كاتب هذه السطور أحد الذين حملوا أطفالهم على كتوفهم في التسعينات الماضية ، وخرجوا بهم من السودان قاصدين أي بلاد غيره هربا من بطش داعش الترابي وقت "شرايتها"- كما يقول زراع العيوش- أي في ذروة طغيانها . وفتحت دول الإنسانية أبوابها لنا بكامل حقوق أهلها (طبعا عدا حق الترشح لرئاسة الدولة!) ، فترعرع أطفالنا في المهجر في مناخ من الكفاية والحرية والسلام ، ومن الإعزاز والإكرام من المجتمع والدولة (أسوة بأطفال دولة المهجر) رفع قدرهم في أنفسهم وأسعدنا نحن حد البخترة ، حتى كاد الواحد منا يصيبه الغرور، نشوة بالعز الذي غمر أطفالنا ... فحقوق الأطفال في بلد الكفار هذه تفوق حقوق البالغين فيها كثيرا . وقد ملأنا ذلك التمييز الإيجابي بالرضا والإعجاب، (رغم شقائنا في البدء نحن الآباء ، الذين كان علينا أن نبدأ من القاع في سلم كسب العيش الطويل) ، وقوانا بالأمل والطمأنينة لأن هجرتنا في الأساس ما كانت إلا من أجل أطفالنا ... ورأيت أن هذه زاوية تصلح مدخلا لتأملات بشأن إنتخابات البشير المزمعة ... بأن أعرض بعض جوانب حقوق الأطفال في أمريكا مقارنة بما هو واقعهم في سودان الإنقاذ ، تذكرة لأهلنا في السودان بان هناك حياة كريمة تليق بأطفالهم ويستحقونها ... ولا يقف دونها إلا هذا النظام الخبيث الكارثة . ومنها: 1. حق الترحيل مجانا من أمام بيت الطفل إلى المدرسة وبالعكس في بصات فيها من أسباب الأمان أكثر من كل غيرها من مركبات الطريق .. وعند وقوفها لإنزالهم أو صعودهم ، تتوقف لها كل المركبات الأخرى في كلا الإتجاهين ؛ إذ يجب ، بالقانون ، أن تقف جميع المركبات حتى يقفل بص المدرسة أبوابه ويطفي اشاراته الحمراء إيذانا لغيره بالمرور . وإن تزمر مستعجل وتجاهل وقوف بص المدرسة على طرف الشارع ، ولم يوقف سيارته مراعاة له ، صفعه القانون بغرامة تجعله لا يكررها مرة ثانية . وإن فعل يتصاعد العقاب . وكان ذلك أول إنبهارنا بما يمكن أن تحققه الإنسانية من تقديم لصغارها وتكريمهم ، بدل تأخيرهم وزجرهم وجلدهم ، وطردهم من المدرسة لعدم دفع الرسوم (وهم معدمون) ، كما يفعل الدواعش الأصليون في أطفال السودان ... وفوق ذلك يمكن لأي بالغ أن يأمرهم بالوقوف ليجلس بالغ آخر مكانهم في البصات وغيرها ، وحتى في بيوتهم ، دون أدني مراعاة لإحتياجاتهم وقتها . 2. حق تناول الفطور والغداء بالمدرسة مجانا لكل من يستحق (بمقياس الدخل) وفي كل أيام الدراسة على مدار العام . والطعام من أجود طعام أهل البلد الصحي ، والمشروب عصير فاكهة أو حليب . ولا تقدم لهم مشروبات غير صحية رخيصة ، أو غازية من عائلة ال "كولا" وشبيهاتها .. ولا يقدم لهم سقط الطعام المشحوم مثل ما يقدم في محلات "ماكدونلد" و "كي اف سي" و"بتزا هط" وأمثالها ، والذي يتفاخر البشير ورهطه بإدخاله للسودانيين وتعريفهم به ! وأذكر بألم وأسى أننا ، في كثيرمن الأحوال في السودان ، نطعم أطفالنا من فتات الكبار الذين تغرف لهم النساء (وهن مقهورات بالميلاد ) مطائب الأكل حتى يشبعوا ... ومن بعد