Khartoum, Description of a Changing city. Khartoum in 1858 اليساندرو دال بوسكو Alessandro Dal Bosco مقدمة: هذه ترجمة مختصرة لبعض ما جاء في كتاب The Opening of the Nile Basin" فتح حوض النيل"، والذي هو مجموعة مقالات كتبها بعض قساوسة البعثة الكاثوليكية لوسط أفريقيا عن جغرافية واثنوجرافية السودان بين عامي 1842 و1881م. وقام بتحريرها المؤرخ والأب الإيطالي الياس توناولو والمؤرخ البريطاني ريتشارد هيل. وصدر الكتاب في الولاياتالمتحدة عن دار هاربر وراو عام 1975م. وفي هذا الجزء نعرض لمقال "الخرطوم عام 1858م"، والذي هو في الواقع رسالة بعث بها القس الشاب اليساندرو دال بوسكو من الخرطوم لرئيسه في الكنيسة دون نيكولا مازا في فيرونا. ولد اليساندرو دال بوسكو عام 1830م في بيرونيو قرب فيرونا بشمال إيطاليا (وكانت حين ولادته تتبع للإمبراطورية النمساوية). وجاء إلى السودان عام 1857م نائبا للمسئول عن إرسالية الخرطوم. ثم عاد إلى فيرونا ليعمل كأول مدير لمعهد كمبوني في فيرونا حتى وفاته في عام 1868م. المترجم ****** *********** *************** أنشأ الخديوي محمد علي باشا مدينة الخرطوم قبل ستة وثلاثين عاما عقب انتصاره على حكام جنوب مصر في المناطق الممتدة حتى فازوغلي على النيل الأزرق. ولم يكن هنالك قبل ذلك التاريخ أي أثر لمدينة في موقع الخرطوم الحالي غير بضعة أكواخ لصيادي الأسماك. وبعد غزو محمد علي للسودان بدأت بعض المباني في الظهور في ذلك الموقع، وقليلا قليلا تكونت قرية الخرطوم. وتقع الخرطوم بين النيلين الأزرق والأبيض، وتقع على ضفاف النيل الأزرق، على مسافة قريبة من مقرن النيلين حيث يتكون نهر النيل. وتقع الخرطوم جغرافيا بين خطي 45″15°N و 15″30°E.ويتساوى الليل والنهار في الخرطوم (equinoxes) مرتين في العام في مايو وأغسطس. ورغم أني أصف الخرطوم هنا بأنها مدينة صغيرة (town)، إلا أنه لا يمكن مقارنتها بأي مدينة أوربية، ولا أسميها "مدينة" إلا بسبب حجمها وليس غير ذلك. والحق أنها مدينة قبيحة بشعة تسوء الناظرين، ولو قدر لها أن تقع في أوربا لما أعارها أحد نظرة. فهي لا تزيد عن كونها زرائب وعشش وأكواخ طينية. وليس فيها من نظام أو تناسق، وتمتلئ طرقها بالحفر، والشوارع فيها ضيقة ومتعرجة ومصمتة (blind)، وينبغي أن تعبرها مرات عديدة حتى تتبين إلى أين تؤدي، وهي في الواقع بالنسبة لزائرها لأول مرة متاهات لا يعرف لها أول من آخر. وبخلاف ما هو معهود في أوربا حيث يخترق الشارع المدينة طولا وعرضا، تجد أن الشارع في الخرطوم قد ينتهي بك إلى جدار منزل أحد السكان، وما من سبيل لمواصلة السير فيه، مما يضطرك للعودة من حيث أتيت والمحاولة من طريق آخر. والبيوت في الخرطوم قميئة وخيمة ومبنية بالطين أو الطوب المجفف بأشعة الشمس، وهي ذات سقوف منخفضة مصنوعة من الطين أيضا، أو من السعف المربوط حول عوارض خشبية. وأحيانا تتساقط سقوف المنازل أو أركان الحيطان فتسد الطريق. ويحدث هذا غالبا عند هطول الأمطار بسبب ضعف بنيان تلك البيوت والسقوف. وإن حدث وهطلت الأمطار ليلا، فلا بد أن صاحب الدار التعيس سيحبس أنفاسه حذر سقوط السقف على رؤوس ساكنيها في أية لحظة، وتحويل بيته لكوم من الطين. وسيكون عليه أن يدبر لنفسه ومن يعول ملجأ آخر إن ظل الماء ينهمر من السماء إلى داخل الدار. ولا يوجد في كل المدينة مبنى مختلف عن