إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تعليل. ما يجري)    الأهلي مدني يدشن مشواره الافريقي بمواجهة النجم الساحلي    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السيد علي الميرغني: مقتطفات من رسالة دكتوراه عن مساهماته في التطور السياسي بالسودان (1884 – 1968م)


Dhaher Gasim Mohamed داهر جاسم محمد
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: قدم داهر جاسم محمد رسالة دكتوراه بعنوان "The contribution of Sayed Ali Al- Mirghani, leader of the Khatmiyaa, to the political evolution of the Sudan, 1884 – 1968" " (مساهمة السيد علي الميرغني، زعيم الختمية، في التطور السياسي بالسودان بين عامي 1884 – 1968م) لجامعة أكستر البريطانية عام 1988م. والمقال التالي هو الجزء الأول من ترجمة لبعض ما جاء في فصل الرسالة الأولى عن تاريخ حياة السيد علي الميرغني الباكرة. وتجدر الإشارة إلى أن المؤلف كان قد زار السودان وقابل ولدي ذلك الرجل محمد عثمان وأحمد علي الميرغني، بالإضافة لعدد من مؤرخي السودان ومثقفيه مثل الأساتذة محمد إبراهيم أبو سليم ومحمد عمر بشير وحسن أحمد إبراهيم وأ. الكرسني.
المترجم
أسس السيد محمد عثمان الختم (1793 – 1853م) الطريقة الختمية، والتي غدت واحدة من أهم الطرق الصوفية بالسودان. وكان الرجل قد دخل البلاد للمرة الأولى عام 1817م في حملة دعوية قام بها بالإنابة عن أحمد بن إدريس الفاسي، أحد كبار المجددين للدين من فقهاء الحجاز، والذي كان يقيم معه لبعض الوقت في صعيد مصر. وجمع محمد عثمان الختم حوله في جولته الدعوية تلك عددا كبيرا من الأتباع ، كانوا هم أساس طريقته في السودان. وبعد وفاة أحمد بن إدريس وطد محمد عثمان الختم من طريقته الختمية بالبلاد.
وفي غضون سنوات حياته كان ابن محمد عثمان الختم (محمد الحسن 1819 – 1869م)، السوداني الأم، هو ممثله في البلاد. غير أنه لم يمانع في تولي شقيقه الأكبر محمد سر الختم (1815 – 1863م) قيادة الطائفة من أبيه في عام 1853م. ورغم ذلك ظل محمد الحسن محمد عثمان الختم فعالا في جمع المريدين من حوله بأرتيريا ومصر والجزيرة العربية. ولم تكن طائفة الختمية في تلك الأعوام تواجه أي تهديد حقيقي. غير أنه عند تولي محمد عثمان (II / الأقرب) قيادة الطائفة الختمية بدأ في مواجهة أوقاتا عصيبة من النفي ونقص في الأموال والنفوذ.
وفي السطور التالية نرصد بعضا من تاريخ حياة علي الميرغني سليل محمد عثمان (II) وزعيم طائفة الختمية في السودان في أثناء فترة الاستعمار وما بعده.
ولد علي الميرغني بن محمد عثمان (II) في جزيرة مساوي (والواقعة بين "حنك" و"كورتي") في مديرية دنقلا بشمال السودان لأم انقرابية اسمها آمنة بنت النور. ولا يوجد اتفاق حول السنة التي ولد فيها علي الميرغني، رغم أن المنطقة التي ولد فيها كانت قد عرفت تسجيلات المواليد في ذلك الزمان. وربما يكون مرد ذلك، بحسب تخريج صحافي في جريدة المصور عام 1968م، هو أنه "سليل عائلة "مقدسة" ولا يسرى عليه ما يسري على مواليد عامة الناس". وقدر بعض الناس أن علي الميرغني مولود في عام 1879م، بينما ذكرت بعض المصادر المصرية أنه مولود في 1870م. وورد في وثائق العائلة الخاصة أنه مولود في 1880م. وهنا يبرز سؤال عن سبب تلك الاختلافات الكثيرة والغموض المحير في سيرة الرجل، والذي بدأ منذ لحظة ميلاده.
