عرفت السيريالية بوصفها فن اقتناص اللاوعي لكتابة أو رسم الوعي، هي تجميد الأحلام واللحظات الهاربة من الزمن الأرضي لإعادة تشكيلها ولكن بغموض وغرابة، طالما كان الوعي الإنساني في أكثر تجلياته لا يلتفت لغير التعقيد ويهمل ما سواه من البساطة والتجسيرات الهينة التي تظن أنها تمتلك مفاتيح الرؤية وتقريب الأشياء لتكون جلية وسهلة تماما. وإذا كان السيريالية قد نشأت ما بعد الحرب العالمية الأولى فلعل فيها من أشكال الرغبة في التحرر من القيود التي شكلتها الحروب، المزاج السيء والظنون والغرائب التي أوجدها الإنسان في الواقع المرئي والمباشر، عندما لا يكون أمام الكائن سوى اللعنات والمفاتيح السيئة للعالم. وجاء السيرياليون لكي يحرروا الواقع إلى ما فوقه، إلى ما وراء تلك الجهات العجيبة التي لا يصلها الوعي الإنساني، بمحاولة تقوم على استنطاق الحياة في غير ما هي عليه من الأبعاد التي أدمن البشر على إدراكها. ولإثبات أن طاقة العقل الإنساني مذهلة. كان السيرياليون يبحثون عن الغريب واللاشعوي والحالم ويمنحنون لأنفسهم عنان المغامرة في سبيل ذلك، أي بناء العالم الجديد القائم على معطيات لم تكن واردة على الأذهان من قبل، أي بمحاولة لإيجاد وعي إبداعي حديث يقوم على تعريفات وممارسات غير نمطية، بأن يكون الغريب والمدهش وغير المفهوم هو مركز الوجود وجوهره، وهو كذلك حقيقة الواقع التي نبحث عنها في الكتب والأساطير والخيالات ونفتش عنها في سراديب الغيب وفي الأحلام والذكريات. وطالما كان الإنسان غامضا وكان الغموض هو تمظهر الكون، فإن السيرياليون كانوا يعتقدون أن الطريق الأقصر لتمزيق مشيمة الغموض هي أن يستمدوا فكرتهم من جوهر ما هو غامض، من اللاوعي البشري ومن مكنونات أو طبقات العقل العجيبة والبعيدة تلك التي لا يراها أي كائن إلا في حدود مساحات مغفلة عن الزمن الأرضي، في عوالم الشرود غير المفتعل وفي البواطن السرية للأرواح التي تدربت على الغوص في أسرار العالم حتى لو أنها لم تكن قد وصلت إلى المرحلة التي تفهم فيها المعنى الكامل، إن وجد. لأن سيرة الإنسان هي صيرورة دائمة للسؤال والاستمرار في البحث عن المعنى والإجابات التي لا تقدم سوى المزيد من الاستفهام وترسخ مساحة اللاوعي مقابل الوعي. وإذا كان السيرياليون يضعون الأحلام بوصفها هي مركز رؤاهم في تجسيد عوالمهم الفنية في الرسومات والكتابة، واستندوا على نظريات عالم النفس فرويد في رؤاه حول السلوك الإنساني والأحلام وإشباع الذات عبر اللاوعي وطبقات ما وراء الواقع، فإن السيرياليين وقعوا أمام نقد مباشر من فرويد نفسه الذي وصفهم بأنهم يعملون على الوعي وليس اللاوعي. قال إن ما لفت نظره فيهم هو وعيهم وليس لاوعيهم. بمعنى أن السيريالي مهما حاول أن يتخلص من استناده على اللاوعي في التلقي والإدراك وتقديم الصور الفنية والإبداعية يظل في نهايته العظمى مستندا على وعي تام، فهو قائم على اللاوعي من خلال تحكم صريح فيه وليس من خلال الإلهام القدري الذي يتلقاه الفنان ليسرح في تشكيل عوالم لم يكن له سابق معرفة بها، ولو حدث ذلك لكان السيريالي هو إنسان عشوائي وليس له من نظام ولا قيمة في