تشع بورتسودان بالاضاءة في طرقاتها أو في بوارج البواخر الداخلة للميناء، وتضج بالحياة إن كان في رصيف الميناء أو في أسواقها وأحيائها.. أتذكر بورتسودان كثيراً، ومنذ أن كنت صغيراً وأنا اذهب مع والدي إلى زيارة عمنا سالم الشهير ب أبو درق بديم أبو حشيش، أو نحن نزور أهلنا من ناحية المكايلاب، وهم أسرة عبد الله مسعود.. وكيف كانت تدهشني حديقة البلدية المطلة على مسكنهم.. وارجع شريط الذكريات وقد كنا طلابا بمعهد الموسيقى والمسرح، ونزلنا ببيت الشباب في بداية الثمانينيات ومعنا الأخت المرحومة نعمات هارون والأخ عبد الرحمن قسم الله ودراج وابراهيم حماد وعبد الحميد حسن. ويخالني الخوف أحياناً عندما أتذكر مجذوب رمضان أحمد البشير وهو من ناحية الدامر، وقد أخذنا في رحلة بلنش صغير لوسط البحر الأحمر، وتعطلت الماكينة، وطلب منا مساعدته في شد الشراع، وكانت الرياح عاتية وموج البحر عاليا.. وبورتسودان في كل لحظة هي مدهشة، ولكن دهشتي كانت كبيرة في السنوات الأخيرة، فقد شهدت بورتسودان ثورة عمرانية كبيرة، وشهدت طرقاتها سفلتة، وأصبحت من أجمل وأنظف المدن السودانية، وذلك لجهد القائمين على الأمر.. وما لفت نظري في اليومين السابقين ونحن قادمون من سوق السقالة أو سوق السمك الذي يتم فيه شراء السمك وتحميره بأنواعه المختلفة، أن السلطات تراجع الزيت الذي يتم به التحمير وأخذ عينات منه، وهذا عين الوعي والرقي والتقدم. ولفت نظري أن الوالي محمد طاهر ايلا بنفسه يقف مع الكراكات التي تسوي الطريق عند أبو حشيش. وعلق أحد المهندسين من فريق التلفزيون وهو المهندس محمد كوكو، قائلاً: لماذا لا ينتدبون ايلا للخرطوم لمدة عام حتى تتخلص من الأوساخ والغبار والحفر وأكياس النايلون. إن بورتسودان بوابة السودان وثغره الباسم، اصبح بها رصيف موانئ غير الرصيف القديم، وأصبحت الموانئ علامات اضافية تسجل في رصيد انسان الولاية، وقد شاهدت عمال الشحن والتفريغ وهم يتبادلون التحايا بلغة أهل الشرق وتحديداً الهدندوة، وهم يقولون «دبايوا» ومعناها السلام عليكم، ويرد البعض ب «أتنينا» ومعناها مرحباً، والبني عامر يحيون بعضهم ب «إكوب» ودلالتها سلام.. وبيت الشباب الذي كان عبارة عن خمسة غرف وبرندة طويلة تحول لفندق خمس نجوم، ووجدنا الاخوة من نادي حي العرب يعسكرون ببيت الشباب، وسعدنا بصحبة لاعبي حي العرب، ومنهم بركة عباس ويحيى زكريا وعلي النور. ودلالة على أصالة ومعدن إنسان الشرق، فقد علم الأخ أحمد عبد الرحمن أدروب بأن هنالك فريقاً من التلفزيون قد حضر لبورتسودان، وجاء ليسأل عن أصدقائه عمار كورينا ومحجوب عوج الدرب ويحيى أحمد حسين، وعندما وجدهم لاحظت عليه سعادة كبيرة.. فيا هو ده السودان.. وقد عزمنا يوماً على المخبازة التي تصنع من الفطيرة والسمن والعسل والموز والطحنية، وهي دسمة جداً وخطرة على ناس السكري، وهي من الأكلات التي تتميز بها بورتسودان، إضافة ل «السلات» أو «الشية» على الحجر التي اشتهر بها سوق مدينة عرب. وكما يتغنى حيدر بورتسودان «بورتسودان يا حورية» فهي حورية في جمالها وحسنها وجمال أهلها، فهم مازالوا يصرون على صناعة القهوة بأنفسهم، فلا يشترونها جاهزة ولا يشربونها بالكبابي بل بالفناجين.. وإنسان الشرق مازال متمسكا بعاداته وتقاليده، ولم يحدث له أي استلاب ثقافي، رغم أن بورتسودان مدينة ساحلية ويحضر لها الأجانب من قديم الزمان. وما يميز المرأة في الشرق «الفوطة» وهي ثوب له كنار يشابه الساري الهندي، ويحمل مواصفات الجمال، والمادة المصنوع منها الثوب باردة، كما أن بعض النساء يلبسن الزمام. ومن قديم الزمان تميز إنسان الشرق بالسديري والعراقي والسروال، وكأنه يردد مع الشاعر