ومن وجهة النظر السودانية، فإنه لم يكن ممكنا أن يكون علي الميرغني قد ولد قبل عام 1879م، وإلا لما تسنى له الالتحاق بوالده في رحلته من كسلا إلى سواكن في أثناء الحرب ضد المهدية. ويزعم أعداء الرجل أنه أتى للسودان مع الجيش الغازي وهو يحمل رتبة عسكرية. ولو كان هذا صحيحا (وليس من دليل قوي على ذلك) فلابد أنه ولد قبل عام 1879. وربما زعمت عائلة الميرغني أن علي الميرغني قد ولد في 1880 تفاديا لانتقادات الوطنيين الذين كانوا يكررون الزعم باشتراك علي الميرغني في حملة الجيش البريطاني / المصري الغازية للسودان. وهنالك دليل على أن علي الميرغني قد أدى فريضة الحج في 1887م. ولا بد أنه كان بالغا حينها (أي أنه كان يبلغ من العمر أربعة عشر عاما على الأقل). لذا يصعب القبول بما زعمته عائلة الميرغني من أنه ولد في 1880م. ونخلص هنا أن علي الميرغني قد ولد قبل عام 1879م.
السيد علي الميرغني وعهد المهدية:
عاش السيد علي جزءً من طفولته في مديرية دنقلا حيث ولد، ثم قضى بعد ذلك فترة من الوقت في بيت والده في حلة خوجلي بالخرطوم بحري، حيث تلقى تربية تقليدية محافظة.
وعندما أعلن محمد أحمد عن دعوته المهدية وبدأ في السعي للحصول على عون من عائلة الميرغني كان السيد علي الميرغني في رفقه والده في كسلا. وبهذا يكون السيد علي – في صباه الباكر - معاصرا للمهدي ودعوته، بينما قام والده وشيخ الطريقة الختمية بمعارضتها أشد المعارضة.
وكان تجديد الدين والعودة به لسابق عهده الأول هو من أهم ما دعا به محمد أحمد المهدي. وللوصول لتلك الغاية أمر المهدي في بداية عام 1884م (1301ه) بحظر كل الطرق الصوفية، والتي كان المهدي يؤمن بأنها مسئولة عن تفرق المسلمين وركود ريحهم. وتباينت آراء واستجابة قادة رجال الطرق الصوفية لمطلب المهدي. فمنهم من آمن بمحمد أحمد مهديا وأنضم لركبه مثل شيخ الطريقة المجدوبية (الشاذلية)، ومنهم من عارضه وأبى الانضمام إليه. ورغم تلك المعارضة، فقد ظل المهدي يداوم على الكتابة لكل شيخ طريقة في البلاد ويدعوه للانضمام إليه، تماما كما كان يفعل سرا منذ بدء الدعوة في أبريل من عام 1881م إلى أن جهر بدعوته. وكان يؤمن بأنه من المهم جدا أن يقنع رجال الطرق الصوفية بصدق دعواه، إذ كان يرى فيهم أنصاره الحقيقيين، ويرى أن مستقبل دعوته يعتمد على تأييد قادة الطرق الصوفية والذين كان يؤمل أن يحضوا أتباعهم على الجهاد في صفوفه. فإن أتبعه رجال الطرق الصوفية فسيشير ذلك إلى أن دعوته هي بحق دعوة صادقة. أما من عارض دعوته من قادة ورجال الصوفية فكانوا يرون أن شروط "ظهور المهدي المنتظر" لا تنطبق على محمد أحمد، وكانت لدي بعضهم أسبابا أخرى لرفض دعوة مهدي السودان. وكان من كبار من عارضوا تلك الدعوة شيخ الطريقة السنوسية، ومحمد عثمان شيخ الطريقة الختمية في شمال وشرق السودان، خاصة في سنكات وسواكن وكسلا. وبالنظر إلى التركيبة السكانية للمجتمع السوداني آنذاك، فقد كان محمد أحمد المهدي محقا في الانتباه لأهمية قادة الطرق الصوفية وزعماء القبائل، وضرورة السعي لنيل تأييدهم. وفي نهاية المطاف أحرز المهدي نجاحا في غالب أهدافه المرجوة.
