سيظل التاريخ الانساني يذكر الدكتور حسن الترابي لعشرات السنوات القادمات وان شئت قل بل المئات من السنوات فالأنبياء والعظماء والمفكرين والائمة لا تنتهي سيرتهم بمغادرة ارواحهم لأجسادهم بل تبقي سيرتهم خالدة فمن منا لا يذكر الامام مالك والامام ابو حنيفة والامام عبدالقادر الجيلاني والإمام جمال الدين الافغاني والإمام حسن البنا . وسيظل الغرس الذي غرسه الدكتور حسن الترابي من افكار وتجارب يصعب نسيانه او اقتلاعه من ذاكرة الامة قد يختلف الناس ويتفقون في اطروحاته الفكرية وتجاربه في العمل السياسي ولكن تظل الحقيقة المجردة انك تقف امام شخصية سودانية من السهولة ان تقول انها من اعظم ما انجبت ارض السودان في التاريخ الحديث ويمكن جدلاً وادعاءاً ان تقول انه من اعظم الشخصيات السودانية في تاريخ السودان القديم والحديث ، و بحكم طبيعة التواضع عندنا اهل السودان وبحكم اننا لا نجيد التسويق والتبشير بقيمة أدبائنا وعظمائنا ومفكرينا لم اقل ان الدكتور الترابي يعد من العظماء في تاريخ الامة العربية والإسلامية حتي لا اقع في دائرة الادعاء الذي يُصعب الدفاع عنه طويلاً ولذلك حصرت عظمته وسموه في السودان ، واقول ذلك والترابي يعد من اعظم علماء ومفكري هذا العصر ولعله سابق لهم في تفكيره وفي قدرته علي قراءة الواقع واستشراف المستقبل وهو ما جنبه كثير من الازمات والابتلاءات والدكتور الترابي بلا شك يعد استاذاً ومرشداً ومرجعاً لكل للحركات الاسلامية المعاصرة رغم السقف المتواضع للتجربة التي قدمها في الحكم والسلطان والتي لا تتلاءم وقدراته الرفيعة في التفكير الواقعي وقراءة المستقبل ولكن لعل سوء التلاميذ في مدرسة الدكتور الترابي كان له عظيم الاثر في تشويه هذه التجربة . ولعل هذا الحديث عن شخصية الدكتور الترابي لا ينطلق من محبة ومودة وان كانت موجودة ولكن ينطلق من رؤية واقعية وموضوعية لتأثيره علي حاضر ومستقبل السودان وان شئت قل مستقبل العمل الاسلامي في العالم كله وهذا التأثير ليس مرده السلطة التي اعتلائها الدكتور الترابي وحركته عبر عمل ثوري عسكري في العام 1989 وفارقها بعد العشرية الاولي لها في الحكم بل مرد ذلك الي ثقافة واسعة اكتسبها الرجل عبر دراسته في جامعات الغرب وعبر اطلاع واسع اتاحته له تجربة السجن في سجون الانظمة الشمولية المتعاقبة علي حكم السودان حتي النظام الذي كان مرشده وعقله المفكر قضي في سجونه السنوات الطوال حبساً واعتقالاً . اعتلاء الدكتور الترابي منصة القيادة في الحركة الاسلامية في سنوات باكرة من عمره مثلت علامة فارقة في تاريخ الحركة الاسلامية السودانية فمنذ تسلمه قيادة الحركة تبدلت احوالها فمن بعد ذل وضعف لجماعة صغيرة تهتم بشان الدعوة فقط اصبحت حركة ذات تأثير كبير في الحياة العامة بفضل تصورات الدكتور الترابي الحركية و كتاباته عن الفن في ظاهرة نادرة علي الحركات والجماعات الاسلامية في ذلك الزمان وكذلك اهتمامه بالمرأة ودخولها الي الحياة العامة خروجاً من الحبس الذي حبسها فيه ادعياء الاسلام المزيف وكذلك تصوراته للحكم والسلطان والتي فتحت الباب واسعاً لدخول الحركة