يعتبر العاملون بالسلك الشرطي ، بأنهم من أكثر قطاعات المجتمع التي تتولى مهاماً جساماً مشبعة بالمخاطر ، والبلاوي ، والمجازفات الحياتية المسماة تأدباً بالتضحيات الوطنية ... فرجال الشرطة السودانية ملزمون بموجب القانون ، بأن يكونوا في الخدمة الشرطية اليومية على مدى الأربعٍ والعشرين ساعة ، حيث لم يشر القانون إلى أي استثناءات واضحة ، تصلح سبباً حتى لأداء الفرائض ، والسنن والنوافل الليلية .. هم ملزمون كذلك بالهندمة والشياكة في غير لين ، وبالسير في الأماكن العامة بكبرياء وقوة وعنفٍ ، يخيف المجرمين ، ويبعث الطمأنينة في نفوس الآخرين ، وفوق كل ذلك فكواهلهم دائماً مثقلةٌ ، بأطنان من الواجبات المهنية المضنية .. هؤلاء الرجال الأشاوس ملزمون بالمحافظة على أمن الوطن والمواطن ، وسلامة الأنفس ، والأموال والأعراض ، ومنع الجريمة وكشف ما يقع منها ، وترسيخ سيادة حكم القانون ، والحفاظ على الآداب والأخلاق الفاضلة ، والنظام العام ، ومباشرة واتخاذ الاجراءات والتدابير لحماية الممتلكات والمرافق العامة ، والمنشآت الخاصة ، وتنفيذ الأحكام القضائية وتنفيذ القرارات الصادرة من السلطات المختصة ، مع المحافظة على المال الهامل والمتروك والمستولى عليه ... رجال الشرطة ملزمون بتقديم كل الخدمات الضرورية للمواطن ، في مجالات استخراج الوثائق الثبوتية ابتداءاً من شهادات الميلاد ، وانتهاءاً بشهادات الوفيات ، وهذا غير ضبط ومراقبة الأجانب ، وتنظيم المرور واجراءات تراخيص الحديد الحي ، واجازة رخص القيادة ، واطفاء الحرائق ودرء الكوارث والفيضانات والسيول المدمرة ، ومكافحة الارهاب والتهريب والمخدرات ، والجرائم العابرة للحدود ، وحماية الحدود السودانية من التغولات الأجنبية ، وحفظ واصلاح الجانحين والمجرمين ، ودعم الاقتصاد الوطني وحفظ الثروة القومية من النبات والحيوان والجماد ، وعلاج المرضى والجرحي وتوليد النساء الحُمَّل ( كمان ) . مع كل ذلك هم حضور لعلاج المشاكل والاشتباكات القبلية ، وفض النزاعات ،واطفاء نيران الحروب الداخلية التي شكل رجال الشرطة – ولا زالوا - غالبية شهدائها الكرام . بالرغم من حميَّات هذه الواجبات الثقيلة ، والاختصاصات المهيبة ، والالتزامات الرهيبة المصحوبة بالتضحيات الجسام ، لا يتحرج العوام والرجرجة والدهماء ، من وسم هؤلاء الرجال بكل عبارات السخرية ، والاستهانة والتهم الجزافية ، ولكنهم كما الصالحين الأولين ، يتحملون أذى الطريق وجور الرفيق وهمزات اللمَّازين بكل نبل وصبر . بالطبع فاننا نتحدث عن أناس يؤدون رسالتهم بكل تجرد وهمة ، لدرجة المجازفة بحياتهم المعرضة دوماً لكل طامة ولامة ، خلال وبعد هذه الرحلة المضنية بما فيها التقاعد بالمعاش ، والذي يعتبر مرحلة من مراحل العذاب في السودان ، لطبيعة ضعف وفقر مؤسسات الرعاية الاجتماعية والصحية ، المنوط بها رعاية شرائح المتقاعدين . يتقاعد بعض الضباط أو الشرطيين بصورة سلسة وهم مكتنزون بالآمال القلقة ، في انتظار جنة المعاشات وقطوفها الدانية من فوائد ما بعد الخدمة ، ويتقاعد بعضهم عبر موت الفجاءة الوظيفية ، دون أن يمهلهم قابضوا الأرواح الوظيفية برهةً ولو من أجل الاستغفار المهني ، ولك أن تتخيل تداعيات الصدمات والجلطات التي تكدر ما تبقى من حياتهم . بالطبع فان لهؤلاء الرجال أسر ، ولهم زوجات ذقن وتقاسمن معهم مرائر وحناظل العمل الشرطي ، وتنقلن معهم أينما يمموا شطور مرابط الشرطة ، ولهم أبناء وبنات ولدوا وتربوا وعاشوا في كنف الشرطة داخل ( قشلاقاتها) ، وغاباتها الأسمنتية ، وتشربوا آدابها وأخلاقياتها الكريمة ، ودرسوا في روضاتها ومدارسها ، فأصبحوا جزءاً من كلها ، وما انفكوا ينشدون الرعاية ، والعلاج والسكن والعيش الكريم ... هؤلاء الرجال يرغبون في ممارسة حياتهم التقاعدية بكرامة وستر ، ولا يرغبون في التسول المهين ، لقضاء حوائجهم من أكل وشرب وعلاج وتعليم أبناء ، ولا يسعدهم أن تؤول مصائر أبنائهم الى قارعات الطرق ، والشوارع المظلمة بأفعالها وأقوالها .. هل يا ترى قطف المتقاعدون ثمار بذلهم ، وعطائهم وتفانيهم في خدمة الوطن ومواطنيه ؟ هل وفرت الجهات المختصة الرعاية الطبية اللازمة لهم ولأسرهم عبر مشفاهم الذي بنوه وشيدوه بأموالهم أو غيره !؟ .. هل لدى وزارة الداخلية معلومات كافية ، عن الأحوال المعيشية المتدنية للمتقاعدين وأسر المتوفين منهم ؟ هل هناك دراسات وبحوث ورؤى ، تنير الطريق أمام المتقاعدين حلَّاً لمشاكلهم ، وقضاياهم المعيشية والصحية والتعليمية والتشغيلية الملحة !؟ الكثيرون يسألون عن طبيعة العلاقة التي تربطهم باداراة الخدمات الاجتماعية ، وفوائد ما بعد الخدمة ، والخدمات الصحية ، وصندوق التأمين الاجتماعي وهيئة الجمارك وشرطة الولايات ؟ وهل هي علاقة قانونية تثمر حقوقاً بعدية ، أم مجرد علاقة دراويش بمُدَّاح!! وهل لدى هذه الادارات قواعد بيانات علمية وافية عن هؤلاء المتقاعدين ، توضح عناوينهم وأماكن سكنهم ، وظروفهم الصحية ، وتفاصيل حياتهم المعيشية ، ووسائل كسبهم الجديدة ، أم أنَّ الأمر غير ذي جدوى ؟ .. أسئلة كثيرة نبثها هنا ليس بحثاً عن إجابة ، وإنما لأغراض التذكير ، والدفع ، والحث لاكمال النواقص ، وللفت نظر كل الزملاء العاملين الآن ، الذين نذكِّرهم فقط بضرورة مساندة أنفسهم _ كمتقاعدين قادمين - عبر العمل على استصدار تشريعات قانونية وادارية تضمن لهم رعاية اجتماعية وصحية ومعيشية وتعليمية لاحقة، لهم ولأسرهم ، توازي العطاء الذي قدموهوا في حياتهم العملية ، وذلك من قبل أن يدركهم أجل المعاش وهم غافلون . [email protected]