وكان كل رجل سوداني، كما ذكر المؤرخ البريطاني هولت، عضوا في ثلاثة مجتمعات: قبيلته، وطريقته (الصوفية) والسودان المصري. غير أن الحركة المهدية أفلحت في التحرر من الإدارة المصرية في السودان، وثبطت من نشاط الطرق الصوفية، وأضعفت كثيرا من سلطات القبيلة التقليدية.
وظل المهدي على اتصال مع السيد محمد عثمان وابن عمه سيد بكري بن جعفر الميرغني. ويثبت خطاب أرسله المهدي لبكري الميرغني في نوفمبر 1883م (1301ه) أنه كان قد بعث من قبل بعدد من الخطابات لبكري ولمحمد عثمان أيضا، وحدث ذلك حتى بعد أن زحف جنوده نحو مركز الختمية. وكان المهدي قد كتب أيضا لغيرهم من زعماء الطرق الصوفية في بداية دعوته حين سمى خلفائه. ودعا المهدي في إحدى رسائله محمد عثمان ليقبل بأن يكون أحد خلفائه (مقابلا للخليفة عثمان بن عفان) غير أن محمد عثمان رفض ذلك العرض. وعلى الرغم من ذلك واصل المهدي في الكتابة إلى محمد عثمان (II). ففي خطاب بتاريخ ديسمبر 1883م (14 صفر 1301ه) ذكَّرَ المهدي الزعيم الختمي بأنه كان قد كتب له من قبل عددا من الخطابات ولم يتلق عليها ردا. وذكَّرَه أيضا بأن والده كان قد حدث الناس عن "المهدي المنتظر"، وخيره بين الهجرة أو الانضمام للجهاد مع قائده في شرق السودان عثمان دقنة، والذي كان يسميه "أمير الأمراء".
ومهما يكن من ردة فعل عند محمد عثمان (II) ، فقد واصل المهدي في الكتابة له لعلمه بمدى نفوذه في الشرق، فكتب إليه مجددا في أغسطس من عام 1884م (شوال 1301ه) رسالة كانت مختلفة عن الخطابات التي كان قد أرسلها له من قبل. ولكنه كالعادة استخدم الأسلوب الصوفي التقليدي في بداية الخطاب، غير أنه استخدم أسلوبا حاسما ومتشددا ألمح فيه إلى أن محمد عثمان (برفضه للدعوة المهدية) إنما يثبت أنه يخشى من فقدان نفوذه وممتلكاته فحَسْب، ولا تهمه المبادئ الإسلامية في قليل أو كثير.
ولا ريب أن المهدي كان يؤمن بأهمية محمد عثمان (II) ، ذلك لأنه ظل يكاتبه على الرغم من هجوم جيشه على قرية الختمية. وكتب المهدي خطابه الأخير للرجل قبيل سقوط تلك القرية في يد الجيش المهدوي. وكتب المهدي يقول له بأنه رغم هروبه، فإنه يدرك بأنه سيلتحق به يوما ما. وعقب استلام محمد عثمان (II) لأحد خطابات المهدي قام بجمع زعماء القبائل في إحدى ضواحي كسلا (عند جبل تكرف) وحذرهم من الالتفات لدعوة المهدي، وشدد على أن حركة المهدية من أكبر الفتن التي حاقت بالبلاد. ويبدو أن زعماء الختمية كانوا في بداية الثورة المهدية يكتفون بالمواعظ الأخلاقية لأتباعهم وتحذيرهم من مغبة الوقوع في شرك "فتنة" المهدي.
وهنا يبرز سؤال مهم عن سبب إصرار المهدي على الحصول على تأييد محمد عثمان (II) ، رغم أنه كان بمقدوره أن يضعه في خانة الأعداء منذ الوهلة الأولى، وعدم قنوطه من الحصول على تأييده حتى بعد أن دخل معه في صراع حربي. ولعل أسباب ذلك الإصرار هو رغبة المهدي في الحصول على تأييد رجال الطرق الصوفية كحلفاء طبيعيين له، والسعي للحصول على تأييد زعماء شرق السودان الدينيين وذلك أملا في منع أي عون يمكن أن يأتي للحكم التركي – المصري عبر البحر الأحمر، خاصة وأن زعيم الختمية كان له علاقة ود خاصة بالمصريين.
