مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    ماذا بعد انتخاب رئيس تشاد؟    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان..الألم و الأمل
نشر في الراكوبة يوم 18 - 10 - 2015

عندما يسود الإنحطاط و تنهار البنى و تعم الصراعات و تهتز القيم , ويبقى في وقت الوجع و الحريق بصيص أمل .
جغرافية السودان تتصف بالتاريخ الطويل و المعقد إذ نجد فيها حضارات عمرها ألآف السنين و يقطنها مجموعات متعددة الثقافات و المعتقدات و الديانات , نالت إستقلالها في أواخر العام 1955م , وتعاقبت في حكمها أنظمة تتصف بالديمقراطية الجزئية تليها إنقلابات و آخرها أنقلاب العميد ركن | عمر حسن احمد البشير في العام 1989م .
السودان دولة ذات بنية سياسية هشة بهشاشة القوى السياسية و النظام السياسي عموما , بإعتبارية أن القوى السياسية الديمقراطية القوية لها القدرة على ضمان سلمية تداول السلطة , و هي داعمة لقيم الحكم الرشيد , بمعنى أنها قوى راشدة قادرة على إدارة الإختلاف و التعاون في صيغة تحافظ على توازن الدولة و تطويرها نحو الأفضل . وإن فشل القوى السياسية الديمقراطية أو ضعفها تعني أن هناك فراغ كبير في إدارة الدولة, و هذا في حده مبرر يدفع الدكتاتورية للوصول إلى السلطة و الهيمنة, و لذا تعمل الأنظمة الدكتاتورية على الدوام على إحتواء القوى السياسية أو إضعافها أو إختراقها أو قمع رموزها و قد تصل إلى حد التصفية لضمان الإستمرارية .
أزمة سياسة أم سياسة الأزمة ؟
في العام 1956م إصبح السودان دولة ذات سيادة و تمتلك موارد و مشاريع إقتصادية ضخمة في المجال الزراعي , و كادر بشري يمتاز بالقدرات و المهارات الفنية و بنية تحتية أولية و مؤسسات مدنية و خدمية , بقياس نسبة السكان مقابل الموارد يمكن إستنتاج إن السودان أقرب إلى النهضة في حال حسن إدارة الإختلاف .
و لكن غياب الرؤية السياسية الشاملة و قصور الوعي وضعت السودان في العام 2015 من ضمن الدولة القابلة للإنهيار , و أصبحت دولة أقرب للوصاية و الحماية الدولية (و هي من ضمن خيارات بريطانية التفاوضية حول السودان في فترة ما قبل الإستقلال بعد الحرب العالمية الثانية كما أفاد صاحب كتاب الإنفصال ما بين مصر و السودان).
هذه الوضعية مرتبطة بشكل كبير بصفات و خصائص الشخصية السياسية السودانية , و التي تتصف بصفات سلبية كثيرة , منها تأثيرات البنية الأبوية الصارمة (و إن إختلفت درجاتها إلا أنها تشكل ذهنية السيطرة و التملك و التسلط) و تأثيرات التنشئة و هاتين من مدخلات تأسيس بنية العقل السياسي السوداني .
الشخصية السودانية عموما تتصف بالتكلف و التجمل و اللامبالاة , و كثير من الثقافات السودانية محملة بأساطير تثبت الشرف و النقاء , إلي درجة أن هناك مجموعات تحمل داخلها تصنيفات تمييز بين أفرادها بتراتيبيات سيئة جدا, مثال ذلك (في بعض من مجموعات الثقافية يصنف بعض الأفراد أنهم ذو نسب نجس و لايسمح لهم التزاوج مع أفراد من خارجهم و يمنع تناول الطعام معهم و لكنهم يظلون داخل المجموعة و يشاركون في الحروب ).
و لا تختلف شخصية السياسي السوداني عن عموم الشخصية السودانية بل و يضاف عليها صفات أخرى أكثر سلبية (مثل التعالي و التذاكي و النفاق ) إضافة لسياسات المستعمر البريطاني تجاه السودان .