بقية المباني غير مبنى الديوان (مقر الحكومة)، فهو يتميز عن بقية مباني الخرطوم الضيقة البائسة بكبر مساحته، وجودة تصميمه، وحسن طريقة بنائه. وقررت الإرسالية الكاثوليكية لوسط أفريقيا تشييد مبناها بالخرطوم بالحجر والمَلاَّط (المونة الحرة mortar) على طراز أوربي يكون صلبا ومهيبا ومتميزا وسط أكواخ الخرطوم وزرائبها، ويكون أيضا مصدر دهشة وإعجاب آلاف الأفارقة. ولإعطائك فكرة مختصرة عن مبنى الإرسالية أفيدك بأنه مبني على محور شرقي – غربي، وبطول قدره 314 قدما وبعرض 30 قدما، ويشمل ذلك الشرفة. وبالمبنى سبع غرف واسعة لأماكن المعيشة، وسكن داخلي (للطلاب)، ومدرسة، ومخازن. وبالإضافة لذلك فهنالك مطبخ، وغرفة طعام، وغرفتان تستخدمان كنيسة في الجناح الشرقي للمبنى الممتد شمالا. وللخرطوم موقع استراتيجي بين النيلين الأزرق والأبيض، وهي المدخل لمناطق السودان الداخلية ولساكنيها على ضفاف النيلين حتى حدود أثيوبيا وقلا (Galla). ولا يملك المرء غير أن يشيد بعبقرية من أنشأ الخرطوم، ومن تنبأ بأهمية موقعها. غير أن لموقعها هذا عيبا واحدا، لا يظهر إلا في موسم الفيضان والذي يغمر المدينة. عقب فصل الأمطار وهذا العيب هو انخفاض المدينة عن مستوى النيل الأزرق. وليس هنالك من مخرج (outlet) لتصريف مياه الفيضان، فلذا تبقى في شكل برك راكدة تجف ببطء، وتصدر منها روائح كريهة تنتج عن تحلل مختلف الأشياء التي تحملها المياه مثل الحيوانات النافقة، والأشجار المقتلعة، وقاذورات الطرق المختلطة بالطين وغير ذلك. متى يأتي اليوم الذي تدار فيه هذه المدينة بطريقة صحيحة لتغدو مدينة براقة جميلة لتناسب موقعها المميز؟ وباستثناء المنطقة التي تلاصق النيل، فإن المنظر العام للمدينة وما يحيط بها هو منظر صحراوي محض. وتحيط بالمدينة من الجانبين الجنوبي الشرقي والجنوب الغربي سهول واسعة ممتدة ليس فيها – فيما عدا موسم الأمطار- زهرة واحدة ولا ورقة شجرة وحيدة. فالمنطقة سهل شاسع بلقع ليس فيه غير الرمال والتربة القاحلة والتي لا يحركها إلا هبوب الزوابع الترابية التي تكاد تعمي الأبصار. وفي المقابل، تجد على شاطئ النيل الأزرق شريطا ضيقا من الأراضي الصالحة للزراعة، والتي تنمو فيها – وبسهولة- الخضروات والفواكه والنباتات الأخرى. ومنظر تلك المزارع والحدائق منظر بهيج يسر النظر والخاطر مقارنة ببقية المناظر الأخرى في صحراء الخرطوم. فعلى شاطئ ذلك النيل تجد، وعلى مدار العام، أشجار الليمون والقشطة (custard apples) والبرتقال والرمان وفواكه أخرى. وتقف شجرة النخيل فارعة شامخة كملكة في وسط تلك الأشجار الأخرى. ويعد مناخ الخرطوم المحلي، وعلى وجه العموم، مناخا غير صحي، ربما بسبب انخفاضها عن مستوى النيل الأزرق. ويشتد تبخر المياه في فصل الأمطار وتركد المياه في المدينة وتسبب الكثير من الأمراض. ويستمر ذلك الفصل لثلاثة أشهر، وفيه يسود بين الناس الشعور بالتعب، والأرق وقلة الشهية للطعام، والنعاس، والإحساس بثقل الرأس، وآلام في البطن، وشعور عام بالحزن والكآبة. غير أن البعض (حتى لدى الأهالي) لدية مناعة ضد ما ذكرته من أعراض مؤلمة. بيد أن تلك الأعراض تعد شيئا يسيرا إذا ما قورنت بما يتبعها عادة من أعراض أشد وطأة تشمل الحمى الحارقة والمرض الحاد والزحار (الدوسنطاريا) وغير ذلك من الأدواء التي تفضي بالمريض سريعا إلى ربه. [email protected]