السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    دبابيس ودالشريف    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دخول السودان – من كتاب "الجندي الأسكتلندي والإمبراطورية، 1854 – 1902م"

Entering Sudan - From the book: "The Scottish Soldier and Empire, 1854 – 190
إيدوارد سبيرس Edward M. Spiers
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد في فصل بعنوان "دخول السودان" في كتاب صدر في عام 2006م عن دار نشر جامعة أدنبرا، بعنوان "الجندي الأسكتلندي والإمبراطورية، 1854 – 1902م" للكاتب الأسكتلندي إيدوارد سبيريس والذي يعمل أستاذا للدراسات الاستراتيجية بجامعة ليدز بإنجلترا. ونشر المؤلف عددا كبيرا من المقالات والكتب منها "تاريخ الأسلحة الكيميائية والبيولوجية" و"أسلحة الدمار الشامل" وغيرها.
المترجم
_____ _______ ______ ______ ________
كان احتلال مصر، بصورة مؤقتة، يكفي للحفاظ على النظام والأمن فيها، ويؤمن قناة السويس. ولكنه كان يعني أيضا التصدي للأزمة التي وقعت في السودان وهو تحت حكم خديوي مصر، والذي كان يحكمه باسم الخلافة العثمانية. فعند ظهور محمد أحمد (المهدي المنتظر) وثورته من أجل إصلاح الدين والقضاء على الكفار حاول المصريون هزيمته باستخدام جيوش مديري الأقاليم. غير أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل الذريع، فأرسل الخديوي جيشا مكونا من 11000 فردا بقيادة العقيد المتقاعد من جيش الهند وليام هكس باشا. غير أن المهدي وجنوده قضوا على ذلك الجيش في 5/11/1883م في شيكان بالقرب من الأبيض، ولم ينج من جنود وضباط هكس إلا مئات قليلة. وبذا شكل المهدي تهديدا خطيرا لمدن أخرى منها الخرطوم، وربما لمصر أيضا. وذلك خطر لا تستطيع بريطانيا بالتأكيد تجاهله. وشاركت الكتائب الأسكتلندية في معركتين من المعارك الثلاثة التي أعقبت تلك المواجهة، فكسبت بذلك مزيدا من الاستحسان، وفي بعض الأحيان بعض العتاب والخلاف والجدال. وكان الوجود البارز لهؤلاء الجنود الأسكتلنديين نتيجة لمبادرات وزارية أثارت مناقشات عميقة بين الأحزاب البريطانية، وولدت صراعات حادة في أوساط "الأسكتلنديين الأحرار" حول أولويات وممارسات الامبريالية الليبرالية.
وقررت حكومة جلاديستون في البداية إخلاء كل الحاميات المتبقية في السودان والمنتشرة في كل أصقاعه المترامية الأطراف، ومعها الآلاف من المدنيين. وكانت تلك مهمة هائلة وعسيرة. وهنا تبنت صحيفة Pall Mall Gazette الواسعة النفوذ الدعوة الجماهيرية لاستدعاء الجنرال "الصيني" شارلس غردون للخرطوم. ولذا قام أربعة من الوزراء بمقابلة غردون في يوم 18/1/ 1884م وأقنعوه بالذهاب للخرطوم ودراسة الأحوال وكتابة تقرير عنها (وصل غردون إلى الخرطوم في 18/2/1884م. المترجم). ووافقت كل الأطراف السياسية الأسكتلندية من محافظين وليبراليين وغيرهم على ذلك القرار، وذلك لخبرة غردون السابقة في المنطقة، ولمعرفته الدقيقة بمناطقها المختلفة. وكتبت الصحف في أخبارها وتعليقاتها وأعمدتها بأدنبرا وغلاسكو ودنديي وغيرها من المدن الأسكتلندية مرحبة بعودة غردون للسودان، وذكرت قرائها بمآثره في خدمة بلاده في مختلف الأقطار الأجنبية، وبأنه شخصية تجد كل الاحترام في أسكوتلندا لأنه "جندي مسيحي" و"رجل موثوق" و"صاحب طاقة غير عادية لا تنضب". ورافق غردون في رحلته للسودان فرانك بوور محرر "التايمز"، والذي ظل يرسل تقاريره لصحيفته حتى تم قطع خط التلغراف من الخرطوم في يوم 12 مارس، فلجأ إلى تهريب تقاريره بالبر من المدينة المحاصرة.
