينهم "داريوس بشير" و"لوباري رامبا" و"ابل ألير" لاقناع قيادات حركة "الأنيانيا" في الكونغو وفي يوغندا، للمشاركة في مؤتمر المائدة المستديرة. تزامنت تلك الرحلة مع أحداث الأحد الدامي في 6 ديسمبر1964، والتي ذهب ضحيتها عدد مهول من أبناء جنوب السودان في الخرطوم، في صدامات عنصرية بغيضة غير مسبوقة بين الشماليين والجنوبيين.
وفي أوائل عام 1965 وبموافقة رئيس الوزراء في السودان، قام وفد سوداني يضم الوزيرين عابدين اسماعيل و"أوزبوني منديري"، ، بزيارة إلى العاصمة اليوغندية كمبالا، في مسعى جاد لإقناع قيادات المتمرّدين هناك بالمشاركة في مؤتمر المائدة المستديرة. حقق الموفدان نجاحاً معقولاً وحصلا كذلك على موافقة في كمبالا على ترحيل اللاجئين السودانيين.30 بدا واضحاً أن المواقف اليوغندية أخذت تلين إزاء الخرطوم.
بذلتْ الحكومة اليوغندية جهداً في اقناع القيادات الجنوبية المتردّدة في قبول المشاركة في المؤتمر، وقد وجد ذلك الموقف إشادة من الأحزاب السودانية في الخرطوم، إذ عكس ترحيباً بتوجّهات الخرطوم الجديدة بعد إزاحة النظام العسكري إثر انتصار ثورة 21 أكتوبر 1964 في الخرطوم ..
خاتمة :
في ختام هذا العرض، نورد بعض الملاحظات التي تتصل بالمواقف كما بالأساليب، بالشكل العام كما بالمحتوى، بعد أن رصدنا ما آلت إليه مسيرة علاقات السودان الخارجية عبر أداء الدبلوماسية السودانية، قبل وبعد سقوط الحكم العسكري في 21 أكتوبر في عام 1964. أمّا وقد أجزنا في هذه الدراسة كيف أن تلك الثورة شكّلت أوّل موسم "ربيع سياسي" في كامل المنطقة وهي ترزح تحت أجواء "الحرب الباردة"، في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وإن ارتضينا المعايير التي تبناها الإعلام العالمي في توصيف مجريات التغيير في منطقة الشرق الأوسط بعد عام 2011، وأسموها "الربيع العربي"، فإنّ مرور خمسين عامٍ على تلك الثورة، يجعل من تحليلنا لمجريات التغيير الذي وقع في مجال علاقات السودان الخارجية في تلك الحقبة، الأقرب للتأويل الموضوعي والخالي من الغرض والبريء من الميول الذاتية.
كانت "القوى الحديثة"، الأقرب تصنيفاً إلى اليسار والمناوئة- بطبيعة تكوينها ومرجعياتها- للقوى التقليدية التي ترعاها الطائفية السودانية، هي رأس الرّمح في الساحة السياسية. لعبت هذه "القوى الحديثة" الدور الرئيس في التغيير الثوري الذي وقع في 21 أكتوبر من عام 1964، وما تبعه من تحوّل في البنيةِ السياسية، وفي السلطة المركزية التي أدارت البلاد. وعلى قصر فترة حكومة ثورة أكتوبر والتي قصرت عن العام، ألقى ذلك التغيير بظلاله على علاقات السودان الخارجية، إذ الثورة في طبيعتها هي تغييرٌ جذري وتحوّلٌ لازم واستدارةٌ كاملة، عن مواقفٍ كانت في رؤية الثائرين روّاد ذلك التغيير، مُمعنة في السلبية، مُلتبسة التوجّهات، ناقصة المعالم، إلى مواقفٍ أكثر ايجابية وأقلّ ضبابية. لربّما كان حريّاً بأولئك الثوّار طالبي التغيير وأتباع "القوى الحديثة"، إمعان النظر مليّاً في عالمٍ مُعقّد خرج من الحرب العالمية الثانية جريحاً، ثم سرعان ما تورّط في "حربٍ باردة" إمتدّ أوارها لعقودٍ تتالتْ، لحِقَ شواظها ببلدان كثر، تأثراُ وتأثيراً. كان السودان من بين تلك البلدان في القارة الأفريقية، التي ما أن نالت استقلالها، حتى غرقت في صراعاتها الداخلية، وتوترتْ مصائرها. لا نبحث عن ذرائع ومبرّرات لإخفاقات جليّة، يتحمل مسئوليتها النظام العسكري الذي حكم البلاد بين 1958 و1964، بل رمينا إلى الوقوف بموضوعيةٍ لازمة، وإلى قراءةٍ جادّة تلتزم الحيدة، لمجريات أحداثٍ وقعتْ في السنوات الوسيطة من القرن العشرين، وعاشتْ سنواتها أجيالٌ تفتّحتْ وشبّتْ على تحديات سنوات "الحرب الباردة". على الرائي أن يقرأ ذلك الكتاب على خلفية ألوانه البرّاقة جميعها، وأن يطالع صفحاته الأوسع كلها، وأن لايقف عند صفحة ثم يولّي باقي الكتاب ظهره، أو يأخذ بصره لوناً واحدا فيه، ويغفل عن أكثر ألوانه بريقاً. كانت ثورة أكتوبر في السودان- بل وفي إقليمه الأفريقي والعربي- موسمَ ربيعٍ متفرّد في سنوات "الحرب الباردة" الطويلة.