( و قد عمد الإدارة البريطانية إلى ترسيخ النعرة القبيلية في السودان , و بشكل رسمي , و الشواهد على ذلك كثيرة , منها تثبيت الإنتماء القبلي في الأوراق الرسمية للمواطن السوداني , و إشتراط تسجيلها في العرائض و الشهادات المدرسية و دفاتر المواليد و سجلات المحاكم و الخرائط , و تعد هذه الورقة ناقصة و باطلة ما لم يذكر فيها الشخص إسم قبيلته . كما عملت الإدارة البريطانية على إحداث الإنقسامات بين أفراد القبيلة الواحدة , بل و ذهبت إلى أكثر من ذلك , إذ جعلت المناطق الجنوبية من السودان - مناطق مغلقة - على أبناء الشمال , لا يدخلونها إلا بإذن من من الإدارة البريطانية . و عمدت على تقسيم البلاد إلى دويلات تبعا للنظام القبلي لا تبعا للأوضاع الجغرافية و الإقتصادية , و أطلق عليه نظام اللامركزية القبيلية الذي ساعد على بقاء النعرة القبيلية , و أصبحت الطرق الصوفية , فضلا على القبيلة , محورا للحياة الدينية في المجتمع السوداني لغالبية السكان , حيث تشكل الطائفتان الختمية التي يتزعمها بيت الميرغني , و الأنصار التي يتزعمها بيت المهدي , أكبر طائفتين في السودان ) د. سرحان غلام – التطورات السياسية في السودان المعاصر 1953م – 2009م . دراسة تاريخية وثائقية . ص 41 .
هذه السياسات البريطانية و الساسة الوارثين للسلطة السياسية من بعد المستعمر من السودانيين و الصفات المتعلقة بالشخصية السودانية ساهمت جميها في تشكيل جبل من إنعدام الثقة حتى داخل الوطن بل و الحزب الواحد, إذ أن القائد السياسي يظل رئيسا و زعيما و قائدا و أبا روحيا لجماعته السياسية إلى أن يموت, بسبب إعتقاده أنه الأفضل و الأكثر إلماما بالقضايا و دوما لأنه الأنسب في ظل الظروف المحيطة, كتبرير دائم و نتيجة ذلك إتخاذ كثير من القرارت المصيرية الخاطئة لأنها في الغالب تتخذ إما داخل الصوالين الخاصة أو في البيوت أو بتأثير علاقات القرابة و الصحبة.
(و يشير كل ما تقدم ذكره إلى أن عملية صناعة القرار السياسي الداخلي و إتخاذه تأثرت بوجود الترابي داخل أهم مؤسستين سياسيتين في البلاد , و هما البرلمان و الحزب الحاكم , و ممارسته , و بحكم ذلك , نفوذا مؤثرا في مجال صناعة و إتخاذ القرارات لفترة ما بحيث كانت الفواصل تتلاشى بين السلطة التشريعية و التنفيذية , ليصبح حسن الترابي في موقع المشروع و المنفذ , و ذلك على حساب سلطات الرئيس البشير . إلا أن القرارات التي تم إتخاذها في 12 كانون الأول – ديسمبر 1999م و بداية 2000م كانت بمثابة تصحيح للأوضاع السائدة في مسيرة الحكم داخل البلاد – من وجهة الرئيس البشير- و إن كان الذي حصل يعبر بصفة عامة عن طبيعة و مدى شخصية السلطة داخل السودان , و عن إفتقار عملية صنع القرار إلى ضوابط مؤسسية , و هو ما يمثل أحد مصادر الضعف و مواطن خلل في المؤسسات السياسية السودانية إذا لم يتم تداركها) د. سرحان غلام – التطورات السياسية في السودان المعاصر 1953-2009م – دراسة تاريخية وثائقية ص 297.
و من المعلوم أن القرارات غير العلمية و المتخذة خارج دوائر صنع القرار و بدون مرعاة التحليلات الكلية و دراسة تأثيرات القرارات الأنية و المستقبلية هي قرارات سيئة على كل حال .
