أقرب إلى القلب: (1) سأورد هنا بعض وقائع، شهدتُ طرفاً منها بحكم قيامي بمهمتي الدبلوماسية في لندن، وإن جاز لي ان أحدّث عنها نقلاً عن ذاكرة خربة، فثقتي فيها تضعف بسبب فعل السنين، وقد خصمت من قدرتها على الاسترجاع، وبملكتها على حفظ التفاصيل، خطيرها والمهمل منها، بعد انطواء عقد كامل عليها. ولكن دفعني لتجاوز تلك المحاذير، ذلك السجال الجاد والمهم، حول ضرورة توثيق ما قد دار وما يدور، من وقائع تتصل بمصير الوطن، بل أحسبه سجالاً مفيداً والوطن على مفترق طرق وعديد اتجاهات.. وإلى ذلك فإني أدركُ، بحكم عملي لأكثر من ثلاثة عقود في وزارة الدبلوماسية، أن للدبلوماسي لساناً تحكمه عهود وتقيّده التزامات، تقتضي أكثر ما تقتضي، التزام السرية واتباع الكتمان، لكلّ ما قد يمرّ تحت بصره وسمعه من أمور تتصل بدقائق السياسات العليا، أو بقضايا تمس سلامة الوطن وأمنه. بعض المُخبّأ في ذاكرة الدبلوماسي، قد يسيل له لعاب الأجنبي المتطلّع بشغفٍ لمعرفة أسرار الآخرين، فيرسم سياساته وسيناريوهاته على ضوء ما تصيّد من معلومات. غير أني، ومع حرصي على هذا الجانب في عملي، قد لاحظتُ ذلك التحوّل الذي لحق بمجمل الممارسات الدبلوماسية، أبعادها وأساليبها ومعيناتها، خاصة بعد حقبة الانكشاف المعلوماتي، والتي اتسعت دوائرها خلال العقدين الأخيرين بصورة متسارعة. (2) في عهد العولمة، فقدتْ المعلومة قدسيتها وجلال سريتها. الأهمّ الآن عند راسمي السياسات، هو قراءة المعلومة وسبر أغوارها، استرجاعاً لما وقع، واستقراءاً لما سيقع. أفلَتْ ممارسات التجسّس وتجنيد العملاء لصيد الأسرار وملاحقة المعلومات. تلك ممارسات شاعت إبان حقبة الحرب الباردة (1945-1990)، أفولاً ليس بعده إفاقة. لك أن تقارن بين شخصية افتراضية من شخصيات الجاسوسية في "هوليوود"، والتي بلغت شهرتها الأفاق، مثل شخصية "جيمس بوند"، وشخصية حقيقية أخرى مثل "جوليان أسانج" مبتدع "الويكيليكس" الذي أقام الدنيا بقدراته في ترسيخ الشفافية وكشف المستور، ولم يقعدها إلى الآن. كسر الرجل قدسية المعلومة، واستفتح عصراً جديداً من الانكشاف المعلوماتي، غير أن إدانة فعله سبقت الاحتفاء بقدراته في معالجة المعلوماتية بذكائه في فضاءات الانترنت. للأسف لحقت بالرجل الشكوك، وانكفأ مطارداً من بلدٍ إلى بلد، إذ نظر إليه الخائفون بعيون تغذّت من مشاهد حقبة الحرب الباردة، فأخذتهم رجفة مما كشف. .! أراهن أن وعد المستقبل هو إلى جانب الشفافية، لا إلى جانب المستريبين الخائفين. . (3) التفتُّ إلى قلم الصديق العزيز والدبلوماسي الأريب خالد موسى دفع الله، وهو يحدّث عن مُقتضيات التوثيق لما يتصل ببعض ممارساتنا السياسية والاجتماعية، مستصحباً جولات التفاوض في ضاحية "نيفاشا" الكينية، مثلا. حول ذلك النزاع بين شمال السودان وجنوبه، والذي قارب العشرين عاماً في نسخته الثانية، تواصلت جولات التفاوض لأشهر طويلة، وانطوت صفحات أخطر وثائق السودان الحديث آخر الأمر، بتوقيع اتفاق السلام الشامل عام 2005. جاء مقال الأستاذ خالد في موقع الصحيفة الإلكترونية "سودانايل" بعنوان: "يوميات نيفاشا.." وأثار العديد من التعليقات والمداخلات والشهادات، بما عزّز من ضرورات مثل هذا التوثيق لكلّ مراحل وكل مسيرات تاريخ السودان المعاصر. أشار خالد لما كتب الآخرون عن "نيفاشا" بين 2003 و2005، مثل كتاب الكيني "وايهينيا" عن الجنرال الكيني "لازارو سيمبويا"، وكتاب الوزيرة النرويجية الرشيقة "هيلدا جونسون". لكأنا تعودنا أن يكتب عنا ولنا الآخرون سيرة أحوالنا، لا أن نكتب نحن فصول تاريخنا. أنظر