معترك العمل السياسي فنالت الحركة بذلك مقاعد في البرلمان المنتخب في الستينات ورغم قلة مقاعدها فقد كان تأثيرها كبيراً في اثارة قضايا الدستور الاسلامي وانقلب التندر علي قائدها الدكتور الترابي الي اعجاب بالعبقرية الفذة والي مؤامرات متواصلة وحرب لا اخلاق فيها . طوال سنوات بقاء الدكتور الترابي في منصة القيادة توالت عليه اجيال وعملت معه في منصة القيادة قيادات من اجيال متعددة ولم تتأثر الحركة اطلاقاً بفقد اي قيادي فالرجل ظل يجدد ويدهش في اختيار قيادات جديدة وظل يحتفظ بقدرته علي التجديد والإبداع والعجيب ان هذه القيادات عندما تبتعد عن توهج الدكتور الترابي ومنهج الحركة الاسلامية في الاستقامة لا تكاد تسمع لها صوتاً ولا حساً ، و رغم ان بقاء القيادة الملهمة للدكتور الترابي علي منصة القيادة للحركة لفترات طويلة اضر بها في بعض الجوانب لكنه مكنها من العبور من ابتلاءات كبيرة وكثيرة . رغم قدرات الدكتور الترابي المميزة في اختيار قيادات جديدة وذات فعالية في تنفيذ ادوار مختلفة في مسيرة الحركة الاسلامية لكن صاحب هذا التميز اخفاق كبير في اختيار كثير من قيادات الحركة في عهد التمكين و كلف ذلك الحركة الاسلامية كثير من الرهق والمعاناة وتشويه صورتها في العفة والأثرة والنزاهة والاستقامة وإقامة دولة الحق والعدل فدفعت الحركة الاسلامية ثمناً غالياً بسوء اختياراتها لتلك القيادات وليس بمستغرب ان توالي هذه القيادات عند المفاصلة الشهيرة جانب السلطان . واليوم تمر الحركة الاسلامية بمرحلة جديدة في مسيرتها وفي مسيرة قائدها الذي تجاوز الثمانين عاماً وما زال بذات الحماس والدهشة والالق لم تغب عنه الاصول الكلية ولم تهزمه معارك الانفس وشحها ولم تشغله المعارك الصغيرة عن اهدافه السامية . فاليوم يحارب الدكتور الترابي وحده عن الحركة الاسلامية ومشروعها وتلاميذه مشغولون بنقض غزلها التي غزلته . واليوم يكتب الدكتور الترابي وحده عن فكر الحركة الاسلامية وتجاربها في الحكم والسلطان والعظة التي اكتسبتها وتلاميذه مشغولون بالفتات ومنكسرون ويتبرءون ويتنكرون حتي للفكرة الاساسية التي عاشوا فيها ويدعون الي بعث للقيم الانسانية لانها اعمق من قيم الاسلام . واليوم الدكتور الترابي يدعو وحده لوحدة الحركة الاسلامية التي مزقها تلاميذه وبعضهم ينبح كالكلب ان الحركة اختلفت لدواعي شخصية ولن تعود لوحدتها ابداً . والدكتور الترابي للأسف استاذ بلا تلاميذ سوي من بعض القلة الذين صدقوا وامنوا بالقيم التي دعا اليها استاذهم ومعلمهم فدفعوا ارواحهم فداء لها . اختم هذا الحديث وأقول قديماً قالوا ان الليث بن سعد تلميذ يزيد بن حبيب السوداني كان افقه من مالك غير ان تلاميذه لم يكونوا بذات كفاءة الامام فاندثر تراثه الثر وضاع ميراثه ومن حسن الحظ ان تراث الدكتور الترابي الفكري لن يندثر فقد تطورت وسائل الاتصال ولكن للأسف الشديد هذا الحديث ينطبق علي تلاميذ مدرسة الدكتور الترابي فرغم القدرات الفذة والعبقرية للترابي فقد لازمه بؤس شديد في تلاميذه فكان كالإمام بلا جماعة . علي عثمان علي سليمان [email protected]