طفت من خلال أوراقي الاثيوبية شمالها وغربها وبعض جنوبها.. وتسكعت في (زهرتها الجديدة) واسواقها التي (مافي شبيها) مثل ماركاتو وشيروميدا.. تجولت في مسارحها ومتاحفها واعتليت جبل أنتوتو المطل عليها و(جات سيرة) تاريخها.. إستحممت في شلالات ( سبتا) بالقرب منها و (إنتجعت) في سودري وكوريفيتو في دبرازيت.. الطريق الى بحر دار والى قندر)في ديار الامهرا ) والطريق الى سودري (في ديار الدبوب اي الجنوب ).. ميكالي في حزنها لفقد مبدعيها وفي فرحها يوم استقبلت أولى رحلاتها الجوية من الخرطوم.. وصلاة الجمعه في مسجد النجاشي (في ديار التيغراي )..,,سافرت برا الي جيما عاصمة الارومو عبر ولقيتي حاضرة قومية القوراجي ..غازلتني حبات الندي والشبوره وانا اقف امام شلالات (التسي سات ) المنهاله من بحيرة تانا الي مجرئ النيل الازرق (اباي ).. طفت في تلك الاوراق مسارب اللغة والفن والتشكيل والموسيقى والغناء.. ولم اتجاوز التاريخ.. أوراقي الاثيوبية هي فتحي الذي أعتز به في عالم الكتابة.. وأسأل الله ان يرى النور الجزء الاول منها قريباً.. فقد عكفت في كتابة الجزء الثاني.. وقفاً وعربوناً لصداقة بين الشعبين تتجاوز الدبلوماسية الرسمية وهاجس الاستراتيجية الذي يتوعدنا من حين لآخر . أوراق إثيوبية، أوراق مبعثرة في خيالي.. ألملم منها ما شئت واستغني عن البعض.. لم يلمني أحد عندما انحزت إلى استير عند حديثي عن الغناء وذكرت البعض لمماً.. ولم أتجاوز المحطات المهمة في خارطة الغناء فذكرت الرموز التي لا يمكن تجاوزهم.. عندما أتناول التاريخ.. لا أرتقي درجة درجة سلمه الفارع، ولكني أتقافز عليه متخطياً الكثير من الدرج.. هي أوراقي.. اكتبها خواطر ولا أوثق فيها، لأن التوثيق يخنقني. الشعوب هي التي تصنع التاريخ، تشيد الأهرام والمعابد والمسلات.. تطحنهم الحروب فيعود المجد للملوك والأباطرة وتنقش أسماؤهم على الحجر ولا ذكر لصناع التاريخ.. هذه الأمم البائدة. بعد ماكيدا وابنها ومنليك حكم الهضبة رتل من الملوك.. الذين يعج بهم الكتاب المقدس المكتوب بالجئزية KUBoR NEGEST (سجل الملوك العظماء) لم يصطحبني في ذاكراتي أي منهم.. لا أنكر من يغازلونني مثل لاليبلا، الذي حفر الكنيسة في صخرة بباطن الأرض ومعها اثنتا عشرة أخريات في جبل روحا بلاليبلا (بإيحاء من السماء).. او فاسيلدس صاحب القلعة المعنية في قندر.. محمد الأعسر GRENI MOHMED بغضت تطرفه رغم دعوته لأسلمة الهضبة.. فهم مثلنا لم يكونوا في حاجة إلى سيوف صقيلة ليدخلوا الإسلام.. عندما انكسرت شوكة الفاتحين من جهة الشمال أمام (رماة الحدق) عادوا إلينا باتفاق( البقط) وانسرب إلينا الإسلام سمحاً فصار شمال السودان الجغرافي وشرقه وغربه منارة للإسلام في أفريقيا.. تلألأ ضوء تلك المنارة وصار أكثر بهرجاً بنفح الصوفية التي جعلت من السودان محطاً ل(غوث الزمان) وصارت أمتي أكثر شعوب الدنيا عشقاً لرسول الله ( ص) وأكثر مادحيه. الإثيوبيون الذين استسلموا إلى سبات عميق آلاف الأعوام وهم مطوقون بأعدائهم من جميع الجهات، حتى نسوا الدينا