ورغم انقطاع الأخبار الواردة من الخرطوم بالأسابيع الطويلة، فقد ظلت الصحافة الأسكتلندية، مثلها مثل الصحافة الإنجليزية، منبهرة ومسحورة بالجاذبية الدينية التي حظيت بها حركة محمد أحمد المهدي، وطفقوا يتناولون منشوراته، ويكتبون عن مساعده في شرق البلاد عثمان دقنة، وعن خطابه للأدميرال سير وليام هويت في سواكن. وكان عثمان دقنة قد عبر للأدميرال في تلك الرسالة عن رفض المهدي للرشاوى، وعن أنه لن يقوم أيضا بترك الكفار سادرين في غيهم وكفرهم، وأن المهدي ليس له غير السيف للكفار، وبه سيقوم بالقضاء عليهم قضاءً مبرما. وأتفق الصحفيون في إنجلترا واسكتلندا من الليبراليين والمحافظين على تصنيف المهدي كمتعصب ديني، وأن أتباعه أكثر ولعا بالحرب بمئات المرات من المصريين.
وكان الوضع بشرق السودان، خاصة سواكن، مصدر قلق للبريطانيين بسبب أهمية ذلك الميناء وبقية الموانئ على شواطئ البحر الأحمر، خاصة بعد مقتل العشرات من جنود حامية سواكن. وكتبت الصحافة البريطانية معبرة عن "الاشفاق على النساء والأطفال في سواكن وهم يبكون وينتحبون". وأضطر رئيس الوزراء جلاديستون لإرسال مدد من طوكر لإنقاذ حامية سواكن. ورحبت الصحف الأسكتلندية (مثل Glasgow News) بذلك الاعتراف المتأخر للحكومة البريطانية بمسئوليتها عقب فضيحتها وإذلالها في سواكن، وبمشاركة كثير من الجنود الأسكتلنديين في معارك الشرق ضد عثمان دقنة.
وواصلت الصحافة الأسكتلندية حملتها لإنقاذ غردون، خاصة وأن جنود تلك الحملة كان بها عدد كبير من الأسكتلنديين. ولجأ جلاديستون إلى التأخير والتسويف والتعتيم في إرسال حملة إنقاذ غردون. وحاول تطمين المناصرين لإرسال حملة انقاذ لغردون بأن الرجل بخير في الخرطوم، وبأنه لم يطلب من أحد أن يرسل حملة لإنقاذه من المهدي، بل ووصف السودانيين بأنهم "شعب يسعى لنيل حريته المستحقة". ولكن بعد أن استولى المهدويون على بربر في شهر مايو، وبعد أن أطبق المهدي وجنوده حصارهم على الخرطوم، ورفض غردون لمغادرة الخرطوم، رضخ جلاديستون أخيرا ووافق على إرسال حملة لإنقاذ غردون.
