* إلى التي تعلقت بجمالها.. حتى غادرها قطار العمر، فوجدت نفسها على هامش الحياة. .. كانت سوزان أجمل فتاة في الجامعة كما اتفق على ذلك الجميع، بل كانت لا تُعرف إلاّ بهذه الصَّفة، حتى كان لا يسأل عنها أحد إلاّ بها، نادراً ما ذكرت باسمها.. كانت عندما تمشي مشيتها المغناج المعهودة تطيش عقول الرجال وأفئدتهم وراءها، وتميل رؤوسهم حيثما مالت.. أما الطالبات فكانت الغيرة تأكل قلوبهن.. فقد كان ظهورها كافياً لكي يلغي جميع النساء، ويهمَّش جميع الفتيات.. كانت كالشمس.. تتراجع أمامها الكواكب.. كانت تحفة فنية نادرة من الجمال والحسن والأناقة، تجلت فيها عظمة الخالق في الإبداع والتصوير.. - سبحان المبدع فيما أبدع. - سبحان الخلاّق العظيم.. - كأنها سقطت من جنة عدن إلى دنيا البشر.. كان هذا أبسط ما ينفذ إلى مسامعها من عبارات الإطراء التي تُرمى بها حيثما سارت وأينما حلّت.. انتشت غروراً بجمالها الفتّان، سكرت من خمر فتنتها الآسرة حتى اقتنعت أن أحداً من الرجال لن يستطيع مقاومة إغرائها.. راحت تشطح بها الأحلام، أرسلتها إلى سماوات عليا من الرغبات والمطامح والنزوات.. ستتزوج أعظم الرجال: وسامة، وثروة، ومركزاً اجتماعياً.. يكفي أن تشير بيدها إلى الرجل الذي تختاره حتى ينحني بين يديها ملبياً.. - 2 – ولكن مشكلتها أن غرورها راح يمدّ لها دائماً في حبال الوهم، فكلما تقدّم إليها رجل وجدته لا يرقى إلى قمة طموحها.. تقدَّم الطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة ورجل الأعمال والدبلوماسي.. وغير هؤلاء وهؤلاء.. تقدّم إليها (عرسان) لا ترفضهم امرأة، ولكنها رفضت الجميع، أوجدت في كل واحد منهم عيباً.. كانت (لكن) دائماً مفتاح الرفض: - هذا طبيب ناجح.. ولكن عيادته في حي شعبي.. - هذا مهندس عبقري.. ولكنه غير ميسور الحال.. - هذا تاجر كبير ممتليء دسماً.. ولكنه غير مثقف.. - مثقف، وغني، ومركز.. ولكن وسامته غير كافية.. صرخت فيها أمها ذات يوم: - طيّرتِ جميع الرجال.. من أنتِ؟ من تظنين نفسَك؟. أجاب غرورها المعهود: - أنا أجمل فتاة في الجامعة.. هل نسيتِ؟ صاحت أمها متبَّرمة: - مللنا من هذه الأسطوانة.. والجمال ليس كل شيء.. صاح الغرور مجادلاً: - بل كلُّ شيءٍ بالنسبة للمرأة.. ومن كانت أجمل فتاة يا أمي ألا تستحقّ رجلاً لا نظير له؟ - 3 – السنوات تمضي.. تتقدّم في العمر.. ولكن غرورها لا يتراجع أبداً.. وكلما مر يوم جديد تناقص عدد المتقدمين إلى خطبتها، وتضاءلت مواهبهم وإمكاناتهم: كادت ذات يوم تنفجر من الغيظ عندما تقدم معلم مدرسة لخطبتها. صاحت أسمعت الخاطبة التي انسحبت قبل أن تشرب فنجان قهوتها: - هذا ما كان ينقصني.. معلّم مدرسة! كيف تجرأ هذا المأفون على التقدم إلى خطبتي؟ ألا يعلم من أنا؟ ثمّ مع مرور الوقت تقدّم سائق تاكسي أجرة لخطبتها، فجن جنونها، وطردت أمه شرّ طِردة.. بعدها انقطع أثر الخاطبين.. شاع في الناس غُرورها وسوء خلقها في استقبال المتقدّمين، فلم يعد يطرق بابها أحد.. انكفأت على نفسها تجترّ أحلاماً قديمة يغذّيها غرور يأبى أن يطأطيء.. - 4 – كانت قد تخرجت منذ سنوات.. عُيَّنت في مركز محترم في إحدى الشركات الهامة. غرورها أبعد عنها الجميع، رسّخ عند زملائها أنها إمرأة للفرجة والتأمل، ولكنها ليست للمعاشرة أو المصاحبة أو الزواج.. لم يكن لها صديقة ودود تتباثث معها شجون النفس أو خلجات الفؤاد، أو هموم الحياة والعمل.. كانت تعيش وحدها.. كان الحاج (آدم) عامل الكافتيريا الكهل هو الوحيد الذي يتحمل غرورها ولهجتها المتعالية بود، ويظهر لها حفاوة نادرة يستغرب لها الجميع.. كانت تأمره وتنهاه كأنه خادم في بيت أبيها، أو كأنه يقبض منها مرتبه في آخر الشهر، ولكنه لم يكن يستاء منها أبداً... بل كان يستقبل أوامراها الفظة بود واستسلام: - أحضر القهوة.. نظَّف المكتب.. هات الملف.. معك دقيقة واحدة لتحضر لي.. هكذا بالأمر المجرّد.. أوامر قاسية لا تليق بغلام حَدَثَ فما بالك برجل تجاوز الخمسين؟.. ما شفَّعتها مرة ب (من فضلك) أو ( لو سمحت)أو (شكراً) أو ما شاكل ذلك.. قالت له مرة إحدى زميلاتها في العمل؟ هذه فتاة مغرورة.. ولا يليق يا حاج آدم أن تتحمّل هذه الإهانات وتسكت.... لو كنت في مكانك وخاطبتني بهذه اللهجة لرميت واللهِ فنجان القهوة في وجهها... ولكن الحاج آدم لم يفعل.. ولم يوغر صدره شيء عليها.. ولم يدر لمَ يحسّ بالمودة تجاهها.. ظلّ يتحمل غرورها، ويسكت على صلفها وخشونتها.. حتى داعبته يوماً موظفة خبيثة قائلة له: - واللهِ لو كنت تحبها ياعم آدم لما تحملتها هكذا.. شرق بريقه ولم يرد، وسمعت سوزان هذا الكلام من غرفتها البعيدة، فامتلأت حنقاً وغيظاً.. ونهضت متحفزة تريد أن تقصد زميلتها.. ولكنها ارتدت فجأة إلى مكتبها.. وهي تكتم غيظها، وتكز على أسنانها.. ولكنها سرحت بأفكارها.. - 5 – لم تستطيع أن تنام تلك الليلة، كانت أضغاث من الأفكار والصور والذكريات تعبر أمامها.. راجعت حساباتها حتى حطت أمام سني عمرها الثلاثين.. لم يشفع لها جمالها الخارق أن تنال الرجل الذي تريد.. بل يبدو الآن وكأن قطار الرجال قد فاتها.. ضيّعت جميع الفرص.. ظلت تنتظر مَلكَاً معصوماً يليق بها يهبط من السماء، ولكن هذا الملك لم يهبط.. ثمَّ انقطع الرجال العاديون والأقل من العاديين عن طرق بابها.. وبقيت تنتظر.. هل ستعيش وحيدة.. ماتت أمها منذ سنوات وفي قلبها حسرة بالغة.. إنها تموت ولم تفرح بها.. كان آخر ما قالته لها: - يا بنتي.. كفكفي من غرورك قبل أن تندمي.. أعمار زواج الفتيات