و من النقطتين أعلاه نجد أن معضلة السلطة السياسية في السودان في العقل السياسي و الذي يتصف بالتفكير التأمري و هو تفكير ينتج الأزمات , و التفكير السياسي يشوبه كثير من الخلل و الضعف و القصور نتيجة فشل إدارة الدولة .
إن ضعف الأحزاب السياسية واحدة من أسباب فشل التجربة الوطنية الحديثة, و من هنا تأتي أهمية مسألة التغيير الشامل , لتشمل تغيير نمط التفكير السياسي السائد, و هذا يعني بناء أحزاب سياسية ديمقراطية قوية و لا يتأتى ذلك إلا بعد صراع سياسي ذكي (يقود جيل من الشباب الوطنين هذا الصراع داخل أحزابهم و هؤلاء عليهم القيام بمهام إستراتيجية كبيرة في قضية التغيير) نتيجته بناء أحزاب ديمقراطية قوية راشدة تسهم في الإدارة الدولة .
الواقع الإجتماعي و تأثيره في الأزمة :
( بناءا على ما تقدم , يمكن تحديد المجتمع السوداني بتركيبته الإجتماعية بأنه ما زال حتى الآن مجتمعا قبليا مكونا من شبكة معقدة و متداخلة من التكوينات الإجتماعية , و أن طبيعة هذه التكوينات هي التي تساهم و تحدد بدون شك حجم و إشكالية النشاط السياسي , و من ثم طبيعة حركة الصراع في جميع حلقات المجتمع السوداني التي تتألف من المزارعين البدو و الرعاة , و المزارعين المستأجرين , و العمال الريفيين , و العمال الحضريين , و أصحاب المرتبات و التجار ....إلخ . من غير أن تشكل طبقاته بشكل واضح , على الرغم من وجود أوضاع إقطاعية و نواة لطبقة برجوازية و طبقة عاملة , و نشوء طبقة وسطى مقتدرة , لا سيما في مراكز المدن الحضرية ) . د. سرحان غلام حسين العباسي – التطورات السياسية في السودان 1953م – 2009م دراسة تاريخية وثائقية – مركز دراسات الوحدة العربية .
إن الإنسجام و التجانس صفات مهمة توفرها بين أفراد المجتمع (الشعب) داخل الدولة لتشكل الإحساس بالمصير المشترك, و ينعكس ذلك في الوعي الجمعي بين أفراد المجتمع مما يعني قدرتهم على التعبير عن مصيرهم , و تضامنهم في قضاياهم الحقوقية و المصيرية .
يتصف السودان إجتماعيا بالتعدد الثقافي و الإثني , محكوم بمنظومة كاملة من العادات و التقاليد و القيم و الموروثات, بعضها قيم إستعلائية تؤسس للتمايز العرقي و هي قيم أسطورة غير قابلة للإثبات بأدلة موضوعية, مثل الشرف و النقاء و لكنها تستخدم كرأسمال رمزي للمحافظة على الوضعيات الإجتماعية. و تظل حقيقة الإختلاط ماثلة أمامنا في أشكالنا و تفاصيلنا الواضحة (الجانب المادي) , و مزاجنا و طقوسنا الدينية و الحكي و غيرها (الجانب المعنوي) , في مقابل فشل الدولة في سياستها التعليمية, و برنامجها الإجتماعية, ليصبح الفرد في المجتمع السوداني أكثرإنحيازا للقبيلة بدلا عن الدولة, و الخلل واضحا في مسألة الحس المشترك و التعبير عن الإنتماء للوطن و ضعف روح التضامن و المشاركة .
إن خطورة العادات والتقاليد و الموروثات تكمن في كونها أساس اللاوعي , و هي قواعد التنشئة و بالتالي تشكيل قوانين اللامفكر فيه, مما يجعل من الفرد أكثر إنتماءا إلى القبيلة من الدولة و هذا يفسر كوننا نجد بعض العرقيين من حملة الشهادات العليا و عنصرية نظام الحكم .
