ام راكوبة تلك المدينة الهادئة الخاشعة السانعة في ولاية جنوب دارفور قبل تقسيم اقليم دارفور الى خمس ولايات بعد انفصال اقليم جنوب السودان عن السودان في العام 2011 . تلك المدينة العابدة التي تتسم بشمائل سمحة وكريمة قل ما تتوفر في اي مدينة من مدن السودان تالدا او طريدا وحتى في المستقبل . اذ فيها عرفت لاول مرة في حياتي التسامح الديني والعمل بالقاعدة الوطنية التي تقول ( الدين لله والوطن للجميع ) , لان بها كانت تتعايش اصحاب الاديان السماوية مثل الاسلام والمسيحية , وغيرهما من المعتقدات الافريقية دون اي مشكلة على الاطلاق . واتذكر في العام 1996 عندما جاء اول مبشر للديانة المسيحية اليها ويسمى بيتر قرنق اجيط له كل الود والتقدير, تم الرحيب به ترحيبا حارا من قبل السلطات المحلية . واعطي الاذن بفتح الكنيسة والتبشير بالكتاب المقدس بكل حرية , بل ذهبوا الى ابعد من ذلك بتبرع السكان المحليين من المسلمين الكرماء بالقش والحطب لبناء الكنيسة . كل ذلك تم على مرعى ومسمع مني انا شخصيا , مع احساس المتبرع بانه يقدم خدمة جليلة من اجل الوطن وفي سبيل رضى رب العالمين . كم انت كبيرة وعظيمة في عيني يا مدينة طفولتي ؟وكم انا فخور بك , وان اكون جزء من ثمار تسامحك الديني والاثني ؟ كم من ابناءك ظلوا وما يزالوا يتذكرونك بكل اعزاز وعظمة من ابناء اقليم جنوب السودان رغم النوى ؟. في كل لحظة يتراء لي خريطتك في عيوني , واتذكر سوقك القديم من الناحية الشمالية من المدينة جنب الرهد الصغير , وبيت العمدة الكبير عبدالمنان وزوجته النجيبة التي كانت تدرس في مدرسة البنات . ولو لا طول الغياب منك يا الام المربية والحنونة ام راكوبة لتمكنت من ذكر اسم حرم السيد العمدة عبدالمنان بالكامل , والان بت اتذكر اسمها الاول فقط ان لم تصاب الذاكرة بالنسيان ايضا , وقد كانت تسمى ب –( ست حفظة ) . كما اتذكر مدرستك الكائنة ايضا الى جوار السوق القديمة من الجانب الغربي من السوق وهي مدرسة ام راكوبة الكبير للبنين التي فيها تعلمت القراءة والكتابة , على يد اساتذة اجلاء قل ما تجود بهم اي مدينة من مدن السودان ما عدا ام راكوبة لوحدها . لن انسى في حياتي ما دام فيني روح ينبض , وحتى لو غادرت هذه الدنيا الفانية فان امتناني ساورثه الى اخلافي ما دام لي سلال . لن اسهو الدور الجليل وكريم العمل الذي قدمه لي استاذي الجهبذ مربي الاجيال حكيم الحكماء الرجل الفذ دلدوم اسماعيل صالح . كم انت عزيز لي يا استاذي الفطحل وكم اخذن في دواخلي فياض التقدير والشكر لك , حفظك الله واطال من عمرك انه السميع الجواب . اني اتذكر يا استاذي دلدوم عندما اتينا انا ووالدي دينق كير ( ثور بوك ) باحثين عنك لكي يتم تسجيلي في المدرسة ان امكن ذلك , ووجدناك جالسا في القهوة في السوق , الجزء الغربي جوار الدونكي . فقلت لك يا استاذ دلدوم ( دا ولي امري وانا دائر اخش المدرسة ) , لم تترد ولم تعنعن كعادتك بل قلت مرحب بيك يا ابني تعال في المدرسة يوم السبت , وسوف اقوم بتسجيك ان شاء الله . ذهبت انا ووالدي الى البيت منشرح البال مبسوط ومغبوط بهذا الترحيب الطيب والمعاملة الراقية التي لم اكن اتوقعها ان تكون بهذا الشكل على الاطلاق . كنت احسب الدقائق والساعات ادق الحساب حتى يحين يوم السبت لكي اذهب الى المدرسة ليتم تسجيلي واكون تلميذا من تلاميذ المدرسة حتى يكتمل حلمي المتعلق بالعلم . وفي الصباح الباكر من يوم السبت قلت لوالدتي اشول مليط بان تجهيز لي الشاي باسرع ما يمكن حتى احصل المدرسة قبل طابور الصباح , وقد فعلت ذلك حسب الطلب كعادتها غامرة اجوائي بعبق التشجيع والتحميس الذي كنت معجب به . وبعد انتهاء طابور الصباح ناداني استاذ دلدوم الى المكتب وابتدا معي اجراءت التسجيل واول سؤال لي منه كان , هل سجلت في اي مدرسة من قبل ؟ . فاجبت بلا , لم ادخل من قبل الى اي مدرسة نظامية بمعنى الكلمة خلاف الكورسات البسيطة التي تلقيتها في الكنيسة . فقال لي جيد , الان الى اي فصل تودني ان اسجلك فيها ؟ قلت الفصل الاول , فذهب واتي حاملا كتاب الفصل الثاني مطالعة وفتح لي واحد من الابواب لا اتذكر جيدا الان ما هو ذلك الباب . وقال لي اقرا هذة المطالعة , فقمت بقراءتها بشكل ممتاز جدا حتى اصيب هو ايضا بنوع من الاستغراب واندهاش والتعجب . فقال لي الان ساقوم بتسجيلك تلميذا بالفصل الثالث ابتدائي , لان مستوى قراءتك لهذه المطالعة ينم على ان مستواك اعلى من مستوى الفصل الاول الذي طلبته . فقلت له حاضر , ومن ثم قام باخذ اسمي بالكامل وولي امري واعطاني الكتب وتمنى لي كل التوفيق والسداد في مشواري التعليمي . لم اخزل استاذي الجليل دلدوم في ذلك العام والاعوام التي تلته , حيث كنت الاول في الفصل متفوقا على جميع التلاميذ حائزا على نسبة مائة في المائة في مادة الشريع الاسلامية . وغيرها من المواد , ومادة الشريعة الاسلامية هذه بالنسبة لي كانت اختيارية وليس اجبارية حيث قال لي السيد المدير القدير دلدوم اسماعيل صالح , انت مخير يا بني في دراسة والامتحان بمادة الشريعة الاسلامية , او تبحث عن من يدرسك بالتربية المسيحية والمدرسة ستتكفل بدفع مرتب شهري له . وبما ان كان من الصعب وقتئذ ان تجد من يستطيع تدريس مادة التربية المسيحية في هذه المدينة المتواضعة لبعدها عن الضعين رئاسة المحافظة او ابوكارينكا او( مكير ) حسب نطق الدينكا لها , اخترت ان ادرس بالشريعة الاسلامية . فكنت اتقدم الصفوف في مادة الشريعة الاسلامية في المدرسة , وفي ذات الوقت ابشر في الكنيسة بداء من العام 1998 وما فوق , الوثنين في لغة رجال الدين المسيحي , وكفار بالنسبة لرجال الدين الاسلامي بدعوة السيد المسيح له المجد . كل هذا يحدث دون ان اشعر بالتناقض , لان الدين الاسلامي اخذته من زاوية العلم والمعرفة بينما الدين المسيحي من ناحية الايمان به , او وسيلة من وسائل التقرب الى الله عز وجل . وفي المدرسة ايضا مازلت اتذكر بكل تقدير استاذ بشار واستاذ حمادة وعجب الذي اضح المدير بالانابة في المدرسة بعد تطبيق استاذي البار دلدوم احد اركان الاسلام الخمسة . وهو الحج لمن استطاع اليه سبيلا , اذ ساعفه الله سبحانه وتعالى في ذلك العام ليتمكن من دفع تكاليف الحج في ذلك الحين مشكورا . كما اتذكر كافة سكان ام راكوبة بكل احترام مثل بشار اسماعيل صالح له الرحمة , اكبر الراسمالين في المدينة في ذلك الوقت , والذي قيل لي بان الرزيقات قد غدروا به في هجومهم الاخير الغادر والغاشم البربري على ام راكوبة في العام 2014 . فاستشهد رافع الهام دفاعا عن العرض والارض رغم ما يملك من اموال هائلة التي كان بامكانه ان يهتم بها فقط تاركا امر الدفاع عن النساء والاطفال للمساكين . ولكنه اصطفى ان يموت , موت البواسل كما هو شيمة اهل ام راكوبة , وصدق فيه مقولة (ابن الاسد شبل ) فله منى كل الرحمه والمغفرة داعيا من الله سبحانه وتعالى ان يسكنه فسيح جناته مع الرسل والصديقين وحسن اؤلئك صديق . ودونكم السيد الشهيد اسماعيل دقل الذي حكى لي عنه امي بانه كان يقول للجنوبين في خضم الحرب التي كانت تدور في دارفور ما بين الثوار الدارفورين والجنجويد , كان يوصي الجنوبين بان لا يخافوا من الرزيقات ومن احتمالية الغدر بهم . واكد لهم بان اذا ما حاول اي رزيقي التعرض على اي جنوبي فانه مستعد ان يرحل كل الجنوبين الى بيته ( حوشه ) حتى يتمكن من الذود عنهم ضد اعتداء الرزيقات . كما لم يتمسح في خيالي حتى الان الاتراب الذين كنا نلعب معهم لعبة ( الجيدي ) مثل الصديق ادم , محمد ادم وغيرهم , جوار بيت العم ابراهيم ادم ( ابراهيم مقوانق ) حسب تلقيب الجنوبين له وهو والد كمال , ادم , تيسير وغيرهم . سامحوني يا اهلي اذا لم تتمكن الذاكرة من تذكركم جميعا , الا انكم في خاطري مقيمون وستظلوا هناك الى يوم يبعثون , ولا ريب مصير الاحياء بيتقلاقوا كما يقولون . واني عاقد العزم باني يوما ما ساعود الى ام راكوبة لكيما ازورها واعيد لها الغيض من فيض ما قدمها لي من كرم الضيافة واتفقد احوال اهلها الطيبين الشجعان . وان عدتم عدنا [email protected]