[email protected] كيفَ ترى موقع ذلك "الرّجل الحصيف" الآن، وقد كان قبل هنيهة الأقرب إلى صاحب المطبخ الأول. كان بحصافته المشهودة، من المُمسكين بعناصر الطبخ ومكوّناته، فإذا بفصيح كلامه يُنكر، وبجرأة عبارته تقبر تحت غبار . .؟ حين جاءوا به سفيراً في وزارة الخارجية من مهجره الغربي البعيد، ما استعجل الخروج للعمل في بعثات البلاد في الخارج، بل آثر البقاء في إدارات ديوان الوزارة، يلمّ بمكونات ومفاصل العمل الدبلوماسي، برغم أن خبرته الدولية في بعض البقاع الخارجية المهمّة ، قد أكسبته قدراً لا يستهان به من الخبرة والمقدرة السياسية والدبلوماسية. جلس في إدارةٍ من الإدارات العامة التي تضطلع بلوجستيات العمل الدبلوماسي، فأنجز وحسم قضايا كثيرة، لعل أهمها تنفيذ سياسة اقتناء مقار لبعض البعثات الدبلوماسية المهمّة ،عوض الركون لايجار مكلف لبعض هذه الدور والمقار، ممّا أنهك أرصدة البلاد من العملات الأجنبية. امتلكت البلاد موقعا لسفارتها في جمهورية جنوب أفريقيا، كما في زيمبابوي، وهيأ الإجراءات لبدء إعادة تشييد سفارة للبلاد في جمهورية الصين الشعبية وتوسيع مقرّها وسكن رئيس بعثتها هناك. عمل "الرجل الحصيف" بجانب ذلك على إعادة الكثير من "المؤسسية" لإجراءات التعيين والنقل للعمل في بعثات وزارة الدبلوماسية. حين ابتعثوه ليدير سفارة بلاده في تلك الدولة الصديقة، كان على إدراكٍ حصيف ما يلتبس علاقة البلاد مع تلك الدولة الإسلامية المثيرة للجدل والمثيرة لشبهات تتصل بنواياها لتصدير أنموذجها السياسي والديني إلى التخوم المجاورة، وكذا جهودها المتسارعة لامتلاك أسلحة قد تحدث "دماراً شاملاً" في نظر الغرب ونظر الولاياتالمتحدة، والذي يسمّيها "أسلحة نووية" دون إلحاق صفة التدمير بها، بما يشي بازدواجية تتجلّى حتى في المعايير اللغوية، بما لا تخطئه عينٌ حصيفة. جاء "الرّجل الحصيف" إلى تلك الدولة بخبرته وبحنكته ليرمّم طرفاً من علاقات بلاده معها، بسببِ ما لحقها من شططٍ تسبب فيه سلفه بحماسٍ واندفاع، من أعمال لم تكن تَرُقْ لسلطات تلك البلاد. توجّسوا من سلفه، وصنّفوه سنياً "وهابياً"، فيما كان ذلك السفير من السلف القيادي "الإسلاموي" ومن أهلِ الصفوة التي أدارتْ شئون البلاد منذ 1989. كانت حساسيات المذاهب تسيطر على قيادات تلك البلاد "الصديقة"، فتعسّر على رجال في وزارة خارجية تلك البلاد، من أمثال الشيخ الدبلوماسي "خوانساري" التعامل معه. ولأنّ خلَفَهُ – "الرّجل الحصيف"- جاء من خلفية لها خبرات محسوبة في العمل الخارجي، علاوة على تسلمه إدارة الشئون الداخلية في وزارة الدبلوماسية لقرابة عامين، فإنهم في تلك البلاد الصديقة، رحبوا به أيّما ترحيب، خاصة لما عرفوا ما لإسم عائلته من موحيات، جلبتْ له عند أهل تلك البلاد، الاحترام والتبجيل مضاعفا. ( 2 ) جاء - فيما تناقلته أقلام غير أكيدة- أن "الرّجل الحصيف" استقبل في سفارته في تلك البلاد، أفراداً مِمَن شاركوا في عملية فاشلة لاغتيال رئيس زائر قدم لحضور قمة في بلد أفريقي. لاذ هؤلاء المغامرون بالبلاد، ولكن رأت قيادة البلاد - وبعد فشل مغامرتهم - أن وجودهم فيها سيجلب متاعب لا حصر لها، ولن تنجيها من استهداف ذئاب رابضين في مجلس الأمن، يتربصون ببلاد أثرتْ أن تتحالف مع من يستريب منهم الغرب، وتستعديهم الولاياتالمتحدة المريكية ومن لف لفّها، وتستريب أكثر ممن يتقرّب إليهم. غادروا عاصمة البلاد إلى العاصمة المشرقية التي يدير السفارة فيها ذلك "الرجل الحصيف". الراجح أن الرّجل أنجز مهمّة إستقبال ذلك النفر من "الإسلاميين" الفارين، وأشرف على إرسالهم لوجهتهم، وإنْ احتفظ برأيٍ غاضبٍ حول العملية الفاشلة التي استهدفت اغتيال ذلك الرئيس الأفريقي. الذي أرجّحه أيضاً ، أنه لو كان ممن عرض عليه الأمر لعارضه المعارضة الشديدة ، وذلك حكمي أنا من واقع قراءتي لفكر ومسلك ذلك "الرّجل الحصيف". فيما قاربتْ فترة عمله على الانقضاء في تلك الدولة الإسلامية "الصديقة"، أسرعت قيادة البلاد إلى تكليف "الرجل الحصيف" بإدارة أمر ذلك الجهاز المهم بعد أن أقحم من كانوا فيه البلاد في مغامرة جعلته هدفاً سهلاً لمخالب ناشبة في مجلس الأمن. كانت غضبات الجيرة الشمالية والجيرة الشرقية أكبر من أن تغالبها قدرات البلاد الدبلوماسية. من حسن حظ دبلوماسية البلاد أن من كلن يدير بعثتها لدى المنظمة الأممية، دبلوماسيٌّ حصيف آخر، له من الخبرات الأمنية والسياسية ما يفوق خبرة الكثير من سفراء تلك الآونة، يضاف إليها علاقاته الشخصية مع كثير من قيادات دولة الجوار الشرقي، التي كانت عاصمتها مسرحاً للمغامرة الفاشلة. أبطل الرجل مفعول بعض الملفات الخطرة، ولكن لم ينجح في تحييد محاولات الحصار وقد تولتها الولاياتالمتحدةالأمريكية، وصقور دبلوماسييها في مندوبيتها الدائمة في نيو يورك وسفارتها في واشنطن، قد افلحوا بالتاثير على الكونجرس الأمريكي والدوائر المؤثرة الأخرى هناك. تولّى "الرجل الحصيف" القادم من سفارته في تلك الدولة الإسلامية الصديقة، أمر اصلاح الحال في الجهاز الذي تورّط بعضُ منتسبيه في تلك المغامرة الخاسرة. لم تغب عن بصره ولا عن بصيرته النافذة، أنّ اصلاح الحال من الصعوبة بمكان إنْ لم يكن من المستحيلات، إذ أنّ رؤوساً كبيرة هي وراء تلك المغامرة. برغم ذلك أنجز عملاً كبيراً أسفر عن محو الكثير من آثار تلك الفعلة المنكرة، وأبعد عناصرها إلى تخومٍ بعيدةٍ، ولم يعد لهم أثر أو نفوذ في ذلك الجهاز المُهم. الذي سمعته أن الرّجل أدار جهازه بحنكة وبمسئولية، وأنّهُ أصدر إلى ذلك، توجيهات منعتْ أولئك المغامرين المتورطين، من التدخل في أعمال إدارة ذلك الجهاز. سمعنا عن إزاحة عددٍ كبير من قيادات ذلك الجهاز في تلك السنوات الوسيطة من عقد التسعينات، دفع بعضهم ثمن تورّطه السافر، وبعضهم ثمن إغماض عينيه عمّا دار ولم يحرّك ساكنا. ( 3 ) شهدتْ فترة تولّي "الرجل الحصيف" المسئوليات في الجهاز المُهم، خروج الكثير من العناصر الأجنبية المشبوهة، من البلاد. مِن بين هؤلاء، أجانب لاذوا بها وفي معيتهم ملفات سوداء يستريب منها