أعرفه، كما أعرف صوت بطني لحظة جوع. إلا أنني لا أدري على وجه الدقة متى وأين وكيف بدأت علاقتي به. المؤكد أنه ظل يلازمني عبر أغلب مراحل حياتي المختلفة. مرة، أقول من باب العزاء لنفسي إنه (يا صابر) ليس سوى أحد أوهام هذا العالم. ومرة، يخال لي لسبب أو لآخر أنه عصي على رؤية كل الناس له. ومع ذلك، كنت (ولا أزال) أراه هنا أو هناك. إذ يجلس أحيانا قبالتي داخل مركبة عامة. ينظر إلى العالم المنسحب وراء نافذة البص الزجاجية بفتور واستياء. أو يمشي في بعض الأحيان إلى جواري بخطى أثيرية منصتاً لوقع قدمي على جانب شارع مقفر آخر الليل. أو حتى ينطوي في أوقات أخرى على نفسه بمعدة خاوية عند ركن معتم من إحدى الغرف الكثيرة التي أنفقت فيها سنوات عمري المقتربة من الستين حثيثاً. زوجتي ماريا التي تصغرني بنحو العشرين عاماً تقول إنها لا تراه. ولكنها تتفهم من واقع خبرتها الخاصة ما يحدث لي. أذكر ما حدث في أثناء ذلك المساء الشتائي البعيد، لحظة أن اقتربت مني بوجهها، وأخذت تواسيني، كمن يحاول جاهداً أن يمحو أسى بأسى، قائلة إن والدها الذي جاء إلى كندا لاجئاً من ضواحي إحدى مدن بوليفيا المجهولة قبل أربعين عاماً ظل يراه بدوره حتى الممات. كان يطالعه، بين وقت وآخر، بالملامح الحزينة نفسها لكلب جائع. وقد سأل وقتها الممرضة المتابعة أن تتركه وحيداً في غرفته الكائنة داخل أحد المباني السكنية المخصصة لكبار السن في المدينة. قال لها فيما يشبه اللغز وهو يغمز بعينه اليسرى كعاشق عريق إنه يتوقع زيارة خاصة لن تأخذ من وقته الكثير. بعد نحو الساعة تقريباً عادت الممرضة تطرق الباب قبل أن تدفعه إلى الداخل برفق. كان هناك، يتمدد على سريره الصغير بلا حراك، وعلى فمه شبح ابتسامة. ماريا قالت ما لا يزال يثير حيرة الممرضة لحظة أن أخبرتها برحيل والدها أنه لم تكن تتوقع أبدا أن الموت يمكن أن يكون قريباً إلى هذه الدرجة من رجل ظل يأكل على ذلك النحو حتى وهو على أعتاب الثمانين. أذكر في أحد أيام هذا الشتاء أننا دعونا زوجين شابين من جماعة مسيحية تنتمي إليها زوجتي تدعى «شهود يهوا» لتناول وجبة الغداء في مطعم صيني قريب. كانا قد حضرا من السلفادور قبل نحو العام كمهاجرين جديدين. فجأة أخذ الزوج يتحدث عنه. بينما أخذت زوجته توافقه بإيماءة حزينة من رأسها من حين الى حين. قال: «كانت أمي تشعر بفم صغير يمتص من ثديها الآخر كلما شرعت في رضاعتي». فم أشبه بالظل في ليالي الريف الداجية. لا تراه. لكنه موجود دائماً هناك. ما إن تغمره بقعة من الضوء حتى يطل بعينين جاحظتين وجسد منهك هزيل كما لو أن الطعام لا وجود له في هذا العالم. كنت أصغي إليه بحواسي كلها قبل أن أنتبه إلى تلك الغلالة الرقيقة وهي تظلل عيني ماريا كغيمة على وشك الهطول. بعدها مضت الدقائق ثقيلة متباطئة. وبدا ألا شيء آخر يمكن أن يقال. فقط كانت تُسمع الضجة الأليفة لآنية الطعام. وذلك اللغط الحميم المتناهي من الموائد المجاورة من آن لآن. حين بدأت أتطلع إلى ندف الجليد المتساقطة في الخارج كعادة قديمة، رأيته بغتة، وهو يلوح لي بيده من وراء مدخل المطعم الزجاجي ذي الإضاءة الخافتة. «لعلك تراه في هذه اللحظة»، سألني الزوج بشيء من الحزن، وقال: «يا إلهي، خلت أنني تركته ورائي هناك»!. في ذلك المساء، قالت ماريا إن والدها في أيامه الأخيرة كان يراه مثل رجل نحيل يشبه حطام ذكريات بعيدة مات معظم أطرافها. وما إن يراه حتى يضرب بنصائح الأطباء عرض الحائط. ويشرع لسبب ما في تناول كميات كبيرة من الطعام تكفي في كل مرة لإشباع كتيبة منهكة من جيش الكولونيل جرمان بوش أيام حربه الضروس التي أوصلت غوالبرتو فيلارول إلى سدة الحكم قبل أن يتحول الأمر برمته في ظرف أقل من ثلاث سنوات إلى كارثة ألقت بوالدها في أحد المطاعم الكندية غاسلاً للأطباق، وسط الضجيج الصامت لصدى تلك الآمال الثورية الغابرة. لا أذكر قط أنني سمعته طوال علاقتي الممتدة معه. كان عادة ما يجلس حزيناً. يتأملني وأتأمله في صمت. ذات مرة رأيته في القاهرة وهو يطل من عيون أطفال في أسمال بالية كانوا يحدقون من بعد في «فترينة» لعرض الحلويات في شارع مزدحم. أو هكذا خيل إليّ. المشاعر وحدها تطل من العيون. وهو شيء كائن. له ملامح ووجود يحجبه القرب الشديد غالباً. قيل إنه لا يظهر سوى لأناس يعايشون ظرفاً كالذي عايشته معظم أيام عمري. الآن، ما الذي يجعله يلوح لي بيده من وراء مدخل المطعم الزجاجي ذي الإضاءة الخافتة؟. «إنه يظهر لك في هذه اللحظة (يا سابر)»، تقول ماريا بأسى، وتضمني إليها طويلاً، يحدث ذلك على الأرجح حوالى الثالثة بعد منتصف كل ليلة تقريباً، حين تفتقد ماريا وجودي إلى جوارها داخل غرفة النوم، بعد فترة قد تطول أو تقصر. آنذاك، كان أول ما أحسّ رائحة جسدها الدافئة وهي تتسلل إلى أنفي من وقفتها حافية القدمين داخل أحد قمصان نومها بينما تميل مستندة بكتفها الأيسر الى باب المطبخ المشرع تراقب بحنان غامر محاولة تجاهلي له ببحث مضنٍ عن شيء آخر لا وجود له أتصور وقتها أنني سأعثر عليه مختبئاً داخل درج ما. [email protected]