وتقرر أن تقوم الحملة والتي كانت تحت قيادة اللواء قارنت وولسلي بالوصول لغردون بالبواخر عبر النيل، وليس عن سلك طريق الصحراء من سواكن إلى بربر، وهو الطريق الأقصر مسافة، وذلك للنجاح الذي كان قد حققه في رحلة سابقة في النهر الأحمر بالصين وفيتنام في 1870م. وبالفعل قام اللواء وولسلي بتجهيز 800 مركب لتحمل جنوده (12 فردا في كل مركب) لمسافة 1650 ميلا من القاهرة إلى الخرطوم. وطلب اللواء مساعدة 386 من البحارة الكنديين (يطلق عليهم اسم فواجيرز)، فوافقت الحكومة الكندية على اشتراكهم شريطة أن يأتوا كمتطوعين، وأن تتولى الحكومة البريطانية دفع مرتباتهم. وجلب اللواء وولسلي أيضا 300 من رجال الكرومن Kroomen من ليبيريا بغرب أفريقيا لحمل الأمتعة والعتاد عبر الشلالات. وخطط وولسلي لنقل جنوده بالقطار مسافة 229 ميلا إلى أسيوط، ومنها بالبواخر وبالبوارج إلى وادي حلفا. ثم قرر أن تسحب المراكب عير الشلال الثاني بالقرب من صرص، وتبحر إلى كورتي في رفقة قوات محمولة وتنقل على الشاطئين. وفيما بعد قرر اللواء أن يبعث برتل من الجنود على ظهور الجمال عبر صحراء بيوضة إلى المتمة لتلتقي ببواخر غردون، بينما يقوم رتل آخر بالسير بالبواخر على النيل ليتلقي بالرتل الآخر في المتمة.
وعلى الرغم من أن بعض الصحف الأسكتلندية بعثت ببعض المراسلين الحربيين ليرافقوا تلك الحملة، إلا أن أحد مراسلي الصحيفة الأسكتلندية Glasgow News عبر عن عدم رضائه من عدد الصحافيين المرافقين لتلك الحملة، والذي انعكس بدوره عن قلة الأخبار الواردة من غردون المحاصر بالخرطوم، وعن عدم حدوث اشتباكات حتى نهاية ذلك العام. وكانت رسالة غردون السرية الأخيرة والمؤرخة يوم 13/12/ 1884م، والتي نشرت في لندن يوم 2/1/1885م قد أكدت أن الخرطوم "بخير". وربما كان غردون يقصد بذلك خداع من يعترض تلك الرسالة من "الأعداء" كتحذير لجنود حملة الإنقاذ ليعجلوا بالقدوم للخرطوم! وزاد الأمر تعقيدا مجابهة رتلي حملة الإنقاذ لمقاومة عنيفة من مناصري المهدي في معركتي أبو طليح/ كليه Abu Klea (16 – 18 /1/ 1885م) وأبو كرو Abu Kru، وكان النصر فيهما حليف جنود الحملة الإنقاذية رغم تكبدها خسائر فادحة. وخسر اثنان من المراسلين الحربيين أرواحهما في المعركتين ولكن بعد أن أفلحا في إرسال تقريرين عن سير الحملة.
وأحتفظ بعض الجنود الأسكتلنديين بمذكرات وبعثوا لأهاليهم برسائل عن أحداث تلك الحملة، تصف المصاعب والمتاعب التي لاقتهم في غضون أيامها. غير أنه لم تجد إلا قلة من تلك الرسائل والمذكرات طريقها للنشر في الصحف، ربما بسبب تأخير وصولها، أو لأن مضمونها كان يفتقد لقصص الوطنية والبسالة أمام الأعداء التي كانت الصحف تطمع في نشرها. وكان أحد هؤلاء الجنود قد كتب سلسلة من الخطابات الصريحة (وهي محفوظة الآن في أرشيف أحد أقسام الجيش) عن تلك الحملة، وأورد في إحدى تلك الرسائل أن الجنود كانوا قد غادروا القاهرة وهم في "حالة مزرية"، إذ كان بعضهم في حال سكر شديد لا يستطيع الواحد منهم معه الوقوف على قدميه، وطفق بعضهم يسبون المارة بأقذع السباب مما أضطر قائدهم لحبسهم. ورغم كل تلك الأحداث فقد قضى ذلك الفوج أيام رحلته إلى وادي حلفا الاثني عشر في يسر وراحة رغم أن طعامهم في غضونها لم يتعد الخبز الجاف واللحم المحفوظ. ووصف بعضهم المناظر الغريبة عليهم التي أعجبوا بها، والأثار في جزيرة فيلة وطيبة والأقصر، وزيارة قائدهم لهم من أجل رفع الروح المعنوية، وكيف أن الجنود كانوا يمزحون مع من يجدونه من الأهالي على شاطئ النيل. وغدت المسيرة الطويلة جنوبا، والعمل الشاق في المراكب وجر حمولتها الثقيلة تزداد صعوبة مع مرور الأيام. وسجل أحد الجنود في مذكراته عن الإرهاق الشديد الذي أصابه من العمل وعن جرح وتشقق يديه وقدميه، وخوضه في المياه إلى وسطه في غالب ساعات النهار عند عبور مناطق صخرية في منتصف النيل. ولم تسجل بحملة إنقاذ غردون إلا حالات غرق قليلة (كان من ضحاياها الرائد نيكولاس بروفي) مما يدل على جودة صناعة المراكب التي استخدمها البريطانيون. ولم يحدث أي وباء في أوساط الجنود غير تفشي القمل وبعض حالات داء الأسقربوط (نقص فيتامين ج).