الغرب، وتتوجّس منها الولاياتالمتحدة، وهي دولة تحاصر البلاد حصاراً اقتصادياً كاسحاً كافرا. قدّر الرّجل أنّ التخلص من مثل هؤلاء "المشبوهين"، لا ينبغي أن يكون إجراءاً مجانياً وبلا مقابل، بل من المناسب تجييره بما قد يحقق للبلاد مكاسباَ تخفف من غلواء الحصار الخانق عليها. بعد أشهرٍ من أحداث 11 سبتمبر 2001، في مدينة نيويورك، كتبتْ مجلة "فانيتي فير" الذائعة الصّيت، أن الولاياتالمتحدة أضاعتْ فرصة سنحتْ لها قبيل وقوع ذلك الهجوم المدمّر، حين بادر السودان لإبداء حسن النوايا باتاحة ما لديه من معلومات تتصل بالمشبوهين من "الإسلاميين" الذين استجاروا بالبلاد بحسبه ملاذا آمنا لأشخاصهم، ولكن ليس ل"مغامراتهم" المكلفة، ولا لنواياهم التي قد لا توافق مصالح البلاد. حمل تقرير "فانيتي فير" لوماً مفرطاً للإدارة الأمريكية لأنها أعطت ظهرها ل"رجل حصيف" قاد تلك المبادرة، ولو أنصتتْ ملياً لأمكن تجنب تلك الكارثة المُدمّرة التي وقعت في نيويورك سبتمبر 2001، ولكن عِمَى الألوان عند الكثيرين من مساعدي "بوش الإبن" آنذاك، جعلهم لا يتبينون نوايا ذلك "الرّجل الحصيف" الذي تولّى مهمّة إصلاح أحوال الأجهزة التي تجاوزتْ صلاحياتها، وكادتْ أن تورّط البلاد في مغامرات مهلكة، إن لم تورّطها بالفعل، بمثلِ مغامرتها الخاسرة لاغتيال ذلك الرئيس الزائر في دولة الجوار الشرقي. . ( 4 ) ولكن هل تنام أعينُ المغامرين؟ بالطبع لن يغفل "المغامرون" في دوائر القيادة عن مصالحهم، ولن يسهل عليهم الركون إلى إستراحات محاربين، وهم شاكّي أسلحتهم وأنيابهم متحفزة، يهيّأون أنفسهم لأدوارٍ حسبوا أنّ التاريخ أعدّها لهم، وأنّ الكلمة الخاتمة ستكتبها أقلامهم. تسلل "المغامرون" بتمهلٍ وأناة وحسنِ تخطيط، واستعادوا بعض نفوذ كانوا قد تنازلوا عنه بعد فشلهم الذريع قبل سنين قليلة، وكأنّ الأقدار عفتْ عمّا سلف. نظر "الرّجلُ الحصيف" حوله، حينَ رأتْ القيادة في البلاد تكليفه مستشاراً للقيادي الأول في البلاد، حَسبَ أنّ في المنصبَ الجديد، ترفيعاً ينطوي على تقديرٍ وتثمينٍ لمهمّةٍ أنجزها بحكمة، وأنّ الترفيع ليس "إبعاداً" عن المكان الذي حقق فيه إصلاحا مطلوباً ، وانجازا لافتاً. لكن سرعان ما تبيّن له بطلان اعتقاده، إذ انفتحتْ كوىً لتوسيع التفاوض مع مُمثلي الحركة الشعبية - وهم مفاوضون حذقة- برعاية من أصدقاء "الايقاد"، وكان ل"دول مؤثرة" دور فاعل في تحديد – ليس موضوعات التفاوض فحسب - بل أيضا من يتولى التفاوض حولها. توغّلوا في مَنْ يملك الصلاحيات. تخيّروا من يجرح ومن يعدل. اختاروا من يمكن أن "تلوى يده". أمسكوا بخناق مَن يمكن أن يتنازل عن ثوابته دونَ أن ترفّ له عين، ثم استقبلوا ذلك المنتجع الكيني الذي دخل تاريخ الاستقرار في البلاد وفي القارة الأفريقية. . ! باتَ جلياً أنّ بذل "الرّجل الحصيف" لفكّ الحصار عن بلاده، بمبادلة بضاعة ملفات "المشبوهين" اللائذين بالبلاد، لم تُثمر شيئا، إذ أنّ المطلوب هو الإبقاء على تلك العقوبات سيفاً مُسلطا لاستثماره إلى أقصى مدىً