شبع الرجال (خاصة الضيوف) يحصل الأطفال على ما تبقى من أكلهم في الصواني الراجعة من الديوان... وتعقبهم أمهاتهم على مراجعة ماعلق بالحلل ! فيا لأنانية الرجل السوداني وجهله وقسوته التي لا تعفي أو تستثنى حتى صغاره هو شخصيا . وعجبي كيف لنا أن نتفاخر وكثيرا بعلونا فوق الأمم وأطفالنا ونساؤنا يطعمون بعد أن يشبع الرجال! ... ولكن الكارثه الأكبر حلت عندما جاءت الإنقاذ وليلها الطويل الدامس فحرمت أطفالنا حتى من فتات صواني الرجال ؛ فلم يعد للأسر الفقيرة الآن صينية ترجع من الديوان بفتاتها... ولم يعد لها حلل بها عالق طبيخ! ولكن : ألم يقل البشير مؤخرا أنه سوف يدخل الناس الجنة ! فخواء البطون يوصلهم الجنة أسرع من الشبع ! 3. حق الحصول على جميع الكتب المقررة في الصف الذي يدرس فيه التلميذ مجانا بالكامل... ولا يشترك تلميذان في كتاب واحد قط... وتجدد إدارة التعليم طبعات الكتب كل بضع سنوات . أما دولة البشير فتشتري أسلحة من الصين وإيران وروسيا وغيرها ، بملايين الدولارات رغم فقرنا ، لتقتل بها المعارضين ... وفي نفس الوقت تفرض على أطفال السودان شراء الكتب وغيرها من لوازم المدرسة وهم شبه حفاة وجوعى لا يملكون قيمة وجبة الفول الحافي . 4. حق السكن (والمدفى في الشتاء) وحق ألا يجوع الطفل في مكان سكنه ... ففي بلاد الكفار هذه يمكن أن يتشرد البالغون ، وبأعداد كبيرة دون أن يتحرك ضمير الأمة بكامله ، لكن الأطفال لا يتشردون هنا ... فإن أهملت مدينة في متابعاتها وتشرد طفل فيها ، فقد يفقد عمدة البلدة وظيفته في نفس اليوم وباستقالته من ذات نفسه (وليس بإقالته) قبل إستقالة المسؤول المباشر . لكننا في بلاد الحكام الإسلاميين ، لا يتشرد عندنا إلا الأطفال !! ولا يحرك تشرد الآلاف منهم ضمير مسؤول واحد في كل الدولة فيستقيل. ففي بلاد الحكام الكفرة ، يمنح كل طفل ، يكون دخل أسرته دون الفاصل المحدد للفقر ، مبلغا شهريا لضمان السكن (المدفى شتاءا) ولتوفير أكل كاف للطفل في البيت . وأخال ، من متابعتي لأحاسيس القوم تجاه الأطفال ، وخاصة الصغار جدا منهم ، أن أمريكا يمكن أن تدخل حربا شاملة بكامل تبعاتها إن اعتدت دولة على طفل أمريكي صغير واحد ... ولكنها لا تدخلها إن قتلت تلك الدولة ألف أمريكي بالغ . هذا إحساسي ولا دليل لي عليه . وتجدنا هنا ، نحن المقيمين بينهم ، مثلهم في رهافة الإحساس تجاه الطفل .... ولا أدري هل هي من معايشة القوم أم كان هذا الإحساس فينا منذ الأزل ! ... لكنني لم أنام الليلة التي أعقبت قراءتي خبر اغتصاب طفل في السابعة ودفنه في أمبدة ، ولا ليلة خبر ذبح طفل في السادسة في الدويم ... ولا ليلة خبر مرام وغيرها من فلذات أكبادنا الذين أهينت إنسانيتهم وازهقت أرواحهم وهم بعد ما برحوا كونهم صفحات بيضاء بريئة ... وأتساءل بحرقة : هل لم ينم البشير تلك الليالي مثلي؟ ولكن : كيف لا ينام وهو قاتل عشرات الأطفال في هبة سبتمبر بالرصاص ويتباهى بالإنتصار عليهم! 