عمله، حيث يتحول لمجرد مغامر ليس له من قانون ولا قاعدة، والفنون ساعة تصبح مجردة عن قواعدها الأصيلة في الإدراك تصبح نوعا من الفوضى التي ليس لها من هدف ولا غاية. أي أن الفن يخرج من مجاله ويصير شيئا غامضا لكنه بلا معنى. يتحدث فرويد عن وعي منظم في جوهر العمل السيريالي، وهذا هو الفارق بين الفنان الجديد والقديم، بين ذلك الذي يعتمد على التلقي من عوالم خفية أو وحي غير معلن أو "وادي عبقر" وبين ذلك الذي يتلقى من اللاوعي لكنه ذلك القائم على صناعته وخبرته الذاتية وتلقائيته التي لها ضابط وليست مهملة تسير وفقما شاءت الأيادي أو الأفكار دون حسيب، حيث أنها، الذات نفسها التي تعرف في الخلاصة ماذا تفعل بالضبط، فهي لا تمارس العبث وإنما تصوغ واقعا موازيا وجديدا من خلال ما تقوم به، وفي الواقع الجديد يكون لها أن تضارع أهوال الواقع الخارجي ربما بأبشع من صوره وأقبح. ذلك لأن اللاوعي هو الذي يمكن أن يمنح مضارعة الواقع أو التفوق عليه أو التعالي، في حين الوعي هو الذي يجعل الفنان رهين السجن الذاتي لما هو خارجي ومرئي ومباشر، ولهذا فكل ما يشتغل على الوعي المباشر والمدرك تماما لا يصبح فنا إلا في الوقت الذي يعرف فيه كيف يتحرر من الإرادية إلى ما سواها بأن يكون ثمة مساحة لما وراء الوعي، ولكن بذلك النمط السيريالي الذي وصفه فرويد. إن الأنا حاضرة في كل عمل سيريالي أو فني حقيقي، بشكل عام، وإذا ما قال لك الفنان أو الكاتب أنني أخرج من عملي ساعة أخلص منه، فهو يجرد العمل أو الفن من خاصيته الإنسانية ومن محتواه الفني. وإذا كان الحضور في السابق يقوم على داخل النص أو اللوحة فهو اليوم يحضر بقوة خارجهما ويناقش ويدافع ويؤكد أيضا، وليس مجرد مراقب أو من يتخذ شكل الانحياز. ولكن هذا لا يعني أن الرؤية التي سوف يطلقها الفنان هي نهائية أو الحقيقة، إذ ستظل مجرد صورة للممكنات الأخرى التي يمكن أن يأتي بها أي إنسان أو مستقبل آخر، وليس لأي فنان أو كاتب أن يدعي أنه يمتلك حقيقة نصه أو عمله الفني. وإذا كان السرياليون يهتمون بالمضمون على حساب الشكل، ولكن بصورة غامضة ومريبة، فإن الفن الجديد يفعل ذلك الشيء نفسه، هو يمارس وعيا كبيرا بالواقع ومشكلاته ويقترب منها ويتحرر من الأوهام والظنون ولكن بتوظيف اللاوعي الفاعل عبر قنوات الوعي، إذ لابد من تمرير ما وراء المدركات لتصبح مدركات وملموسات في حيز الأنا ومن ثم النص المتجلي أمامنا الذي فيه من الانفعال والغرابة والكثير من المساحات القابلة لإعادة التشكيل والإدراك والوعي المعاد في تفسيره وإنتاجه. إن السريالية القديمة قد انتهت. لكن الجديدة هي روح عصر آني يقوم على رؤية التوحش والغياب الكبير للمعنى والفكر الإنساني الذي يفقد اليوم خصائص قوته الكلاسيكية في الانتصار للحقائق الكبيرة. إنها فنون جديدة تعمل على نفي الوعي تماما وتعزيز اللاوعي ولكن بنمط يستحضر صورة عالم بات متشعبا ومتسعا من حيث مصادر اللاوعي نفسها، وبات فيه ضابط الوعي أكثر تشتتا ليمكن القول مرات أن المساحة الفاصلة بين الوعي واللاوعي لم تعد موجودة في الأساس وهذا هو مربط الفرس في أن تكون سيرياليا جديدا. [email protected]