بعد خمسين عاماً من أيام أكتوبر 1964 في السودان، تقول هذه الدراسة (2014) أنّ الدبلوماسية السودانية في تلك الفترة (1958-1964)، وكأسلوب لإدارة علاقات السودان الخارجية، وكآلية لإنفاذ توجّهات البلاد في حراكها الخارجي، كانت بذلاً مشهوداً له بمهنيةٍ رصينة، وبخدمةٍ مدنيةٍ مستقلة نسبياً لكنها منحازة لمصالح الوطن بصورة عامة. ولقد حمَتْ ظهر الجهاز الدبلوماسي وقتذاك، مؤسسية قام عليها دبلوماسيون وسفراء مقتدرون، أسّسوا العمل الدبلوماسي وأنشأوا الوزارة، وذلك منذ بداياتها الصفرية بعد اليوم الأوّل لاستقلال البلاد في يناير1956، وحتى كبرتْ تجربتها في السنوات التي تلتْ. وقف معهم بعد 1958، رجلٌ يحسبه كثيرون حارساً من حرّاس الحركة الوطنية القدماء، هوَ أحمد خير المحامي. جاء الرجل، بمرجعياته الوطنية وخلفيته القانونية الرصينة، وزيراً مسئولاً عن وزارة الخارجية، لم يسمح بتغوّل سافر من قبل ذلك النظام العسكري، على أقدارها ومواقفها، أو بالمساس بنظامها ولوائح أداء جيلها الأول الذي أسّس الوزارة، وجيلها الثاني الذي التحق بالوزارة في بدايات عقد الستينات من القرن العشرين. أكسبته غربته "السياسية" وابتعاده عن صراعات الأحزاب عشية الإستقلال، "براجماتية" أضاف إليها من صرامة عرفت عنه، ومن غيرةٍ على التعامل الحكيم. قال الأستاذ جمال محمد أحمد وهو أحد كبار مؤسّسي وزارة الخارجية، قولاُ عَن أحمد خير، ينبغي أن نتوقف عنده: إنّهُ رجلٌ. . "ملكَ النفوذَ كلهُ وكانَ لغيرهِ السّلطان".31
بعد نجاح الثورة في أكتوبر من عام 1964، وقيام حكومة ثورية انتقالية، كان التطهير شعاراً مرفوعاً وفرضاً واجب النفاذ. في وزارة الخارجية لم يمسّ التطهير أركان الوزارة. جرى اعتقال الوزير أحمد خير لفترة وجيزة كإجراءٍ طبيعي بعد نجاح الثورة وسقوط النظام العسكري. من ناحية، يُذكر أن ثلاثاً فقط من بين بعثات السودان في الخارج، هي التي جرى اجتياحها من طرف مواطنين سودانيين، تزامناً مع اندلاع التظاهرات في الخرطوم ضدّ الحكم العسكري، في أواخر أكتوبر من عام 1964، وذلك مؤشّر جليّ على أن أغلب سفارات السودان في الخارج كانت في عين جالياتها، واجهة للوطن، أكثر منها واجهة لنظام حكمٍ أو لتيارٍ سياسي معيّن. 32
وعلى سبيل المقارنة، فإنّ التزام الدبلوماسية بأداءٍ مهني ووطني محض، شكّل سياجها الأول الذي حمَى ظهرها من محاولات التغوّل والتدخّل من خارجها، فيما استسهلتْ أنظمة عسكرية شبيهة جاءت بعد ذلك بسنوات33، برعتْ أيّما براعة في التغوّل والتدخل، ليسَ في فرض سياسات جنحتْ بعيداً عن مصالح البلاد، بل- حتى على مستوىً أقلّ درجة- في التخلّص من كوادرها المهنية، بدعاوى ما سمّوه "الصالح العام"، وإبدالهم بأشخاصٍ وموظفين آخرين من خارجها، في إطار توجّه مستور، ل"تمكين" تيارٍ سياسيٍّ مُعيّنِ المعالم، شرِه التوجّهات، ليحتكر الدبلوماسية ويقيّد رسالتها بتسييسٍ سافر، عِوضَ أن تكون بَذلاً وطنياً خالصاً، لا يُرتهن لحزبٍ أولتيارٍ أحادي ضيّق، فانتهتْ- خاصّة في العقد الأخيرالذي شهد انفصال جنوب السودان إلى دولة مستقلة- إلى خرابٍ وتدهورٍ مريع في الأداء الدبلوماسي للسودان. .
