أشكركم على زيارتى فى منفاى القهرى ، تحت هذه السيارة المهجورة . و أعلم سر قدومكم ليلا . أنتم و لا شك تخشون سطوته ، تخشون ( الجراء ) التى تنقل له أخبار الحارات جميعها . أعتذر عن وحشة المكان ، فالكهرباء كما تعلمون مقطوعة عن الحى منذ يوم و نصف . سمعت بالأمس سيدة تهمس لعشيقها قرب هذه السيارة أن انقطاع التيار أحيانا يستمر لأيام عديدة . حاولوا ألا تظهروا ذيولكم يا احبابى ، فما عاد الأمن يعرف هذه المدينة كما كان قديما. جارنا هذا – مثلا- غاضب جدا من الأمس . إذ قدم أبنه من إحدى بلاد النفط ، فلم يستطع أن يحتفل به الاحتفال اللائق بسبب انقطاع الكهرباء و الماء . أيضا هناك هؤلاء الأطفال الذين ينامون فى المجارى كالثعابين . لن يرحموكم إن رأوكم . اعتذر لكم أيضا لأنني لا استطيع أن أقدم لكم سوى رفات عظام قديمة ، فكما تعلمون أن الإنسان أصبح يزاحمنا فى أكل العظام بعد أن ظل مرفها لقرون طويلة ، يقتات على اللحوم و الألبان ، بل إني علمت من بعض إخواننا الكلاب فى القرن الافريقى أن الإنسان أصبح يأكلنا نحن من فرط المسغبة الشديدة ! ما أتعسنا في هذا العصر أيها الرفاق ! زمان ، كانت الأعراب توقرنا . كانوا يسمون قبائلهم باسمنا . بلى ، الم تسمعوا (ببني كلاب) مثلا ؟ ألم تقرأوا عن الفارس ( كليب ) ؟ ألم تسمعوا المثل السائر (على نفسها جنت براقش)؟ . صحيح أن براقش كانت كلبة ( مطرطشة ) جلبت الدمار إلى الحى بأكمله بخفتها و ( شلاقتها ) ، لكنها تظل منا جنس الكلاب ، رفعت رأسنا و أذيالنا عبر القرون، فقد خلدها التاريخ (بعض البشر أيضا خلدوا بغبائهم مثل هبنقة و جحا) . و قديما كتب أحدهم كتابا كاملا عنى و عن إخوتى من الحيوانات . أما بنو هذا الزمان فلا يكادون يأبهون بنا ، فإذا أراد احدهم أن يلعن أخاه قال له يا (ابن الكلب) ، و إن إرادات إحداهن أن تسخر من أختها قالت لها يا (ضعيفة يا الكلك عضام) ، فيهزأون بمصدر حياتنا كلها : العظام . لكن صديق لى من الجزيرة اخبرني أن بعض الكرام اسموا قريتهم ( أم عضام ) . و لعل فى هذا بعض من رد الاعتبار لنا . قبل سنوات كنت أسير فى دروب تلك الحارة ، حارة ( الهوهاو بن نابح العنزى ) ، هازا ذيلى فى خيلاء ، و إناث الكلاب تركض ورائى فى وله ، يغنين ( ماك الجنا الصوصاو ، و ماكا البنادوك حاو ) ، فى إشارة إلى أنى لست ثرثارا كصغار الدجاج و لست غبيا كالحمار . و قد لا تعلمون أنا أدخلنا كلمة ( العنزى ) فى اسم الحارة بعد أن استنجدنا بالأغنام يوم هجم علينا بعض البشر الطغاة ، فجاءت المعيز بقرونها الحادة و التيوس بأظلافها الطويلة ، و كانت معركة حامية الوطيس ، لكنا انتصرنا فيها ، و خلفناهم قتلى و جرحى ، لكنا لم نقتل المصورين و الصحفيين كما يفعل بعض الآدميين فى هذا العهد الغريب ، بل تركناهم يوثقون المعركة و ينقلونها إلى العالم أجمع على قناة ( الحظيرة ) حتى لا تساور أحمق نفسه بمحاولة غزونا مرة أخرى . و منذ تلك الليلة أصبح شعار الحارة ( الذيل و القرن ) . و لذلك كلما زارنا مرشح حزب ، جاءنا مرتديا جبة عليها صورة ذيل جدنا الكبير ( جرقاس بن كرفاس ) و معه قرن ماعز . الغريب أن كل مرشح يحدثنا عن نفس البرنامج الانتخابي المتمثل فى ( عظمة لكل كلب ) ، و عيادة بيطرية فى كل حارة ، ويعدنا بالأمن و الحرية و( الديموكلبية) . صحيح أنهم كانوا يبيعوننا الوهم. و طبعا كان كل مرشح يخطب ودى . فقد كنت كما تعلمون سيد الحارة ، و نبضها ، و كنت المتحدث باسمها كلما زارنا وفد معيز أو أرانب أو حتى فئران . كذاك كنت المسئول عن الجمعية التعاونية ، فكان كل (جرقاس) ينال نصيبه من اللحوم و العظام ، سيما فى مواسم الأضاحي ، حيث تكثر اللحوم و ينسى ابن آدم شيئا من عدوانيته و أنانيته . كنت وقتها معشوق جميع الكلاب الإناث ، الأميات اللواتى لا يجدن سوى الهوهوة و تحريك الذيل كإعلام بغزل ، و اللواتى ذهبن إلى المدن ، و عدن منها بذيل مزركش ، و تفتح فى السلوك . وكنت أجرجر ذيلى قرب قهوة الكلب ( جرقاس) حيث يجتمع وجهاء كلاب الحى ، فتهرع جراؤه الصغيرة لخدمتى ، بل إن ( جرقاس ) نفسه كان يخف إلى مائدتى محضرا لى شوربة الأرانب البرية . فكنت أضع رجلا على رجل ، و أقرأ الجرائد اليومية ، و أتابع أخبار الكلاب و الثيران و البشر . كما قلت لكم كانت إناث الحى ترمقنى من وراء نوافذهن ، أما الآن فقد تركتنى ( بنات الكلب ) و ركضت وراء ذاك الكلب المغرور ( معضال بن عسعوس المشاكلى ) . بالله يا إخوتى لا تقلبوا على المواجع ، و صبوا لى بعض النار على هذه النرجيلة لعلى أنسى همومى . رحم الله جدى الأكبر ( الحفار ابن طيار ) . كان هو من أسس هذه الحارة . و حتى الكلاب القادمة من ربوع قصية سكنت في الحارة و تعايشت معنا ، بلا تعال للون أو نسب أو طول ذيل . أما سمعتم ( بالحفار ابن الطيار )؟ سبحان الله ! أنتم جيل لا يرجى منه خير . رحم الله القائل " من فات قديمه تاه " . دعونى أحدثكم عنه فى عجالة يا كلابا بلا ذواكر . أما تسمية ( الحفار ) فقد أطلقت عليه لأنه كان يتمتع بمخالب استثنائية تساعده على حفر الحفر فى وقت قياسى حتى إن إحدى شركات الهاتف فكرت فى توظيفه ليساعدها فى دفن الأسلاك . و أما ( الطيار ) فلها قصة . ذكروا أنه كان طموحا ، وثابا . استيقظ ذات يوم و هو غاضب من معاملة الإنسان لنا . فطلق زوجاته الأربعين و قرر أن يصبح حصانا . لذا هرب من الحى و تنكر فى زى حصان ، لكن فلاحا جاهلا اشتراه ، و شده إلى عربة قديمة و طفق ( يهرد) قفاه بالضرب ، حتى عرف أن الله حق ، فغافل الفلاح ذات ليلة ، و هرب عائدا إلى دارنا ، لكن الفلاح رآه فركض وراءه بكل سرعته . أخذ جدى ( الحفار ) يركض بسرعة خرافية . و فجأة نبتت له أجنحة مكان الأرجل الأربعة . و رأته جميع الكلاب محلقا فوق الحارة . فأخذت إناثنا ( تهوهو ) ، و ترقص ( رقبة) فى وسط الشوارع ، و تعطى ( الشبال ) حتى للكلاب الضالة الجرباء ، بينما أخذ ذكورنا ( يعرضون ) فى ساحاتنا العامة ، و هم يرقصون على أنغام الفنان ( هوهاو بن نباح الكلبى ) ، و من يومها أطلق الناس عليه اسم ( الطيار ) . تلك أيام يا بنى . ألا ليت أيام العظام تعود !!! تسألوننى عن ذاك الكلب المغرور ( معضال بن عسعوس المشاكلى ) ؟ لا أدرى و الله من أين أتى . أذكر أن بعض الأطباء قدموا إلى الحى لاصطيادنا . فقد انتشرت فى البلد إشاعة أننا تسببنا في داء ( السعر ) الذي تفشى فجأة . حاولنا أن نقنعهم بأنه ليس من العدل أن يتنصلوا من مسئولياتهم و يرون فينا سببا لكل مصيبة ، و ذكرنا لهم أننا لسنا من جلب الايدز و عمى الأنهار و السرطان إلى الكون ، و لسنا من ثقب الأوزون . لكنهم لم يعيرونا (أذيالا) صاغية ، بل طفقوا يصطادوننا فى غوغائية غريبة ، و الغريب أنهم احضروا معهم كلبا بوليسيا ليساعدهم فى قمعنا ! المهم ، هرب منا من هرب ، و قاتل منا من قاتل . و فى تلك الليلة جاء ذاك الكلب المغرور من قرية مجاورة . جاء فارا بذيله و مخالبه . كان – للأسف – كلبا وسيما مفتول العضلات . و كان يفرد شعره مثل مايكل جاكسون أيام عزه . تعرف على الكلاب الصغار و أخذ يصادق هذا و يؤاخى ذاك . و فى زمان قياسى أصبحت الكلاب تثق به ، بل إنه أصبح عضوا فى جماعة ( نحو كولبة الحيوان ) ، و هي جماعة لها موقع فى الانترنت و تعنى بنشر فضائل الكلاب من وفاء و شجاعة و مروءة بين سائر الحيوانات الأخرى كمرحلة أولى قبل نشرها بين بني الإنسان بعد ذلك . و بدأت الكلاب الشابة تلتف حوله . كذاك حرص على توطيد علاقاته مع بعض الكلاب البلطجية التى ما كنا نقيم لها كبير وزن . و ذات يوم جئت الى القهوة فوجدته جالسا على الكرسى المخصص لى . هل تصدقون ؟ على الكرسى الذى طالما شهد أيام مجدى الغابرة . بل وجدت المعلم ( جرقاس ) يهز له ذيله توددا و رياء و يشرف على خدمته بنفسه . و حين صحت فى وجهه أن يقف ، حدق فى وجهى لثوانى معدودات بلا كلمة ، و أغمض عينيه ، و تمطى و كأنه يود أن ينام ، ثم فجأة انقض على ذيلى كالقذيفة . حدث هذا فى وقت قليل جدا و بصوت مباغتة ، فلم أكن مستعدا له . و سرعان ما أنشب أسنانه فى ذيلى ، فمزقه و راح يعضه و كأن بيننا ثأر قديم . أصدقكم القول أن الألم كان مبرحا و عظيما ، و بلا وعى وجدتنى أتقهقر أمامه و أنا أتلوى من الألم . تجمعت الكلاب حولنا ، و طفقت تشجع القتال الدامى ، و كنت وقتها قد استجمعت شيئا من رباطة جأشى ، فصرت أقاتل . لكن الزمن هزمنى يا رفاقى . كان كلبا شابا وسيما ، و كنت فى أخريات العمر . كان ناعم الشعر ، أسوده ، و كنت أبيضه . غنى عن القول أيضا أن بنات الكلب أخذن يصفقن له و يشجعنه ، فأرداني أرضا ، و اخذ يكيل لى اللكمات تباعا حتى أغمى على . و حين استيقظت وجدته قد جز شاربى إمعانا فى الاهانة ، فطلقت نسائى ، و رحلت من الحارة إلى بيتى تحت هذه السيارة المهجورة . لماذا وقفتم ؟ هل حان موعد العودة ؟ يا الله ! حسنا ، متى تزوروننى مرة أخرى ؟ ملحوظة : بعد أسبوعين جاءت بعض الكلاب خفية لتزوره في منفاه تحت تلك السيارة ، فوجدته باسطا ذراعيه على الأرض جثة هامدة ، بينما عيناه تلمعان بحسرة عظيمة !!! .... مهدى يوسف ابراهيم - جدة [email protected]