(تنشأ الديكتاتوريات عن طريق ما يمكن تسميته ب(عقد الحرمان) والواقع أن اغلب الطغاة عاشوا طفولة معذبة، ومراهقة صعبة، الأمر الذي من شأنه أن يمهد السبيل لخضوع شخصية الطاغية إلى مجموعة من العقد، والديكتاتوريات تظهر وتتشكل خلال حالات وشروط تاريخية معينة، إنها غالباً ما تكشر عن أنيابها خلال فترات تعرض البنيان الاجتماعي لأزمات مصحوبة بأزمات في المعتقدات.
النظام الديكتاتوري يظهر تحت ضغط شروط وأوضاع مختلفة، إنه يظهر خلال فترة تكون مشروعية الحكم فيها ازمة، أي عندما يكف الرأي العام عن الإيمان بنظام واحد يمثل فكرة مشروعية السلطة، ويأخذ بالانقسام على نفسه والاعتقاد بتعدد الأنظمة التي تبرر مشروعية السلطة.
ولا شك في أن آثار الاضطرابات الاجتماعية تكون اكثر شمولاً وعمقاً إن كانت قد صاحبتها أزمات حول مبدأ المشروعية، لدرجة أن هذه الاضطرابات تجعل أزمات مبدأ المشروعية غير محتملة، وكمثال يمكن اعتبار ما حدث في ايطاليا عام 1920 والمانيا عام 1930 نموذجاً لذلك.)على الشمري .
خلاصة ترسبات اللاوعي (منظومة القوانين و الأحكام الإجتماعية و الموروثات) في الواقع من صرعات قبيلية بين المجموعات المختلفة , و إن حاول البعض إرجاع أسباب الصراع إلي مسألة التنافس و الموارد إلا أننا نرى أن السبب الرئيسي هو القوانين القديمة و التمايز فالذي يربى على أنه الأفضل لا يجد مبرر كي يمتلك كل شيء بمبرر أنه الأحق .
الوعي بهذه المشكلة يمثل مدخلا مناسبا للخروج من مهلكة العرقية و الإستعلائية و هناك مشاريع بدأت في هذا المجال يجب تنميتها و تطويرها مثل مبادرة( تسامي) .
تنمية قيم التعايش و الإحترام يؤسس مجتمع يتصف بالتعاون و المحافظة على القيم الإيجابية و التي في جوهرها ضمان الحقوق بيبن الأفراد مما يؤدي إلي خلق مجتمع ديمقراطي .
الصراع الإجتماعي و معضلة الهوية :
تحمل مجتمعات ما قبل الدولة (المجتمعات التقليدية) كثير من القيم و العادات و التي تشكلت في فترات زمنية مختلفة و سحيقة لتؤدي وظائف حماية المجموعة و المحافظة على إستمرارها , هذه القيم شكلت منظومة من الدفاعات و الإستعدادات الذهنية المختزنة في اللاوعي بين الأفراد داخل المجموعة , و منها ما تدلل على شريفية المجموعة و نقائها و منها ما ترمز على دونية المجموعات الأخرى و أخرى تصنف الأفراد داخل المجموعة الواحدة . و هي قيم مختزنة في الحكي و الأسطورة و النسب . مجموع هذه الأسباب شكلت واقع خصائصه :
غياب الحس المشترك :
( و عليه , فإن واقع السودان الإجتماعي لم يتمكن من تجاوز المشكلات , و هو يعيش حالة من العطالة و الضياع الإجتماعي , مع فقدان الوحدة الوطنية بمفهومها الحقيقي في الأدب السياسي المعاصر , و هذا تحصيل حاصل , بسبب فشل الحكومات الوطنية التي جاءت بعد مرحلة الإستقلال السياسي , و عجزت عن حل التراكمات الإجتماعية الموروثة لمشكلة السودان الإجتماعية خلال مرحلة السيطرة الأجنبية) . نفس المصدر : ص 43
إذا نظرنا إلى السودان بزاوية علم الإجتماع نجده عبارة عن مجموعات إجتماعية تقليدية ذات ثقافات مختلفة (عادات , تقاليد , سلوك , أداب , فنون , زي , عقائد , أدوات إنتاج , أساطير ...) و أنها مجموعات إنتقلت من وضعياتها القديمة إلى مرحلة الدولة (و التي فيما تعني مجتمع ذو خصائص و مصالح مشتركة و مصير) , و هو إنتقال بشروط و تصورات و مصالح المستعمر (التركي المصري , البريطاني المصري) و نتيجة هذه المعادلة دولة تعاني من اللاتجانس بين البناء الفوقي (السلطة السياسية و منظومة القوانين الكلية الحاكمة ) و البنى التحتية (المجموعات الإجتماعية و قيمهم و تصوراتهم الواقعية و المستقبلية) آي المجتمع . لتكون الصورة النهائية مجتمع يحكم تصوراته و مواقفه منظومة القوانين و العادات و القيم القبلية أكثر من ولائهم للدولة , و هم في الغالب أفراد غابت الدولة عنهم في القيام بعمليات التطوير و تنمية روح الإنتماء للوطن و مكافحة الأمية , بل و أسوء من ذلك دفعتهم إلى الإحتماء بالقبيلة . و سلطة سياسية غير مبالية و غير مسؤولة بالضرورة و التي فشلت في القيام بمسؤولياتها من حفظ الأمن و حماية المصالح المشتركة و تطويروتنمية المجتمع , يشغلها أفراد من أصحاب الوضعيات التاريخية و المثقفين و بعض من القيادات العسكرية . أصحاب الوضعيات و المثقفين هم بدورهم مهتمون جدا في منافسة أقرانهم في أوروبا للتأكيد دوما بأنه أصحاب شأن و يمتلكون قدرات معرفية هائلة و نجدهم فاعلين في كبرى المنتديات الأوروبية (يتحدثون عن مخاطر تواجه العالم و تحديات ما بعد الحداثة و ينتقدون الغرب و أنظمتهم السياسية ليلعبوا دور الفيلسوف الذي يحمل خلاص العالم) و يمكن أن نعتبر ذلك فعل عظيم , و لكن الحقيقة أيضا أنهم رغم قيادتهم لأكبر الأحزاب و إمارتهم لأكبر الطوائف و معرفتهم خصائص الواقع الإجتماعي و إمتلاكهم المعرفة فشلوا في المحافظة على الدولة و حماية نظامها السياسي و حدودها الجغرافية و تطويرها إجتماعيا و إقتصاديا و ثقافيا .
و هنا يأتي سؤال في غاية الأهمية و هو ما السبب وراء فشل قيادتنا السياسية أو الأحزاب في القيام بعمليات النهضة ؟ .
تظل عبارة الصادق المهدي بأن (الديمقراطية تحمي نفسها ) قول حق لتبرير باطل تهربا منلمسؤولية عدم حماية نظام سياسي إنتخب لرئاسته , و أدى اليمين على حمايته و الذي يفشل في حماية الحكومة التي يترأسها بالضرورة غير قادر على حماية شعبه , و الصادق يعلم أن الديمقراطية تحمى بوعي شعب متقدم جدا و الحال في السودان مجموعات قبلية و طوائف دينية و عقائد متعددة , و غالبهم يعانون من الأمية و الفقر و المرض , ليكون السبب في نظرنا و المبرر لإنقلاب العميد عمر البشير هو فشل الحكومة في إيجاد مشاريع تنموية و نهضوية و إستراتيجيات للأمن و السلام . بجانب ضعف الوعي الجمعي الوطني بين المجموعات الإجتماعية.
إنحياز السلطة :
السلطة السياسية (نظام الحكم) هي الركيزة المهمة في إستمرار و توازن الدولة و نهضتها. و هذا يعني أن أي خلل فيها يؤدي إلى مشاكل عظيمة تصل إلى إنهيار الدولة .