ولزيادة حماسة الجند، أمر قائد الحملة اللواء وولسلي بمنح رجال المركب الذي يصل أولا إلى الدبة مبلغ مائة جنيه إسترليني. ولم يحالف الحظ الجنود الأسكتلنديين في ذلك السباق، بل فاز فيه الإيرلنديون. واستمر التنافس بين الجنود الأسكتلنديين والإيرلنديين في المسيرة عبر الصحراء، ولم ينته ذلك التنافس حتى بلغتهما أنباء متضاربة عن السقوط "المفاجئ" و"غير المتوقع" للخرطوم يوم 26/1/ 1885م.
وسادت أسكوتلندا – مثلها مثل أنحاء بريطانيا الأخرى – مشاعر الغم والحزن العميق لمقتل غردون، وتبارى الكتاب والشعراء والصحافيون في رثاء الرجل والكتابة عن ذلك "النبأ الكارثي" و"الضربة الموجعة لبريطانيا" و"الحزن الذي غمر كل بريطاني" و"سقوط البطل". وسجل أكثر من كتاب أسكتلندي عن الرمز الديني الذي كان يمثله غردون، وعن أنه "جندي بروتستانتي عظيم" و"جندي مسيحي شجاع" و"شهيد مسيحي". ووجد الليبراليون الأسكتلنديون العذر للحكومة في تأخيرها لإنقاذ غردون بدعوى أن التوقيت لا أهمية له، فالخيانة قد تحدث في أي وقت من الأوقات.
وفي وسط كل مشاعر الحزن تلك، صار لاسم غردون (خاصة في مقاطعة أبردين) جاذبية خاصة، وصار اسما شائعا للمواليد في تلك الأيام رغم مشاعر المذلة والمهانة التي كان يشعر بها الجميع من مقتله على أيدي "الدراويش". وطالب محرر Glasgow News بالانتقام من قتلة غردون وتحطيم قوتهم وإعادة احتلال الخرطوم. غير أن بعض الليبراليين الأسكتلنديين لم يكن متحمسا للقيام بأي عمليات عسكرية في السودان لاحتلال أرض "قفر عديمة المياه وقليلة الأشجار". ولكن كان هنالك كثير من الأسكتلنديين ممن يؤيدون إرسال اللواء قارنت وولسلي لتحطيم قوات المهدية، وأيضا إرسال حملة أخرى لشرق السودان (دون إرسال جنود أسكتلنديين) تحت قيادة جراهام.
وبغض النظر عن رأيهم في السياسة، فقد غمر الأسكتلنديون الفرح الشديد بانتصار وحيد ل "رتل النيل" على جنود المهدية في معركة كربيكان (يوم 10/2/1885م). وعبرت صحيفة في دنديي عن الحاجة لمثل تلك "الأنباء السعيدة" بعد سقوط الخرطوم المذل. وفي تلك المعركة استخدم الجيش البريطاني، ولأول مرة، سلاح الهجانة مستعملا، ولأول مرة كذلك، بنادق ريمنتقون في قتل كل جنود المهدي، بينما خسر ستين من جنوده وضابط واحد.
