الخرطوم: وصف مدينة متغيرة الخرطوم في عام 1853م Khartoum, Description of a Changing city. Khartoum in 1853 جيوفاني بيلتريم Giovanni Beltrame ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة مختصرة لبعض ما جاء في كتاب The Opening of the Nile Basin" فتح حوض النيل"، والذي هو مجموعة مقالات كتبها بعض قساوسة البعثة الكاثوليكية لوسط أفريقيا عن جغرافية واثنوجرافية السودان بين عامي 1842 و1881م. وقام بتحريرها المؤرخ والأب الإيطالي الياس توناولو والمؤرخ البريطاني ريتشارد هيل. وصدر الكتاب في الولاياتالمتحدة عن دار هاربر وراو عام 1975م. وفي هذا الجزء نعرض لمقال "الخرطوم عام 1853م" للأب جيوفاني بيلتريم (1824 – 1906م)، والذي ولد في قرية قرب فيرونا بشمال إيطاليا (وكانت حين ولادته تتبع للإمبراطورية النمساوية). وجاء إلى السودان عام 1853م وجاب في كثير من مناطقه حتى بني شنقول. ثم عاد للسودان في عام 1857م كقائد للبعثة التبشيرية التي بعث بها معهد مازا في فيرونا، وعمل مبشرا لعام كامل في أوساط الدينكا على امتداد النيل الأبيض. وظل يكتب للصحف والمجلات الأوربية، حيث اجتذبت كتاباته الكثير من القراء لجودة صناعتها وغرابة ما ورد فيها. غير أنه اشتهر أكثر بقدراته ودراساته اللغوية، فقد نشر (بالاشتراك مع جوزيف لانز) مخطوطة عن نحو لغة الدينكا في نشرة الجمعية الجغرافية الإيطالية بفلورنسا في عام 1869م بعنوان "Grammatica della lingua Denca" والنص التالي هو جزء من كتاب للقس بيلترام عن السودان بعنوان "Sennar II e lo Scaiangallah" صدر في فيرونا عام 1879م. المترجم ****** *********** *************** أعيد بناء الخرطوم في موقع مختلف قليلا عن موقعها السابق. وبنيت كل بيوتها تقريبا من طوب طيني ومن طابق واحد. غير أن هنالك قليل من المنازل مكونة من طابقين. ومن أبرز مباني الخرطوم هو قصر الحكمدار على ضفاف النيل الأزرق، وقد بني بالطوب المحروق. ويواجه الجزء الشمالي من القصر ضفة النيل الأزرق، بينما يواجه جانبه الجنوبي ميدان واسع. ويستخدم الأوربيون الحجارة المنقولة من جبال أمدرمان في بناء منازلهم، خاصة على الضفة الشمالية من النيل، على بعد كيلومترين من الخرطوم. وكانت الإرسالية الكاثوليكية هي الأولى التي ضربت المثل لبقية الأوربيين في ذلك المنحى. وقد أنشأ تلك الإرسالية القس البولندي رايلو بمعاونة مبشرين هما دكتور إقناز نوبيلشر والإيطالي أنجلو فينكو من معهد مازا. وكان أنجلو فينكو أحد أصدقائي القدامى، وهو أول أوربي يغامر بالذهاب أبعد من غوندوكورو، حيث أسلم الروح. وتم وضع حجر الأساس لتلك الإرسالية في يناير من عام 1854م، عندما كنت في الخرطوم. وفي البدء أتى البناؤون من تيسكاني في إيطاليا، ثم أتى بعدهم بناؤون من تايرول يتبعون للإرسالية، وكانوا يعملون جميعا تحت قيادة الأب جوزيف قوستنر (والذي كان دارسا للرسم، وقاد عمليات البناء من بدايتها). وأكتمل البناء في يوليو من عام 1856م. ووفر المبنى الجديد للمبشرين ظروفا أفضل للحياة، بعد كانت صحة الكثيرين منهم تسوء في موسم الأمطار. وفي ذات الوقت كان تشييد ذلك المبني درسا عمليا للأهالي في فن البناء. فقد كانوا يتوافدون يوميا لمتابعة تقدم البناء. وتعلم إلى الآن أكثر