وعبر كل تاريخ الختمية، لم تدخل تلك الطائفة الدينية في صراع عسكري مع أي جهة سوى مع المهدي.
وعند حصار القوات المهدية لكسلا من نوفمبر 1883 إلى 1885م بقي محمد عثمان مع جماهير الختمية المحاربة من قبائل الشكرية وبني عامر والحمران والحلنقة (وبلغ عددهم جميعا نحو 8000 مقاتل). وعند اشتداد الحصار على المدينة فر منها محمد عثمان مصطحبا معه ابنه علي الميرغني، وأتجه لسواكن عبر مصوع في يونيو 1884م (رمضان 1301ه)، وذلك بسبب تأخر وصول المدد العسكري الحكومي الموعود، ولخشيته من أن تسقط المدينة ويقبض عليه ويذل أمام مريديه وأتباعه.
وبقي السيد بكري بن جعفر الميرغني في قرية الختمية المحاصرة إلى أن أصيب بجرح في أحد المعارك، فنقله أتباعه إلى مكة عبر مصوع وسواكن، حيث توفي في 1886م. ويرى المؤرخ الأمريكي فول أنه كان بإمكان أتباع الميرغني إيقاف المد المهدوي في شرق السودان إن كانوا قد تلقوا عونا فعالا من الخارج، إذ لم يكن لديهم ما يكفي من السلاح والعتاد لصد هجوم الجيش المهدوي.
وسقطت كسلا على يد عثمان دقنة في مايو 1885م، وكان أول ما بدأ به في المدينة هو هدم مسجدها وقبة السيد الحسن (والتي لا تزال مهدمة لم تصلح حتى الآن).
ورغم سقوط كسلا، فقد واصل أفراد الطائفة الختمية في مقاومة المهدية من سواكن. وغادر محمد عثمان (II) سواكن بسبب المرض وأتجه للقاهرة في يناير 1886م، حيث توفي بعد أيام قليلة. وتولى عثمان تاج السر زعامة الختمية في سواكن حتى سقوط المهدية.
السيد علي في سواكن
توفي محمد أحمد المهدي يوم 22/6/1885م، وخلفه في قيادة المهدية عبد الله التعايشي. وفي عهده تغيرت سياسات الدولة تجاه القبائل، إذ كان الخليفة قد جلب لأمدرمان أعدادا كبيرة من أفراد قبيلته البقارة (خاصة التعايشة) وقربهم إليه فأثار بذلك ضده قبائل الجعليين والدناقلة والشكرية، مما هدد وحدة الدولة. وبحسب آراء كثير من المؤرخين، فقد عجلت مجاعة عامي 1888م و1889م بسقوط دولة الخليفة.
وكان السيد علي قد صاحب والده محمد عثمان في الفرار من كسلا المحاصرة إلى سواكن. وهنالك ترك محمد عثمان ولده في سواكن وسافر لمصر لتلقي العلاج. وبقي ابنه الأكبر أحمد وبنته نور في حلة خوجلي بالخرطوم بحري إلى أن قرر الخليفة عبد الله نقلهما إلى "بيت المال" بأمدرمان مع ابن عمهما جعفر ميرغني والحسن الميرغني (أبناء السيد البكري).
وبقي السيد علي في سواكن تحت رعاية عمه عثمان تاج السر، والذي أشرف على تلقيه تعليما دينيا في "خلوة الأنوار" حيث حفظ القرآن. وكان من شيوخه في تلك الخلوة شيخ محمد شنقير وشيخ أبو علي الخلف(؟). وهنالك أقوال ليس لها من سند تفيد بأن السيد علي قد درس أيضا بمدرسة سواكن الأولية. ولكن تبقى حقيقة أن السيد علي تلقى تعليما معقولا في سنواته التي قضاها في سواكن.
