الآن وقد انقضى عيد الأضحى المبارك بكل بركاته وبما أشاعه من محبة وفرحة بين كل الفئات والطبقات بلا فوارق أو تمايزات، يلزمني أولاً الترحم على مئات الشهداء من الحجيج، من قضوا منهم بسبب الرافعة ومن راحوا بسبب التدافع بمشعر منى، مع خالص تمنياتنا للمصابين بعاجل الشفاء، ثم لنتساءل من بعد هل من أمل في أن يستمر هذا الحال ليظلل مسار حياتنا الحاضر والقادم بكل ما هو مفرح وجديد وسعيد.. الإجابة بنعم تبدو عصية وعسيرة الآن ولكنها ليست مستحيلة إذا ما صفت النفوس وسمت العقول وترفّعت عن الصغائر وتخلّت عن الأنانية وحب الذات والعصبية وشح النفس والأثرة، وانفتحت الأذهان على الآخر وسادت روح الحوار الجاد لا «المحاورة» غير المجدية بين المختلفين حول ما يشكل من قضايا وتسامى الكل فوق عصبة القبيلة وعصابة الحزب، وجعلوا الوطن في حدقات العيون وفوق الهامات، وذلك لن يتأتى بالطبع إلا باعتماد النهج الديمقراطي حاكماً للحياة السياسية وضابطاً لها، وإعمال منهج المحاسبية والشفافية زاجراً لشهوات النفوس المجبولة على حب السلطة والتسلط وكنز الأموال واحتكار الثروة، وهذا باب لن نلجه ما لم نضع رجلنا على أولى العتبات المفضية إليه، وهي احترام مكوناتنا الإثنية والاعتراف بثقافاتنا المتعددة ودياناتنا المتباينة وتقاسم السلطة والثروة بالعدل والسوية حتى يشعر كل فرد في هذا الوطن بانتماء حقيقي له. وعلى ذكر مفردة (حوار) فإن أخشى ما نخشاه على الحوار المزمع أن تجري وقائعه على ذاك النهج الذي كان الزعيم المصري الكبير سعد زغلول قد سخر منه وأطلق عليه عبارته التي جرت مثلاً «جورج الخامس يفاوض جورج الخامس»، حين وجد أن الإنجليز وكان ملكهم حينها هو جورج الخامس، قد أوكلوا من عينوه هم من المصريين على رأس الوزارة في مصر لمفاوضة المصريين، وبدا الأمر وكأن الإنجليز يريدون مفاوضة أنفسهم وليس المصريين ومن يمثلونهم.. أما الحوار الوطني الجاد والمسؤول فذلك حوار (غير)، له أسسه الواضحة وأطرافه متفقة على القضايا موضوع الحوار ونية الطرفين منعقدة فعلاً للبحث الجدي عن حلول ومخارج عملية للمشكلات والقضايا المتحاور حولها، وبهذه البدهية فإن الأهم من الحوار نفسه هو ترتيبات ومترتبات ما قبله بتهيئة البيئة الصحية والصحيحة اللازمة لانعقاده في أجواء معافاة، ويكفي فقط الاعتراف بحاجة البلاد لحوار وطني شامل والذي هو بالضرورة اعتراف بما تنوء به البلاد من أزمات ومشكلات مالها من حل غير الحوار، يكفي هذا الاعتراف دليلاً بأن الحوار المأمول هو ذاك الذي يجعل حال البلاد من بعده ليس كحالها من قبله. [email protected]