لما كتب الرحالة القدماء، مثل "بونسيه" و"بوركهارت" وأضرابهما، عن رحلاتهم في أقاليم السودان، وما كتب "كرومر" و"ونجيت" و"شقير" و"جاكسون" و"نيوبولد" و"ماكمايكل" و"آركل" و"ريتشارد هيل" وغيرهم، في العهود القريبة، على سبيل المثال. لن ترى في الجانب الآخر من قديم مخطوطات وشهادات التوثيق، غير القليل الذي كتبه "ود ضيف الله"، أو ما كتب "كاتب الشونة" أو "يوسف ميخائيل"..! بعض نجوم الحركة الوطنية أنجزوا بعد ذلك كتباً عن ذكرياتهم، وبعضهم ترك نتفاُ مسجلة عن تجاربهم وشهاداتهم. (4) أحمد للدبلوماسي عمّار محمود حين عمل بسفارة السودان في "أبوجا"، أن التفتَ إلى توثيق محاضر "نيفاشا"، فبرّه سفيره الراحل تاج السر محجوب بمخطوطته، أو قل شهادته عن مشاركته في مفاوضات "نيفاشا"، التي تواصلت شهوراً طوالاً في تلك الضاحية الكينية على شواطيء بحيرة "نيفاشا" الصغيرة، وأسفرت عن الاتفاق الذي أشرنا إليه. خرجت تلك الضاحية المنسية بعد تلك الجولات التفاوضية، من المجهول الجغرافي على ضفاف بحيرة صغيرة اسمها "نيفاشا"، إلى الشهرة السياسية الباذخة، كمنعطف تاريخي يتصل بمصير السودان، أكبر الأقطار الأفريقية. ولكني أجد الأهمية الكبرى كامنة في الذي لخّصه الصديق العزيز السفير عبدالرحمن ضرار، من مداولات مباشرة للطرفين المتفاوضين، وقد أشار إليه خالد موسى في مقاله، أنه كتاب منشور محدود التوزيع. لم يتوسّع خالد لنعرف منه كيف وصلته نسخة من ذلك الكتاب، وظني أن هذا يكمل حجته في ضرورات التوثيق. لقد أكمل صديقنا السفير ضرار واجبه في صياغة المحاضر، اجتماعاً إثرَ اجتماع، ويوماً بعد يوم، ثم أحال المخطوطة آخر الأمر إلى صاحبها، ومَن كان طرفاً أساسياً في التفاوض الذي نتج عنه اتفاق السلام الشامل في عام 2005، وهو النائب الأول السابق. أكد لي السفير ضرار أنه لم يقم بطباعة ونشر مخطوطة المحاضر في كتاب، وإني لا أجد ما يدفعني لعدم تصديقه. (5) ممّا كتب صديقنا الدبلوماسي الأديب خالد موسى، فإنه رأى أن مخطوطة الراحل تاج السر محجوب، تكتسب أهميتها لكونه شارك بفعالية في مفاوضات "نيفاشا"، خاصة فيما يتصل بمحوري قسمة الثروة وقسمة السلطة، كما كان مطلعاً على مجمل التفاصيل الأخرى في محاور التفاوض، خاصة ملف فصل الدين عن الدولة، وملف تقرير المصير. ولقد نظرتُ في الذي أورده الدبلوماسي عمار من بعض ما كتب الراحل تاج السر في مخطوطته تلك، عن التداول الذي جرى، حول ضرورة تجاوز الاستعصاء عبر رفع مستوى المفاوضين الرئيسيين، لتوفير الصلاحيات التي تختصر جولات التشاور هنا وهناك. أشار تاج السر إلى أن وزير الخارجية الكيني السيد "مسيوكا"، كان له ضلع بالمقترح، حين طرحه على الرئيس البشير في 30 أغسطس من عام 2003، حسبما ورد في مذكرات تاج السر محجوب. لا غبار على ما جاء في مخطوطة الراحل تاج السر، غير أني أورد طرفاً عرض لي وكنت طرفا فيه إلى حدٍّ ما، وذلك إبان عملي نائباً لرئيس البعثة في لندن في الفترة من عام 2000 وإلى عام 2004 . (6) كلفني رئيس البعثة في لندن أوائل عام 2003 وبين أبريل ومايو تحديداً، لأمثل سفارتنا في التنسيق مع السفارة الأمريكية، بقصد ترتيب الإجراءات المراسمية لزيارة النائب الأول السابق لرئيس جمهورية السودان إلى لندن، ليلتقي فيها بالسيد "كانشتاينر" مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، في زيارة لم يعلن عنها أيّ من الطرفين. لم تخلُ مهمتي مع السفارة الأمريكية من بعض مضايقات، إذ كانت الهواجس الأمنية بعد 11 سبتمبر 2001 في أوجها. على كلٍ أجريتُ التنسيق اللازم مع نائب