بالإضافة للمزايا التي حازها من تعليمه، فقد كان السيد علي سليل أسرة دينية تدعي الانتساب للنبي. وهذا ما أكسبه احتراما كبيرا في أوساط أتباعه منذ سنوات عمره الباكرة. وورث الرجل عددا كبيرا من المخطوطات والكتب الدينية خطها أفراد من عائلته. ولا تزال بعض تلك الكتب والمخطوطات محفوظة حتى الآن. ونشأ السيد علي في سواكن، وهي ميناء تجاري، وتتميز بجو وشعور عام كان له تأثير مهم على الرجل في مقبل أيامه. فسواكن ظلت في قبضة المصريين في سنوات المهدية، وكانت مركزا تجاريا مهما، ومقرا دينيا لكثير من الفقهاء والعلماء. وظل السيد علي يحمل لسواكن ودا خاصا. وعندما قررت الحكومة في عام 1954م إعادة بناء المدينة، عين السيد علي رئيسا فخريا للجنة الموكلة بإعادة البناء.
السيد علي في مصر
أثبتت المراسلات المتبادلة بين السيد علي والحكومة المصرية أن هنالك ودا كبيرا بين الطرفين. ففي عام 1887م أرسل السيد علي الميرغني من سواكن رسالة إلى السردار التمس فيها منه الإعانة على أداء فريضة الحج، ولمقابله أهله في مكة، وللتأكد من أوضاع ممتلكاته في مدينة الطائف. وسأل السيد علي الميرغني السردار منحة مالية تكفي لرحلته هو ومن معه من المرافقين (وكان عددهم يبلغ خمسة عشر رجلا). وأجابه السردار إلى ما سأل فتم له ما أراد وسافر إلي مكة في ذات العام. وأثبتت رسائل أخرى بعث بها للحكومة المصرية مدى تعاطفه معها، خاصة في وقفتها ضد الحركة المهدية، والتي كان يصفها (مثل فعل والده) بأنها "فتنة". وبذا يكون السيد علي قد وطد علاقاته مع الحكومة المصرية (وهو في سواكن) وقبل أن ينتقل للعيش فيها في عام 1894م. وجاء في رسالة أخرى كان قد بعث بها لنائب حاكم البحر الأحمر يطلب منه فيها المساعدة المالية للقيام برحلته إلى مصر، أنه حزين على مغادرة سواكن ولكنه يثق – بحول الله- من العودة لها يوما ما. وحط السيد علي رحاله في مصر حيث بقي مع عمه السيد محمد سر الختم، وشعر فيها بالأمان والاستقرار وهو مع عائلته وبين أتباعه من الختمية.
واستأنف السيد علي دراسته للفقه والشريعة تحت إشراف عمه، والذي عرف بسعة العلم الديني. وتلقى أيضا دروسا خاصة على يد شيوخ من الأزهر. وأشار إلى ذلك الحاكم العام للسودان في عام 1916م حين ذكر للسيد علي أنه "... كان قد تلقى تعليما خاصا اختير بعناية، وتحت إشراف أساتذة أكفاء".
ولعل تتابع الأحداث في الحرب (الدفاعية) ضد المهدية في شرق السودان كانت هي السبب الرئيس لمغادرة السيد علي لسواكن وانتقاله لمصر ك "لاجئ فار من الدراويش" كما جاء في وثيقة حكومية. غير أنه ربما تكون هنالك أسبابا مساعدة أخرى للجوئه لمصر. فقد كانت الحكومة المصرية شديدة الرغبة في إظهار اهتمامها بالسيد علي الميرغني كزعيم طائفة دينية مؤثرة. وربما تكون الحكومة المصرية هي من دعته للجوء إليها حتى تستخدمه مستقبلا حين تحين لها فرصة "استعادة" السودان مرة أخرى. ولعل التزامن بين انتقال السيد علي لمصر واحتلال القوات الإيطالية لكسلا في عام 1894م يشير إلى أن الحكومة المصرية لم تكن تريد للسيد علي أن يقع تحت النفوذ الإيطالي. غير أنه قد يصح القول أيضا بأن السيد علي قد انتقل للعيش في مصر لمواصلة تعليمه الديني تحت إشراف أساتذة من الأزهر، والذي كان – ولا يزال- هو مركز الدراسات الإسلامية في العالم.