الكبير سيد أحمد الحردلو «يا بلدي يا حبوب يا أب جلابية وتوب» ويحمل إنسان الشرق من أهلنا الهدندوة والبني عامر السيف والخنجر دليلا على الفراسة والرجولة. وتراث الشرق زاخر بالتميز، وتحمل الدرقة أثناء الغناء باللهجات المحلية.. وفي الشرق ضابط صحة سابق ومعتمد ورجل يحبه كل الناس، لأنه موسوعة في ثقافة الشرق وعاداته وتقاليده، وهو رجل حاضر البديهة وصاحب نكتة ويتحدث الانجليزية بطلاقة، كما يغني باللهجات المحلية.. انه «أبو عمار» سيدي قبسة. وببورتسودان من أزمان بعيدة اتحاد للفنانين، ويرأسه حالياً الفنان مصطفى فضل وسكرتيره المسرحي طارق بركة، ومن أشهر الفنانين عادل مسلم ومحمد زياد، وفي الغناء الشعبي ميرغني أبو الدفاع وباشري.. وأذكر أن فرقة الموانئ البحرية للمسرح كانت فرقة نشطة بقيادة الأخوين السر موسى وعبد الغفار حسن، وأن مسرح الشرق كان دائماً في المقدمة، وهنالك أيضاً فرقة النورس والأخ فريعة، وهنالك مسرحيون متخصصون كثر من أبناء مدينة بورتسودان، وهم محجوب محمد أحمد وشاكر قبسة وجلال بلال ود. أحمد أبو سوار.. ومن بورتسودان عبد اللطيف الرشيد والد خبير التحكيم الحاج عصام، وفي الثقافة والإعلام الأخ أويس، فبورتسودان مدينة قومية جمعت كل قبائل السودان اضافة إلى أهاليها، وبها تنوع في أحيائها المختلفة إن كان في سلبونا أو سلالاب أو في كوريا أو ديم جابر. ومن أحيائها أيضاً المدينة عرب وديم سواكن وترب هدل وأبو حشيش والثورة وديم النور وترانسيت.. فهي مدينة في حجم وطن، وبها فرق للغناء الشعبي لكل أنحاء السودان رغم تميزها بفرقة السَّماكة التي تحمل رائحة البحر أزياءً وايقاعاً.. ومع ذكر الإيقاع أحيي الأخ زميل الدراسة وعازف الكمنجة الماهر علي سيدون، كما أرسل التحايا للأخ الخير مولود العازف الحاذق الذي أعجبه البحر وإنسان الشرق، وظل يدوزن الأغنيات. كما أن بورتسودان كانت صاحبة ريادة في مجال الرياضة، وبها لاعبون يشار إليهم إفريقياً، منهم الطاهر حسيب من نادي الثغر، وعمر بيِّن من الاتحاد، وكوبري وترتار وحسن قيسوني وبشرى محمد علي من حي العرب، ومن الاتحاد عبد الله أوهاج.. ونذكر طيب الذكر المدرب القومي عبد العزيز سليمان، وكان قائداً في كرة القدم ببورتسودان. ونذكر محمد ابراهيم حميدة ويحيى شمس الدين وكباشي عيسى. وببورتسودان فريق حي العرب سوكرتا، وفي بورتسودان يهل هلال الساحل.. وتلفزيون واذاعة بورتسودان ترسل رسالتها، وينتج التلفزيون برامج من المنطقة تربوية وثقافية وتعليمية، ويعتمد على فناني المنطقة وتراث المنطقة.. ومن الفنانين إدريس الأمير ومحمد البدري.. وقد ظل الفنانون في بورتسودان يعطرون سماوات البحر الأحمر. وقد كانت هناك قيادت الإعلام جعفر بامكار والشاعرة نفيسة الشرقاوي وعوض الصائغ.. وكان مديرو التلفزيون يخططون ويكتبون البرامج، وهم أحمد حسن إبراهيم ومحجوب محمد أحمد. وفي الإذاعة هاشم ميرغني وعاصم محجوب.. وقد كانت الرسالة الإعلامية ببورتسودان لها صدى كبير لدى المشاهدين والمستمعين.. وذلك لأن بورتسودان جمال ودهشة.. وأدروب دائماً فنان يحمل الشرق والسودان في حدقات عيونه.. ومن الشخوص التي تظل عالقة بالذاكرة الضابط الرياضي شاكر شمس الدين الذي درب المريخ، والمدرب حسون وابنه أمير حسون.. ومن نادي المريخ ود للواء وعبد الله محمد عبد الله.. وحقيقة بورتسودان أصبحت ذات حسن وجمال وإنسانها كريم وأصيل. فالتحية لكل أهل بورتسودان بكل أحيائها، وقد أصبحت مدينة جاذبة، ونأمل لأهلنا في الشرق الخير.. وأن تصل مياه النيل من عطبرة للأهل بهيا وصمد وسنكات وجبيت وسواكنوبورتسودان، وأن الشمس تشرق من الشرق، والخير يأتي ويخرج من الشرق.. ودبايوا.