في بلادنا لها أجل محدد.. ما يزال بعضعهم يريدك .. هاهي ذي وحيدة كشجرة في صحراء.. وأخواتها – الأقل جمالاً منها بكثير – تزوجن جميعاً زيجات أصبحت تحلم الآن بُعشرها.. - 6 – لم تستطع تلك الليلة أن تنام.. لم تدر لمَ غزا – على غير انتظار – الحاج آدم – كهل الكافتيريا في الشركة – خواطرها بشكل غير مسبوق ولا معقول.. لماذا يعاملها – وهي القاسية المتعالية عليه باستمرار – بكل هذا اللطف وهذه البشاشة وهذا الدَّفء؟ ماذا يحمله على تجاهل (غلاظتها) وتحمل خشونتها وإهاناتها؟.. دوّت في أذنيها جملة زميلتها وهي تستثيره عليها. - واللهِ لو كنتَ تحبها يا عم آدم لما تحملتها هكذا؟.. أيعقل أنه يحبها؟ هل يتجرأ هذا (الجربوع) على أن يحبّ مثلها؟.. أن يحب سوزان (أجمل فتاة في الجامعة)؟ تباً له من تعِس مغرور! لتجعلنه عبرة لمن يعتبر.. لتفعلنّ به وتفعلنّ.. فار بركان غرورها من لا شعورها.. هاجت وماجت كعادتها من عشر سنين... ولكنها ثابت فجأة إلى رشدها.. عادت إلى واقعها.. هدأ مرجل الغضب، وسكن بركان الغرور.. لماذا هي محتدة هكذا؟.. بل لماذا هي مهتمة بهذا الكهل التافه؟.. هو حر أن يفكر فيها كما يشاء.. وليحبّها إن أراد.. إنها لا تملك قلبه، وهي ليست مسؤولة عما يفكر فيه.. هل على الحب قيود.. هل له قوانين وأنظمة؟ هل هنالك حرّاس على القلوب تمنع العواطف من الولوج إليها؟.. الحاج آدم كهل جاوز الخمسين منذ سنوات، ولكنه لم يتزوج إلى الآن. سألوه كثيراً، فكان يقول: - العين بصيرة.. واليد قصيرة. ولكنْ لماذا تفكر فيه؟.. ما باله يحضر إلى خواطرها؟.. ماذا يدور في رأسك أيتها الحمقاء المتعالية؟.. خرجت إلى عملها في صباح اليوم التالي.. تأنّقت أكثر من المعتاد. لم يكف خيالها لحظة عن التفكير في الحاج آدم، واستحضار صورته بعجرها وبجرها.. كانت خواطرها مزيجاً من مشاعر شتى، ولكنّ الحاج آدم كان محورها الأول، وكلما استحضرت نقيصة من نقائصه التي كانت تعدّدها في الرجال من قبل، وترفضهم من أجلها، قالت في إثرها: - ولكنه رجل.. رجل على كلّ حال.. عندما دخل عليها، بعد وصولها إلى مكتبها، بفنجان قهوتها المعتاد نهضت لاستقباله، بشَّت في وجهه، قامت من وراء مكتبها، تعمدت أن تريه محاسنها جميعاً وكأنه يراها لأول مرة.. - كيف حالك يا آدم؟.. هكذا نادته من غير (عم) أو (حاج) وبلهجة رقيقة ناعمة لم يصدق الحاج آدم أذنيه، خيل إليه أنه في حلم.. اضطربت يده حتى كاد الفنجان يسقط منها.. ناولها فنجان القهوة وهو في حالة من الدهشة والذهول.. أخذته وهي تبتسم: - شكراً يا آدم.. ألف شكر.. قهوتك رائعة.. ازداد ذهول الحاج آدم.. خرج وهو يلتفت إليها بين الفنية والفنية في حذر وذهول.. راحت سوزان تراقبه بود حتى غيّبه الباب. [email protected]