ونسيتهم الدنيا بالمقابل.. تسلل إليهم الإسلام في هضبتهم المنيعة واستطاع ان يستميل نصف سكانها (50%) برغم المسيحية الأرثوذكسية المتجذرة في إثيوبيا، ولم يكونوا بحاجة لخوض حرب حول عقيدتهم ضد محمد (الأشولنجي) الذي داهمهم من هرر، أو من تحرش خليفة المهدي الذي باغتهم من الغرب حتى تمكنت جيوشه من اجتياح عاصمتهم التاريخية قندر.. كان سيد الخلق رسول الله (ص) بفيضه النبوي ورؤيته الثاقبة خير الناصحين حينما أمر المهاجرين بالاتجاه صوب بلاد الحبشة لأن فيها حاكماً عادلاً.. وصدق سيد الخلق (ص) لأنه لا ينطق عن الهوى.. وكانت الهجرات الإسلامية إلى الحبشة فكرة صائبة أفادت المد الإسلامي كثيراً بغض النظر عن محط تلك الهجرات التي يوهمنا بها علماؤنا بأنها كانت في السودان.. لا يهم فكلنا كنا حبشاً.. بين (السيدون) و(التكازي) أو في اعلى مهابط تسي سات حيث ينسرب (أباي) النيل الأزرق إلى مجراه نحو السودان.. يقول لودفيغ: (يجري النيل منذ الوف السنين إلى البحر ماراً عبر الصحراء المحرقة عاطلاً من مطر أو صديق أورفيق فيجد بأمواجه من ينعشه، ويوقف النيل حاجز من الصوان فيدور حوله ويسترد بهذا التماس قواه ونشاطه ويكافح الإنسان الذي يريد إمساكه ويوفق في ذلك دون ان يخسر النهر بأسه، ويشق لنفسه طريقاً بين الرمال لا حد لها.. قهر المناقع وقاوم الجفاف والأهوار.. يصل من البلد الذي أوجده إلى الدلتا والموانئ إلى البحر.. مهد جميع الأنهار.. ويا له من نهر!). انتهى. عندما يريد الإثيوبي تأكيد علاقته الأزلية بالسودان يحكي بالأمهرية ويقول KA A ND WEHA NETATALLO- أي (نحن نستسقي من ماء واحد)، في اشارة لا تخلو من حميمية لتناخبنا الماء من اباي هناك والأزرق هنا، وكلاهما نهر واحد. كانت مروي مملكة سودانية عظيمة تحتل مساحة معتبرة في المنطقة بين نهر التكازي والنيل وهي بقعة خصيبة يحدها النيل غرباً والأتبراوي شرقاً وتمتد جنوباً.. امتازت بكثافة سكانية عالية وثروات ضخمة أطلق عليها بازل ديفيدسن في كتابه (اضواء على أفريقيا) الذي أبدع في ترجمته جمال محمد أحمد عام 1959م.. اطلق عليها (برمنجهام افريقيا) لأنها عرفت الحديد وصهرته وصنعته واستخدمته في الزراعة والصناعة، كما كانت ملتقى طرق القوافل التجارية القادمة من العالم الهيلنستي بين المناطق الداخلية للقارة الأفريقية ومصر والعالم الخارجي مما جعلها أكثر الدول ثراء في التاريخ.. كلما ذهبت إلى النقعة لزيارة جدي (أبادماك)، أو الوقوف مستعيداً مجداً زائلا امام معبد الشمس بخرافه (الآمونية) المستلقية بلا استرخاء.. وكلما أذهب إلى المصورات مستلهماً تاريخاً يملؤني زهواً من زمن الإنكسار (البرونكي).. وعندما اقف على ضفة النهر الشرقية في البجراوية متحسراً على تاريخ تذروه الرياح امام عيني ولا أحد يحرك ساكناً لأنه لا يرى فيه أكثر من (طرابيل) لأنه لا يدرك معنى (الثروة القومية) التي ليست بالضرورة تكون مدخرات مصرفية او مشاريع استثمارية.. أو (عملة عصية) في مصارف سويسرا أو كوالالمبور. اما أهراماتها الجاثمة على ربوة