ومهما يكن من أمر نوازع لجوء السيد علي لمصر، فيجب القول بأن الشأن السوداني ظل محل اهتمام الرجل. فقد ظل السيد علي يتحرى الأنباء القادمة من السودان، ويتلقى، وبصورة منتظمة، أخبار البلاد من السودانيين الذي نجحوا في الوصول إلى مصر فرارا من الحكم المهدوي، والذي كانوا في كثير من الحالات يحلون ضيوفا على عائلة الميرغني وليس على الحكومة المصرية. وبحكم وضعه كزعيم للختمية فقد تولى السيد علي الميرغني قيادة المعارضة للمهدية ، وكان معه في تلك "الجبهة المعارضة" عدد من الضباط السودانيين والتجار الذين كانوا يشتغلون في التجارة بين السودان ومصر.
وبالقطع لم يكن السيد علي مجهول الهوية ولا المكانة عند الإدارة المصرية وعند المسئولين البريطانيين كذلك. فقد كان جليا أن السيد علي كان قد بدأ معارضته للمهدية وهو في سواكن. فعلي سبيل المثال حفظت وثائق المخابرات الحكومية ما يثبت لعب السيد علي لدور بارز في سعي القائد المهدوي محمد عثمان أبو قرجة القيام بعقد اتفاق سلام مع مصر في عام 1889م، وتبادله معه لعدد من الرسائل في ذلك الشأن. ووطد السيد علاقاته مع المصريين في غضون سنواته في بلادهم، وكذلك مع السير ريجيلاند ونجت باشا واللورد كتشنر وعدد آخر من كبار الشخصيات البريطانية في مصر.
وعرف السيد علي بالدهاء الشديد. ولم يكن متوقعا منه إلا أن يوطد من علاقاته مع المصريين والبريطانيين حتى يتسنى له إعادة بناء مجد عائلته عندما يعود للسودان. وكان واضحا من لهجة خطاباته مع المسئولين الحكوميين أنه كان علي علاقة ودية معهم حتى قبل لجوئه لمصر، وأنه كان شديد الرغبة في تحقيق طموحاته السياسية.
ويمكن تفسير العلاقة الخاصة التي كانت تربط بين السيد علي والسير ريجيلاند وينج بالوضع الخاص الذي كان يحتله كل واحد منهما. فقد كان ونجت في ذلك الوقت هو رئيس قسم المخابرات في الجيش المصري، وكان مسئولا بصفة خاصة عن علاقة ذلك القسم بالسيد علي (وبلغة اليوم يمكن القول بأنه كان "ممسكا بملف" السيد علي في المخابرات المصرية. المترجم)، وكان يستخدم أتباع السيد علي كمخبرين لمعرفة ما كان يدور في السودان. وقال كي. دي. هيندرسون للمؤلف في مقابلة شخصية معه عام 1983م في ساليسبوري بإنجلترا ما نصه: "كان مخبرونا في السودان من الكبابيش وغيرهم، والذين كانوا يأتون بالأخبار لويجنت بصورة شهرية كلهم من الختمية ...".
ويمكن أن تضاف لتلك المعلومات التي كان وينجت يتلقاها مباشرة من أفواه السودانيين الناقمين على المهدية، المعلومات التي كانت عائلة الميرغني تتلقاها من ضيوفهم من اللاجئين السودانيين في مصر.
لا ينتقد الفكر/ الرأي العلماني ولا يلوم السيد علي لتوطيده للعلاقات بينه وبين الإدارة الحكومية ، والتي لم تكن علاقة شخصية، بل علاقة سياسية بحتة. ولا غرو، فقد كان الجو العام والمناخ السائد في سنوات المهدية تلك دقيقا وحرجا وعسيرا على عائلة الميرغني. ويمكن قياس مدى نجاحه في سياسته تلك بالوضع المميز والمكانة البارزة التي حصل عليها مستقبلا في الحكومة السودانية، على الأقل حتى نهاية الحرب العالمية الأولى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.