أقرب إلى القلب: (1) كنتُ من بين أصدقاء فريق "الهلال" في سبعينات القرن الماضي، فشهدنا ذلك الفتى الأمدرماني، يذرع الملاعب طولا وعرضاً، ينطلق وبعد أن يقرأ أحوالها، فيطيح بمحابس الدفاعات عند أرض خصومه، ليدلف رمحاً كاسحاً فيسجل هدفاً بين عراضتين ذاهلتين، فتهتز الجماهير طرباً وإعجاباً. كان يرسل بصره إلى أبعد مما عند الخصم في الساحات الخضراء من مكامن ومن مطبات، فيعرف متى يخترق ببدنه الرياضي، ومتى يهادن بقدميه الساحرتين، تلك المستديرة المخادعة، فلا تفارقه إلا إلى المرمى هدفاً وثيقا. علي قاقارين. . . (2) هل أكتب لك عزيزي القاريء، عن نجم في الرياضة في السودان، والسودان هو في إقليمه أول من ابتدر وأسس في خمسينات القرن الماضي، ركائز منظومة الاتحاد الأفريقي لكرة القدم. كان دكتور حليم ود. شداد هم نجوم القيادة الأبرز في ساحات الكرة الأفريقية لسنوات طوال. أكتب لك عزيزي القاريء، وقد شهدنا بأمهات عيوننا، طرفاً من ذلك الزمان الذي سخا بإبداعاته شرقا وغرباً، برغم سحابات الحرب الباردة الثقال، فكان لزاماً على الرياضة في سنوات الانفعالات السياسية، أن تكون أداة نافعة لحراك يسدّ الفجوات ويرمّم الفتوق. عبر ذلك الحراك يتحقق التآخي، وتترسّخ قيّم التواصل بين شعوبٍ، فرّقت بينها اختلالات التعاون بين البلدان، ومشاغبات الحرب الباردة وتداعيات أحوالها المضطربة. لعب لسودان المستقل دوره المرغوب فور استقلاله، ليكون مشعلاً للشعوب الأفريقية المتطلعة لتحقيق ذاتها، ونيل استقلالها وإثبات سهمها في الساحات الدولية. في تلك السنوات الأولى، شهد السودانيون في ملاعبهم على تواضعها، رموزاً عالمية شامخة في كرة القدم. رأى السودانيون المجري "بوشكاش"، ساحر الكرة يقاتل بقدميه الساحرتين في ميدان دار الرياضة الترابي بأم درمان. في السبعينات من القرن الماضي، زار الخرطوم أيقونة الرياضة وأفضل لاعب كرة عرفه العالم: "بيليه". عرفنا "استاروستا" فقيه التدريب الكروي القادم من شرق أوروبا، على ما أذكر، لا يبخل بمقدراته ليشي الكرة السودانية بلون أوروبي، مازج فنونها بالقوة التي عرفتها الكرة الأفريقية، فكانت "فوتبول" السودان هجيناً مُميزاً، عرفت تفرده فرق القارة كلها . . (3) لو نظرت في قوانين السلك الدبلوماسي وما تواضع عليها الساسة والدبلوماسيون في أعقاب الحرب العالمية الثانية من لوائح منظمة، فإن تلك القوانين واللوائح، قد عالجت بنظر أشمل ووضعت أسساً لعلاقات بين البلدان والدول، جلها يقف على الجانب "الرسمي" في هذه العلاقات. لم يكن في القوانين تلك، من إشارات لدبلوماسية إضافية، يمكن أن تنشأ بين الشعوب والبلدان، بعيداً عن العلاقات الدبلوماسية الرسمية. ستجد قوانين الدبلوماسية الملزمة دولياً، تحجر على الدبلوماسي الانخراط في النشاط التجاري أو الاقتصادي مما لا يتسق ونبل دوره في تمثيل بلاده عند الآخرين. لكن أفلح موهوبون في تاريخ الممارسة الدبلوماسية، لكسر ذلك الجدار الذي يفصل بين الرسمي المقيد بالقوانين واللوائح، والشعبي المنفتح بلا قيود على الآخر المختلف. الدبلوماسيون والسفراء الشعراء منهم، عبروا بإبداعهم لإثبات جدارة الشعر في الالتقاء بالدبلوماسية ونبل أهدافها، عرفنا الشاعر السفير الفينزويلي "بابلو نيرودا"، مثلما عرفنا السفير المكسيكي "انطونيو باز". . وأيضا نزار قباني. وفي السودان عرفنا جلّ سفرائه شعراء وعلى قدر كبير من التميز والإبداع الحق في المجالين الدبلوماسي والإبداعي. (4) في مجال الرياضة وكرة القدم تحديدأ، لم تعرف الملاعب دبلوماسياً رياضياً، مارس بالفعل لا بالقول، ريادة في الدبلوماسية