من خمسين رجلا سودانيا استخدام أدوات البناء مثل المجرفة والمَسْطَرين والمالج (ما يطين به)، وبمقدورهم الآن بناء الحوائط. تشابه الخرطوم الكثير من المدن المصرية والنوبية مثل أسيوط وقنا ودنقلا وبربر. وتمتد فيها الشوارع المستقيمة لمسافة طويلة. وبها مسجد كبير وبازار (سوق) متوسط الحجم في وسط المدينة مكون من ثلاثة أو أربعة شوارع مغطاة بسقف من القش وأغصان الأشجار. وتتلاصق في السوق متاجر صغيرة الحجم تفتح أبوابها على شوارع متربة. وتجد عادة أمام باب المتجر مسطبة / منصة طينية ارتفاعها نحو قدمين يعتليها الزبون ليواجه صاحب المتجر، والذي يبقى في داخل متجره. ولعل تلك المسطبة تصلح كي تكون مخبأ hideout صغيرا عند الحاجة! ويجلس البائع – كما هي العادة في الشرق- خلف بضاعته المكومة / المكدسة أمامه. وتوجد أيضا بضاعة أخرى خلفه مرتبة على شكل طبقات. وفي هذا السوق تجد كل ما قد تحتاج إليه في السودان. فهنالك الطرابيش الحمراء، والأقمشة، والجوارب. وفي جزء آخر من السوق تجد الأدوية والدهانات ولأعشاب الطبية. وتجد في مكان آخر الشيشة (وهي من ضمن ما دخل عربية السودان من اللغة التركية) والتبغ الخ. وفي موقع آخر تجد من يبيع المأكولات والشراب، حيث تملأ المكان روائح الطعام العطرية. ولا يقوم البائع بأي محاولة لحث المشترين على الشراء، بل لا ينظر إليهم أصلا، بل يكتفي بتحريك حبات مسبحته بأصابع يده اليمنى ببطء، والهمس ببعض الأدعية، والتثاؤب بين حين وآخر. ولا ينتبه التاجر إلا إذا أتى زبون (محتمل) ولمس أو أشار إلى بضاعة معينة. حينها قد يطلب منه البائع الجلوس، أو قد يتزحزح قليلا عن مجلسه ويفسح له ليدخل المحل لتفقد البضاعة قائلا: اتفضل. وقد يدعوه لتدخين الشيشة أو يأمر له بقهوة من مقهى مجاور. وقد يجلس الزبون لربع أو نصف ساعة دون أن يفاتحه التاجر بالسؤال عن مقصده، بل ينتظر من الزبون أن يكون هو البادئ بالسؤال. وعندما يسأله الزبون: "ما هو سعر هذا ال...؟" يجيبه البائع في إيجاز بالسعر "مثلا ريال واحد". وإذا عرض الزبون مبلغا أقل لا ينبس التاجر ببنت شفة، بل يهز رأسه دلالة على عدم الموافقة. وإذا زاد الزبون على ما عرضه أولا، يقوم التاجر بتقديم البضاعة له ويستلم ثمنها دون أن ينطق بكلمة واحدة. وهذا كل ما في الأمر. ويبدأ العمل بالسوق عند مشرق الشمس وينتهي عند غروبها. فبعد المغرب مباشرة يعود الجميع لمنازلهم. فلا أحد هنا يستخدم ضوء الشموع في بيع أو شراء. ويجب ألا أخوض هنا في صفات سكان الخرطوم وعاداتهم، إذ أن هذه المدينة تضم أنواعا مختلفة من البشر من قبائل وطبقات وأصول عرقية مختلفة قد يبلغ عددها على الأقل سبعة. وما تزال الخرطوم مدينة حديثة بحساب السنين، ولا يزال سكانها يحتفظون بعاداتهم وتقاليدهم التي أتوا بها من خارجها. ولا تزال عملية تكوين عادات وتقاليد مشتركة بين كل سكان الخرطوم بطبقاتهم المختلفة أمرا بعيد الحدوث. تتكون المجموعة الأولى من سكان الخرطوم من الأوربيين، وعددهم لا يتجاوز أربعين أو خمسين فردا. ويعمل غالبهم بالتجارة بين الخرطوم أو النيل الأبيض والقاهرة. ويظل عدد هؤلاء التجار ثابتا في غالب الحالات. وإن حدث أن سقط أحدهم مريضا أو ميتا، فسيحل محله آخر من نفس الجنسية، وعادة ما يأتي من القاهرة أو الإسكندرية. أما