ماذا حدث في السودان ؟
إنحازت السلطة السياسية بأيديولوجياتها المختلفة إلى المجموعات العربية من خلال التعبير الرسمي عنهم , في التعليم و الخطابات الرسمية و القنوات الإعلامية , إلى درجة إستطاعت أن توصل بعض الأفراد من المجموعات العربية و خاصة الذين تم إستيعابهم في الأجهزة النظامية (جيش , أمن , شرطة) أن يعبروا صراحة بأن هذه الدولة (عربية) قبل أن تكون إسلامية .
(إن تركز السودانيين العرب في شمال البلاد و وسطها و حول مقر السلطة في الخرطوم , فضلا على إنتشارهم كتجار و أصحاب نفوذ و إقطاعيات و رجال دين متنفذين في مختلف أنحاء البلاد , مكنهم من السيطرة على السلطة السياسية و الثروة الإقتصادية في البلاد ). د.سرحان غلام – التطورات السياسية في السودان المعاصر 1953م -2009م – ص 56.
معالجات هذه الوضعية لا تتحملها المجموعات العربية وحدها بإعتبارهم جزء من المكونات الإجتماعية و التي تعاني في عمومها من قيم سالبة يجب التخلص منها مثل (الإستعلاء , العنصرية ) , و ما يجب قوله ضرورة أن تدرك المجموعات العربية في عمومها بأنهم مثل المجموعات الأخرى لهم جميع حقوق المواطنة و عليهم كل الواجبات , منعا لخديعة الأيديولوجيا و التي تستخدمها السلطة لتقحمهم في مثل هكذا مواقف , و التي لا تعبر بالضرورة عن مصالحهم عموما , و أن على الجميع مكونات الدولة الإجتماعية إدراك مهامها و القيام بالمسؤوليات التاريخية وهي خطوات مهمة في بناء دولة قوية و آمنة و مستقرة .
تجارة الحرب و تطوير مفهوم الهمبتة :
قياسا بفترة الحروبات في تاريخنا الحديث يمكننا وصف السودان بأنه دولة الحرب , ومن أكثر الأشياء غرابة أن سياسيات الحرب هي أكثر السياسات التي إنتهجتها أنظمة الحكم التي تعاقبت على السلطة السياسية . و قد إستثمر الكثير من السياسين في الحرب تارة بتسليح القبائل و أخرى بصناعة الميليشيات الحربية شبه المنظمة , هذه السياسات إستنفدت كثير من موارد الدولة و أفقدت كثير من المجموعات خصائص الترابط و الإستقرار .
إن عملية صناعة الميليشيات تحتاج أولا لمجموعات تحمل إستعدادات نفسية (تهيئة نفسية) تؤهلها في القيام بهكذا أفعال , فالذي يختار الهمبتة مثلا كوظيفة إقتصادية لا يمانع في تطويرها وظيفيا إلى ميليشيا في حال توفر الظروف الملائمة و الشروط الكافية و في تقديرنا أن سلوك الهمباتي مسالة ملحة تحتاج لدراسات سيكلوجية لمعرفة أسبابها الجزرية و من الضروري جدا معالجتها كي لا تمثل عقبة في المستقبل لأنها تطورت إلى فعل يمكن أن نطلق عليه (الجريمة المنظمة).