الرياضية، سوى "علي قاقارين"! حين بعثت به الخارجية السودانية دبلوماسياً ليعمل في سفارة السودان في ساحل العاج، كانت شهرته الرياضية قد طبقت الأفاق وسبقته إلى الناس هناك. تحيّرت وزارة الخارجية السودانية في سنوات السبعينات تلك، في أن ترى في ممارسة أحد دبلوماسييها النابهين: "علي قاقارين" رياضة كرة القدم في ساحل العاج -هواية أو احترافاً-مما يمكن أن تجيزه لوائحها، أو تسنده القوانين واللوائح الدبلوماسية التقليدية. . وضع ملف "علي قاقارين" أمام وزير الخارجية آنذاك، ليبت في امكانية أن "يلعب" "علي قاقارين" ويمارس هوايته في ساحل العاج، وهم من طلبوه هناك قبل أن يطلبهم هو. ليس في اللوائح إلا ما يحجر على الدبلوماسي العمل التجاري وأي عمل يحقق له كسباً مادياً. فكان ذلك مدخل وزارة الخارجية في السماح ل"علي قاقارين" استثناءاً ليمارس هوايته، مع ضرورة النأي بنفسه عن أي مكسب تجاري أو مالي محتمل. في تلكم السنوات، كان الحديث عن الدبلوماسية الشعبية، نوعا من الهرطقة الأكاديمية، لا يفسح لها مكاناً وفق اللوائح التي تنظم العمل الدبلوماسي بين الدول. (5) لقد قدم صديقنا "علي قاقارين"، والذي كان أحد أبطال السودان الكبار الذين حققوا للسودان بطولة الأمم الأفريقية في كرة القدم في عام 1970، فتحاً لدبلوماسية فاعلة أسهم عبرها برفع اسم بلاده السودان في طبق من ذهب في الملاعب الخضراء في ساحل العاج، فعرف الناس السودان. قدم الرجل تعريفاً بمكان السودان في الذاكرة الأفريقية، وقد كان مثلاً اعتمده المستعمر الكولونيالي، ومرجعاً يعتد به، قبل منح الكثير من البلدان الأفريقية استقلالها أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي. عرف الناس هناك، دورا متفرداً للسودان بعمقه العربي والأفريقي، كما عرفوا ريادته في تأسيس أول اتحادٍ لكرة القدم الأفريقية. (6) لعلي لن أفرغ من كتابتي هنا، إمّا اشرت إلى ذلك البرنامج الذكي الذي أنجزته رئاسة الجمهورية في التواصل والاحتفاء بالرموز الفاعلة في القطاعات الإبداعية المؤثرة، في الساحات السودانية، خلال شهر رمضان الكريم. كان حظ الرياضة والدبلوماسية الفاعلة، أن يكون "علي قاقارين" هو نجم ذلك البرنامج، وخاتمة المكرمين في أواخر الشهر الكريم. لقد كنت أتوقع أن يفسح معدوا ذلك البرنامج مساحة لسفير من زملاء ورفاق علي في مهامه الدبلوماسية أن يقول كلمة وفاء لرجل كان نجماً ومبادراً في دبلوماسية وزارة الخارجية، غير أن ذلك لا يقدح من حسن الترتيب وهدف الوفاء لصديقنا "علي قاقارين"، فكفانا "ود الشيخ"، الرياضي والمعلم والبرلماني حين أشار إلى ذلك الترابط بين الدبلوماسية والرياضة. . لقد لمستْ تلك المبادرة مشاعر عارمة من حسن الوفاء لمن قدم وأجزل من عطائه الشخصي، لرفعة بلاده في الساحات العربية والأفريقية، سفيراً ورياضياً فذا، ومثلاً غير مسبوق في فعالية الرياضة وسهمها في ترسيخ دبلوماسية مبتكرة، لم تفطن إليها قوانين ولوائح العمل الدبلوماسي منذ صياغتها واعتمادها في ستينات القرن الماضي. لقد خنقت العبرات صديقنا "علي قاقارين" لمّا أحاطت به عبارات التقريظ ونبل المشاعر الصادقة، من جميع من اعتلى المنصة يحدثون عنه، فأشار في كلمته المؤثرة، إلى أن التكريم الذي ناله هو تكريم لكل أبناء جيله الذين رافقوا بذله وعطاءه. لن أختم حديثي قبل أن أشير إلى السيدة "تهاني محمد سعيد"، تلك المرأة السودانية بكل شموخها ووثوق خطوها، فقد كانت الزوجة والسند، وكانت الرهان على نجاح دبلوماسية صديقنا د.حيدر حسن حاج الصديق: "علي قاقارين". . +++++ الخرطوم- يوليو- 2015 [email protected]