السفير الأمريكي في لندن، إذ قمتُ والدبلوماسي الأمريكي بإكمال الإجراءات، من الاستقبال بالمطار إلى تحديد فندق الاستضافة والذي راعينا أن لا يقع بعيداً عن مقار سفارتينا لتيسير اللوجستيات. قمنا بتحديد قاعة الاجتماع وضبط الجوانب المتصلة بمقر إقامة النائب الأول (السابق) والموظفين المساعدين من سكرتارية وطاقم الأمن وسيارات الوفد. بالطبع لم يكن ثمّة ما يتطلب إقحام وزارة الخارجية البريطانية في هذه الترتيبات، برغم ما نعلم من دورٍ رسمي لبريطانيا، يلعبه المبعوث البريطاني الخاص للسودان السفير "ألن قولتي"، في عملية التفاوض. اخترنا أنا والدبلوماسي الأمريكي، نزلاً في منطقة "ماي فير" الراقية في قلب لندن، يبدو من شكله أقرب إلى الشقق الفندقية منه إلى الفندق العادي، ويقع في منتصف المسافة بين سفارتينا، قبالة فندق "ريتز" الشهير في شارع "ريجنت" . . أتذكر أن اللقاء بين الرجلين كان سرياً ومغلقاً ومحدودا، ولم يستغرق وقتاً طويلا. في يومٍ أو بعض يوم، غادر النائب الأول لندن إلى الخرطوم. يبدو من قراءتي للقاء – فأنا لم أحضره ولم أشارك فيه -أنه كان حاسماً حول مسار التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان، وحول خيارات تجاوز الاستعصاء فيه. ذلك أنه، وبعد مضي أشهر قليلة، تحديداً في سبتمبر 2003، تولى النائب الأول السابق بنفسه، ملف التفاوض من الدكتور غازي صلاح الدين، وسافر حينها ليرأس فريق التفاوض الحكومي في ضاحية "نيفاشا". أما عن ترفيع طرف الحركة الشعبية في التفاوض وقدوم الراحل "قرنق" إلى "نيفاشا"، فذلك في ظني لا يبعد أيضاً عن الحراك الأمريكي في الأمر. . (7) قدِمَ د.غازي عتباني إلى لندن ذلك الصيف، وقد بدا مُتحللاً ممّا كان يشغل كاهله من هموم المفاوضات ورهقها. جلس إلينا في لقاء أخوي شبه مغلق في مكاتب السفارة في لندن-السفير حسن عابدين وأنا- وأحسستُ أنه كان مرتاحاً - حسب تقديري الشخصي- لخروجه من دوائر التفاوض المضنية. كان منفتحاً وعلى سجيته، وألمح عن سبب خروجه إلى أن بعضهم يرى أن مواقفه التفاوضية متشدّدة نوعاً ما، وأن الحاجة صارت ماسّة لكسر جمود التفاوض، ولإبداء نوعٍ من المرونة المطلوبة. لم يكن الرجل مُمتعضاً بعد مغادرته طاولات التفاوض، بل على العكس بدا، وبرغم مرارة التجربة، مستعداً ليستمتع بإجازته في لندن، وليستفيد ممّا توفر له من وقت ليمضيه في قراءات معمّقة في علم الاقتصاد، حسبما ذكر لنا في تلك الجلسة. د.غازي، ومن دون بقية القياديين الذين عرفت عن قربٍ أو عن بعد، مثقفٌ ألمعي، يستغرقه الاطلاع الثاقب والمثاقفة الجادة. . (8) حديثي هنا يُكمِل في تقديري، الحلقة الناقصة في "إخراج" مقترح إبدال المفاوضين في "نيفاشا"، بآخرين يملكون كامل الصلاحيات، ويرمّم الفجوة التي بانت في رواية الراحل تاج السر محجوب في مخطوطة مذكراته عن "نيفاشا"، التي بيد الدبلوماسي الأريب عمار محمود. أثق كذلك أن للسفير د.حسن عابدين ما قد يضيفه لروايتي هذه، فقد كان حاضراً ذلك اللقاء الهام مع المسئول الأمريكي "كانشتاينر". في تقديري الشخصي، أن لقاء النائب الأول السابق بمساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في لندن، ساهم في سيناريو تجاوز الاستعصاء الذي انتهى إليه مسار التفاوض، ليكون مباشراً بين الراحل "قرنق" والنائب الأول السابق على ضفاف بحيرة "نيفاشا" في كينيا، وليختتم بذلك الإنجاز التاريخي، بعد شهور طويلة من التفاوض، بالتوقيع على وثيقة اتفاق السلام الشامل في يناير من عام 2005. . ++++++ [email protected] الخرطوم – يونيو 2015