ممكن. إذ المرغوب أن يجري الإبقاء على ملف المغامرات الآثمة حياً لا يُطوى بثمنٍ بخس. الثمن المطلوب في نظر "القوى المؤثرة"، هو المرونة القصوى المطلوبة في التفاوض لحلّ نزاعات البلاد، بما يتوافق مع المصالح الخاصة بتلك "القوى الدولية المؤثرة". لم يكن "كانشتاينر" مساعد وزير الخارجية الأمريكي أوانذاك، ممن يودّهم صديقنا "الحصيف". أقحم الأمريكي أنفه في أكثر الملفات حساسية، وهو ملف تشكيل المفاوض الرسمي، إذ جرى- إثر تمرين إجرائي سريع- استبدال التشكيل وجرى ترفيع قيادة التفاوض، واستقامت الأمور في نظر "القوى المؤثرة" على مسالكها. بالمقابل وفيما بدا للمراقبين، لم يكن "الرّجلُ الحصيف"، الذي جاء لإصلاح حال ذلك الجهاز المُهم منتصف عقد التسعينات من القرن الماضي، من الراضين عن شكل ومضمون التفاوض الذي تسارعتْ وتيرته في كينيا بعد عام 2003، بين وفد البلاد الرسمي ووفد "الحركة الشعبية". في خواتيم التفاوض، برعاية تلك "القوى الدولية المؤثرة"، أدرك "الرّجل الحصيف" أنّهُ من غير الممكن له أن يتصالح مع ذلك الواقع الجديد، حيث مضت المفاوضات إلى أبعد من "نظامين في بلد واحد"، وأقرَّتْ "حقّ تقرير المصير"، وجوّزت الإستفتاء بأوضح صيغة وأكثر تفصيل. ( 5 ) قال "الرّجل الحصيف" بصريح العبارة وقد أزفتْ ساعة تنفيذ الإتفاق الشامل: "دخول القادمين الجُدد من بابِ التفاوض، إلى سُدة الحكم، وجلوسهم في قصر الرئاسة، يعني تلقائياً خروجي من الباب الآخر.." وحين فعلوا، التزم الرّجل بكلمته، فخرج من الباب الآخر بلا تردّد. بقيَ أميناً مع مسلماته، وفياً لرؤيته ، واحترمتْ القيادة رغبته. في المقابل عادت الوجوهُ التي أزاحها "الرّجل الحصيف" بعد المغامرات الفاشلة تلك، من مكامنها إلى واجهة الحكم من جديد، وباتتْ "القوى الدولية المؤثرة" في أكثر حالات الرّضا بمآلات الأمور في البلاد. وحين أفضى الإستفتاء التاريخي المُلتبس إلى قيام دولة جديدة في النصف الجنوبي من البلاد، تصوّر كثيرون أن يعود "الرّجل الحصيف" إلى موقعه السابق. ها هم القادمون الجدد ممن كانوا فاعلين في حكومة الوحدة الوطنية، قد خرجوا من ذات الباب الذي ولجوا عبره إلى القصر الرئاسي، وغادروا إلى عاصمة بلادهم الجديدة، ولكن وجد "الرجل الحصيف" الباب موارباً، وربّما موصداً بإحكام، ولم يُتح له موقعاً تنفيذياً يُناسب مقدراته، ولا تحمّلهُ "المغامرون" بعد تزايد نفوذهم، في موقعه الفكري غير المؤثر، فغادره غير آسف. ليستْ المسألة في إطارها العام محضَ مسألة شخصية، أو وجهاً لصراعٍ بين تيار وتيار، بل يكاد يوقن المراقبون، أنها مسألة تتصادم فيها قيمٌ وثوابتُ أخلاقية ودينية، قبل ان تكون سياسية. هاهو "الرّجل الحصيف" يقف في محطةٍ ما، منتظراً بلا فعالية، وهو الذي كان فاعلاً ومؤثراً منذ سنوات التغيير الأولى، فيما يتولى "المغامرون"- أولئك الذين أزاحهم هو بعونِ القيادة الأولى نفسها- مسئوليات وصلاحيات تتصل بمصائر البلاد وأقدارها. . ذهبت الحصافة إلى إجازة . . الخرطوم – سبتمبر 2012