هوامش :
1 –: تاريخ الحركة الوطنية في السودان:1900 -1969، محمد عمر بشير ، جامعة الخرطوم - 1987، ص247.
2- "ثم ماذا بعد في السودان" ، مقال محمد حسنين هيكل: "بصراحة": صحيفة "الأهرام" في 6 نوفمبر 1964.
3- الديموقراطية السودانية: المفهوم-التاريخ-الممارسة، حيدر إبراهيم علي، الحضارة للنشر ، القاهرة- 2013، ص25 .
4- عرب وأفارقة: جمال م. أحمد ، الخرطوم، ط2 - 1999، ص 34 .
5- محطات دبلوماسية : أحمد عبد الوهاب جبارة الله ، رؤية للنشر والتوزيع – القاهرة، 2013، ص 408.
6- جمال محمد أحمد: رسائل وأوراق خاصة: عثمان محمد الحسن، الناشر دار الجيل، بيروت،1992ص122.
7- لم أعثر على توثيق لهذه الزيارة إلا في صورة وردت في كتاب أحمد حسن مطر :30عاماً حول العالم، الخرطوم، ناشر مجهول- 1959، ويظهر فيها "تشي جيفارا" في لقاء مع الفريق عبود وبرفقته وفد كوبي..
8- 21أكتوبر 1964 مشاهدات ومحاولات للتحليل: محمد المكي إبراهيم، موقع سودانايل الالكتروني 20/10/2010.
9- ثورة شعب ، ص 357-358.
10- محطات دبلوماسية ، ص 176-177.
11- عرب وافارقة:: ص .
12- الديمقراطية السودانية ، حيدر إبراهيم ، ص59 .
13- محطات دبلوماسية، ص 181 .
14- استفسرتُ عدداً من قدامى الدبلوماسيين خلال كتابة هذه الورقة عن تلك الفترة، فلم يتذكروا واحداً من ضحايا سياسة التطهير هذه .
15- تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ص238.
K.D.D. Henderson: Sudan Republic, London, 1965, p.16 - 16
17- مشكلة حلايب : تعقيب فيصل عبدالرحمن علي طه على مقال د. سلمان م. أ. سلمان، في موقع سودانايل الالكتروني 4 فبراير 2014 .
18-"ثم ماذا بعد في السودان" ، مقال محمد حسنين هيكل: "بصراحة": صحيفة "الأهرام" في 6 نوفمبر 1964.
19- خريف الفرح ، عبدالرحمن مختار، 1987، الخرطوم مطابع السودان للعملة ط2 ، ص290 .
20- ثورة شعب ، إصدار الحزب الشيوعي السوداني، الخرطوم، 1965، ص 196 .
21- ثورة شعب، ص 55.
22- ثورة شعب، ورد نقلاً عن صحيفة "القارديان" بتاريخ 26/5/1964، ص358.
23- ثورة شعب، ص 55 .
24- تاريخ الحركة الوطنية في السودان:1900-1969"، ص242 .
25- مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب والأقليات في القانون الدولي العام، محمد أ.عبدالغفار– دار هومه -الجزائر 2001، ص 110-111
Lt .Gen. J. Lagu,(ret.):Sudan Odyssey Through A State From Ruin to Hope, -26 Khartoum, 2006.
27- مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب والأقليات في القانون الدولي العام ، ص 314 .
28- مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب والأقليات في القانون الدولي العام ، ص311.
29- مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب والأقليات في القانون الدولي العام، ص 312 .
30- مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب والأقليات في القانون الدولي العام ، ص 345 .
31- عرب وأفارقة : ص35 .
32- Sudan Republic Henderson : K.D.D..السفارات المقصودة هي في موسكو وبلغراد وبيروت: ، ص 205
33- الإشارة إلى ممارسات اتبعت للإحالة للصالح العام بعد انقلاب يونيو 1989 "الإسلامي" في السودان.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.