التباعد الإجتماعي :
تاريخيا يمثل (الحوش) أصغر وحدة سكنية و يسكنها (الجد و الحبوبة , الأبناء ,الأحفاد) و تقسم إلى وحدات أصغر منها (البيت الكبير , سكن البنات , سكن الأولاد , الديوان) و الحوش هي الوحدة الرئسية في تكوين القرية , و مع ظهور المدينة أصبح الحي أو الديم الوحدة الرئيسية في تركيب المدينة , و يقسم الحي الى وحدات صغرى (المربع , الحارة) , عندما نلاحظ على هذه الوحدات الجديدة نجد أنها أقرب إلى القرية(الحوش) من المدينة (من حيث الأفراد الذي يشغلون وحدة الحي ) , فالحي الحديث ظل ينمو على الدوام نحو إحتوائها لأفراد ينتمون لمجموعة واحدة أو مجموعات متقاربة ثقافيا , على سبيل المثال نجد كثيرمن أحياء العاصمة يسكنها مجموعات بعينها , كما نجد مفارقات توضح درجة من التباعد في الوعي الجمعي و التصورات , إذ غالب المجموعات الأفريقية تطلق على أحيائها مسميات ذات رمزية أفريقية (أبوجا , نيفاشا , دارالسلام , مانديلا ,....) , و نجد في المقابل المجموعات العربية تطلق مسميات ذات رمزية عربية (الرياض , الدوحة , الطائف , الفردوس ,.....) , مما سبق يمكن أن نستنتج أن هناك تباعد وجداني واضح بين المجموعات الإجتماعية , و من أفظع مظاهر الإنفصال الوجداني إنفصال الجنوب ,إذ لم يحرك ذلك مشاعر الشعب السوداني , بل كان سببا للذبح و الإحتفال كما فعل مستثمر العنصرية الطيب مصطفى عبر منبره المسماة ب(السلام العادل) و صحيفة (الإنتباهة) في صمت تام من السلطة السياسية .
خلاصة ماسبق تعتبر المدينة قرية مستنسخة بزي مدينة حديثة و بقيم الريف و تتصف بسوء التخطيط المدني (هندسة الطرق , المصارف الصحية , الأسواق ,....) و يسكنها سكان يتصفون بضعف الوعي الحضري و السلوك المدني .
و مما سبق تأتي أهمية خطاب التغيير , و لكنه خطاب لم يكتمل أركانه بإعتبار غياب الرؤية الشاملة , و التي تمثل المدخل الجوهري للوصول إلى مشروع وطني . و مع ذلك نعتبر من الأهمية بمكان القيام بالعمليات الإجرائية الضرورية التي من شأنها التمهيد لتالي الخطوات و منها :
ضرورات بناء إحزاب ديمقراطية راشدة :
التنوع والإختلاف :
من أهم ركائز البناء و التنمية و الممارسة الديمقراطية مسألة إدارة التنوع و الإختلاف و هي عملية تحتاج إلى مقومات ذهنية و معرفية و أخلاقية و مسؤلية , و غالبا تتشكل داخل الأحزاب السياسية الرشيدة, و التي تمتلك نظم هادية و قوانين و تمثل بيئة لممارسة الديمقراطية و تكون بمثابة التهيئة الرئيسية للكادر البشري ليقوم من بعدها بوظائفه في إدارة الدولة .
و يحتاج السودان لأحزاب قوية تقوم بأدوارها في التخطيط و الإصلاح و تؤسس لممارسة ديمقراطية رشيدة يمكنها من إدارة الدولة .
الحوار :
( إن الحوجة للحوار في العملية السياسية كالحوجة للماء في العملية الإحيائية و في كليهما الإستمرارية ).
إن أعظم ما يبحث عنه الإنسان هو الأمن , و لا يتحقق إلا بسلام دائم , و هذا السلام شرطه المعرفة التامة بين أعضاء المجتمع أو الأفراد و الرغبة في الحياة , و من هنا يعتبر الحوار من أهم شروط ضمان إستمرارية التعاون و المشاركة في صنع القرار و بذلك حفظ المصالح و تطويرها .
الحوار يشمل الإعتراف بحقوق الآخر , و جوهريا يعني الرغبة في التواصل و التعارف , و عمليا بمعنى تنمية القدرات البشرية في إدارة الإختلاف , و حسم الصراعات دون خسائر في الوقت و الموارد الأخرى . تعتبر المناقشة واحدة من أهم أنواع الحوار و هي من أدوات الإدارة الحديثة في جماعية العمل .
إن تطوير القدرة الحوارية في الأحزاب السياسية و المؤسسات الأخرى عموما يعنى زيادة كفآءة المنظومة و هذا يعني الإستمرارية في التقدم و التطوير مما يسهم في بناء أحزاب ديمقراطية رشيدة و هي من الركائز المهمة جدا في عمليات التغيير و البناء .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.