شرق المدينة الملوكية والمطلة على مدافن الملكات في تل قريب.. والمتجهة بواباتها نحو الشمس عند شروقها من خلف الجبال الداكنة التي كانت رافداً لمعدن الحديد.. اصابها الخراب وتعرضت للنهب والتدمير بسبب جشع المستكشفين الأوائل منذ رحلة (كايو) ومن تلاه من رحالة ولصوص.. وهي الآن تقف (متداعية) بسبب ظلم وإاهمال (ذوي القربى)... مشاهد تعيدني للقرن الرابع الميلادي الذي كتبت فيه نهاية هذه المملكة بمجدها التليد على يد الإمبراطور الإثيوبي عيزانا.. يحفظ التاريخ الإثيوبي لعيزانا طموحه ودوره في اتساع رقعة مملكة اكسوم، ويحفظ له دوره في دخول المسيحية لإثيوبيا، ويحفظ له انتدابه لعلماء اللغة من أورشليم لتحديث اللغة وتطويرها وكتابتها من اليسار إلى اليمين وتحريك الحرف إلى سبع حركات. ويبقى في قلبي جرح يتفتق كلما تذكرت حملته الرهيبة وجردته التخريبية التي تباهى بها ونقشها على مسلته في أكسوم متباهياً بين ملوك زمانه.. حفر عيزانا نصه الشهير الذي ترجمه ديفيدسن إلى الإنجليزية ونقله جمال إلى العربية وأورده علي المك في كتابه (مختارات من الأدب السوداني).. وأورد هنا جزءاً من النص (بتصرف). استهل عيزانا نصه بالآتي: (أنا عيزانا.. ملك الملوك.. ابن الإله.. ملك اكسوم وحاكم حمير وريدان وسبأ وسالهين وسيدامو والبجة وكاسو المنتصر دوماً).. و(يضيف): (لأن الكوشيين أساءوا معاملة رعاياي من المانجورتو والهاسا( الخاسا) والباريا وقد حنثوا بعهدهم ونهبوا جيرانهم ورفضوا العدول عن أفعالهم وتمادوا يراوغون ويمارسون شرورهم حتى هجمت عليهم يعضدني سيد العالمين.. فقاتلتهم عند نهر التكازي (الأتبراوي) ومخاضة كيمالكي (اسفل ملتقى نهر عطبرة مع سيتت) حتى لاذوا بالفرار وتعقبتهم على مدى ثلاثة وعشرين يوماً فعملت فيهم قتلاً وأسراً واستوليت على الغنائم والأسرى وحرقت مدنهم المشيدة بالحجارة ونهبت قطنهم (وفي ذلك إشارة إلى القطن كنبتة قديمة في السودان وجلب من جنوب الوادي إلى مصر).. ويقول: (قد نهبت حبوبهم وفضتهم وذهبهم وحديدهم ولحمهم المقدد (الشرموط) ودمرت رسوم معابدهم ومخازن حبوبهم).. وذكر تفاصيل المعركة الدامية من قتلى وأسرى وغنائم، عند هجومه على مروي. كان عيزانا يرى في نفسه ملكاً على كوش. ليته ما حفر ذلك على الصخر ليبقى شاهداً على ما فعل.. ولكن لا أحد يذكر ذلك الآن.. ولكن من يمسح عن قلبي ما كتبه عيزانا ذلك (النقس) المتغطرس.. برغم (فعلة) عيزانا، وبالمقابل جردة جيش الخليفة التي ثأرت (دون قصد) للمدينة التي اضرمت فيها النيران فكتبت نهاية مجد اثيل لمملكة عظيمة.. بقي بين الشعبين ود تناسى ما فعله القادة هناك وهناك. كل الذين علقوا على ما جاء في أوراقي الإثيوبية حملوا وجهة نظر واحدة ترى أننا أكثر الشعوب تقارباً، ولكن علوم الإستراتيجية هنا وهناك تحذرنا من بعضنا والبعض.. ولا هم يلتفتون إلى خبرائها.. ولا نحن.. لا أعترض على تعليق الذين يبدون رأياً حول العلاقة الوجدانية بين شعبين متشابهين في كل شئ.. ولا يبقى شئ من حتى يطل من خرائب التاريخ. [email protected]