ولا ريب أن الصحافة الأسكتلندية كانت قد بالغت كثيرا في تمجيد الانتصار في معركة كربيكان بعد نبأ مقتل غردون وسقوط الخرطوم، وضخمت من أهمية تلك المعركة والتي وصفتها وصفا "احتفاليا" وردت فيه سطور عن قتال الجنود (الأسكتلنديين) لأعدائهم وهم في تنوراتهم التقليدية (kilts)، بينما كان صفير الطلقات النارية يختلط بموسيقى القرب.
وسرعان ما تبخر العزاء الذي وجده الأسكتلنديون في انتصار كربيكان بعد أن سحبت "رتل النيل" بعد انسحاب "رتل الصحراء". فقد قررت الحكومة البريطانية الليبرالية الانسحاب من السودان، آخذة في الاعتبار تجربة التدخل الروسي في أفغانستان في ذلك الوقت.
ورغم وفاة المهدي (ربما بسبب مرض التايفوس) في يونيو من عام 1885م، إلا أن من خلفه ظل يشكل تهديدا للجيش المصري في سواكن ولمصر أيضا. ولما كان الجيش المصري بحاجة ماسة للتدريب، لذا كان من اللازم أن يتدخل الجيش البريطاني. وظلت بعض الفرق البريطانية موجودة لعشرة أشهر في كورسكو بشمال السودان بعد الانسحاب (الرسمي) لحملة الإنقاذ. ولم يجد جنود تلك الفرقة شيئا تفعله في تلك الشهور سوى بناء مساكن من الطين اللبن، وممارسة الرياضة، وخلق علاقات ودية مع الأهالي، والذين كانوا يطربون لموسيقى القرب الأسكتلندية. ولم تغادر تلك الفرقة كورسكو إلا في أكتوبر 1885م لقلعة الكشح، والتي تبعد نحو 87 ميلا شمال وادي حلفا.
وفي بدايات شهر ديسمبر من عام 1885م أرسل خليفة المهدي نحو 6000 رجلا لمهاجمة تلك القلعة، غير أن الفرقة الأسكتلندية، وبعون من الفرقة السودانية معها، صدت ذلك الهجوم بنجاح نوهت به الصحف الأسكتلندية. غير أن ذلك الانتصار لم يثر ضجة إعلامية كبيرة بسبب هجر خليفة المهدي لخططه لغزو مصر.
ومن ناحية سياسية بحتة يعد الكثيرون أن فشل حملة إنقاذ غردون قد أثار بلا ريب الكثير من المشاعر في اسكتلندا (وجنوب بريطانيا أيضا). فقد تسبب ذلك الفشل في إضعاف الحكومة. ورغم غضب الأسكتلنديون المحافظون مما جرى من سقوط الخرطوم ومقتل غردون إلا أنهم وجدوا لكل ذلك احتمالات صلات مربحة بين "الإمبريالية" بصورة عامة وبين السياسة المحلية. فقد كانت "الوحدة الامبريالية" والوصول للأسواق الخارجية مصدر رزق وفير لرجال الأعمال الأسكتلنديين (خاصة في غلاسكو) من قديم. وكانت تلك "الوحدة الإمبريالية" هي مصدر رفضهم للدعوة لاستقلال اسكتلندا عن باقي الإمبراطورية.
لقد أثبتت حملة إنقاذ غردون تلك أن "شغف ومشاعر الإمبريالية imperialist passions " بمقدورها أن ترن في أرجاء اسكتلندا، وأثبتت أيضا أن بسالة الجنود الأسكتلنديين لا تزال تجتذب الكثير من الاهتمام، وتثير النقاش في دوائر الأحزاب السياسية في اسكتلندا حول الدور الإمبريالي الذي لعبه الأسكتلنديون في ذلك المجال.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.