المجموعة الثانية فهم الأتراك، وعددهم قليل جدا، ويعملون في الغالب موظفين في خدمة الحكومة، أو من الذين نفاهم الخديوي للسودان عقابا لجرم ما اقترفوه. وتتكون المجموعة الثالثة من التجار العرب، والذين يفوق عددهم الأوربيين والأتراك معا. وأتى معظم هؤلاء من صعيد مصر، ويعملون في مجالات التجارة المختلفة بين سنار وسواكن وفازوغلي وكردفان ودارفور. أما المجموعة الرابعة فهم من الأقباط. وعددهم قليل جدا، ويعمل معظمم في شرق السودان – بصورة خاصة - في مجال السلك الكتابي. وتتكون المجموعة الخامسة من الفقهاء/ الشيوخ (رجال الدين الإسلامي) والذين يكسبون عيشهم من تعليم الصبية، وتدريبهم على كتابة التعاويذ والتمائم والطلاسم talismans (لا يخفى أن هذا مما لا يعلم في الخلاوي. المترجم) والتي تعزى إليها أعمال الخوارق والمعجزات، وربما الغش في مجال التجارة. وتعمل المدرسة من هذا النوع على أربع فترات: من الرابعة صباحا حتى مشرق الشمس، ومن الثامنة صباحا حتى التاسعة والنصف، ومن الواحدة بعد الظهر حتى الثالثة عصرا، وأخيرا من مغيب الشمس حتى الثامنة مساءً. ويدفع والد الطفل للمعلم نظير تعليم ابنه عشرة برا para(سنت) في الأسبوع. ويجب على الشيخ أيضا أن يقدم خطبة (للمصلين) في أهم عيدين في عام المسلمين. ويزعم غالبية هؤلاء الفقهاء أن بمقدورهم علاج أخطر الأمراض بكتابة بعض سطور القرآن في ورقة، يلفونها ويعطونها للمريض ليضعها حول ذراعه أو يربطها في شعر رأسه. أما المجموعة السادسة من سكان الخرطوم فتشمل العمال (الفنيين) المصريين مثل الخبازين والصباغين والإسكافية والنقاشين وغير ذلك من الحرفيين. وتضم المجموعة السابعة والأخيرة مجموعة متباينة الأصول والأعراق. فمنهم الدناقلة الجلابة (التجار المتجولين) والجنود السابقين من الزنوج. ويعمل ثلثي هؤلاء الجنود السابقين في مجال الحراسة الشخصية أو في المراكب الشراعية أو البواخر المتجهة للجنوب على النيل الأبيض للتجارة في الرقيق أو العاج. وينال الواحد من هؤلاء الجنود 45 قرشا في الشهر. ولا يقدر أفراد المجموعات الخمس الأخيرة ولا يفهمون أي معنى للكرامة الإنسانية أو احترام الذات. فإن عارضهم أحد أو أعترضهم في أمر ما، فعادة ما تكون استجابتهم ضعيفة جدا وغير فعالة. وقد يحاولون أحيانا أن ينتقموا لأنفسهم كالأغنام، غير أنهم في قرارة أنفسهم يدركون أن ذلك عمل عديم الجدوى. لذا تجدهم خلال فترات التجنيد الإجباري يبدون عزوفا شديدا عن الالتحاق بالقوات المسلحة. ويقتل منهم عدد قليل جدا. أما البقية فيؤخذون كالسوائم ودون مقاومة في المراكب النيلية الحكومية، وتتبعهم قوافل تمتد لأميال من النساء والأطفال وهم يبكون بحُزنٍ وصياح وعويلٍ (لا يخفى أن ذلك الرجل الإيطالي هو "ابن عصره"، حين لم يكن الرجل الأبيض يحاول إخفاء عنصريته وعنجهيته. المترجم). وتوجد بالخرطوم الكثير من وسائل الترفيه بالليل والنهار. ففيها محلات للغناء والرقص. ويزعم البعض أن الغناء والرقص في المدينة يسعد سكانها من كل الطبقات. ورغم ذلك فإني لا أعتقد شخصيا أن هنالك شعورا مشتركا عند سكان الخرطوم بالمواطنية citizenship. صحيح أن كل فرد فيها يحب بيته ومنطقته، غير أنه ما من أحد فيها يعترف بأن له وطنا / قطرا واحدا. [email protected]