5. حق التعليم حتى نهاية المرحلة الثانوية مجانا بالكامل... وهو حق على الدولة لكل طفل ، وواجب الطفل وآهله تجاه الوطن أن يأخذ الطفل هذا الحق كاملا غير منقوص ... فإن لم يفعل ، يسآءل الوالدان والطفل معا بما قد يصل إلى سجن الأب. وعلى اساس هذا الحق والواجب، يؤسس المواطن المرتجى في بلاده . إذن ، استطاعت الدول الكافرة أن يكون كل مواطن فيها متعلما ، متدفيا ، وشبعانا ، ومكرما حد التبجيل حتى نهاية الثانوية ... (إلا من تمرد ورفض ... وأولئك هم فئة ضئيلة شذت ). وأضيف : محرم هنا في أمريكا أن يلمس الأستاذ تلميذا ولو بطرف الأصبع ، حتى وإن كانت لمسة ودية تشجيعية ! نعم ، وإن كانت للثناء !... وإلا سيفقد الأستاذ وظيفته ، وقد يحاكم بجرم الإعتداء على قاصر. أما في سودان الإنقاذ ، فكثير من أطفالنا يمشون كل صباح ، وبطونهم خاوية ، إلى رواكيب مشلعة هي مدارسهم ، لا كنب جلوس فيها ولا أدراج ، ولا كتب ولا أقلام ، ولا راكوبة مشلعة للمعلمين، ولا حتى حفرة مرحاض... ويعودون مشيا لبيوتهم صائمين مذ غادروها في الصباح . وفوق ذلك يمكن لمدرس متخلف ، وبحصانة كاملة ، أن يعيق تلميذه إعاقة دائمة ضربا ؛ ويعفي البشير شيخا أدين وحوكم بالسجن لاغتصابه تلميذته ؛ وكل شهر يترك المدرسة آلاف الأطفال بسبب العدم وغيره لينضموا إلى ملايين التاركين دون أن يحرك ذلك ضمير ولاة الأمر. السؤال: هل يقبل الإسلاميون ، الذين يعملون بكل ما أوتوا من قوة وحِيل لإحتكار حكم السودان ، أن تصرف دولتهم على الأطفال ، بدلا عن صرفها للحفاظ على السلطة ، حتى تستطيع أن تعلو كما علت ،مثلا، أمريكا؟ إجابتي : لا ؛ لا أتوقع عقولا متحجرة تفكر بهذا المنطق المتقدم... فهم يركزون على تأسيس أنفسهم وأطفالهم وعلى اضعاف أطفال الأغلبية غيرهم حتى لا ينافسوا أبناءهم يوما في السلطة ، ويسمونه التمكين . ولكن ، ولهذا السبب بالذات، وبفعل أيديهم وعقولهم الميتة هذه ، ستسقط دولتهم هذه مهما علت قصورهم فيها وقهروا الناس بالتعذيب والقتل بالسلاح والتجويع. ستسقط لأنها تحاول القيام على رجل واحدة معوجة ، ينخرها سوس الظلم والفساد وقهر المظلومين ، ولن تستطع الوقوف أبدا ... وسوف تنهار لا محالة وإن طال الزمن . وهل تعلو أبدا دولة تقهر وتظلم غالبية شعبها ! وبعد ، فهذا ما نراه ونحسه نحن من بعد في مهاجرنا ، وفقط من زاوية حقوق الأطفال ، دعك من غيرها. فهل يمكن أن نقف ، نحن االمهاجرين وأطفالنا ، صفوفا لنصوت للبشير رئيسا للسودان ؟ وهل يمكن أن يصطف المغتربون وأهلنا في السودان ، الذين تضرروا من الإنقاذ أكثر منا ، صفوفا ليصوتوا للبشير رئيسا للسودان ؟ البشير فقط من يجيب بمكبرات الصوت: أن "إنهم سيصوتون له" ؛ والناس تجيب في صمت : "إنه يكذب !"... ومن المأثور: كلما كذب الإنسان، أهان نفسه. وسوف يظل البشير يهين نفسه بكذبه ، ويهينه الآخرون أيضا لكذبه ، كما تقول الشواهد المتتالية ، وأخيرها ، وليس آخرها ، في شرم الشيخ . من يهن ، يسهل الهوان عليه ........... ما لجرح بميت إيلام . علي محمود - الولاياتالمتحدة. [email protected]