مضى الآن أكثر من ساعة على بداية الوردية. زميلي، مايكل، لا يزال يتفقد الأوضاع. يحمل في يده جهازا صغيرا أسود يدعى "البايب". يضغط به على دوائر معدنية صغيرة تتوزع هنا وهناك، على أرجاء الطوابق الأحد عشر العريضة الممتدة كخواطر غريب. في الصباح، يأتي تيري، الرئيس، بقامته القصيرة، يفرغ محمولات الجهاز على الكومبيوتر بعناية ودِربة، ليعلم على وجه الدقة في أية ثانية كنا، أنا ومايكل، بين دائرة معدنية وأخرى. بعد مرور نحو الساعتين، حين يعود مايكل ليتبادل معي المواقع بوجه بائس ومرهق حزين، سيشرع كعادته وهو يدفع نحوي معا حزمة المفاتيح و"البايب" في شتم شركة "مايكروسوفت"، قائلا: "شكرا بيل جيتس، أبانا الحديث". لا أزال، أدخن وحيدا أمام الواجهة الزجاجية المصقولة للمبنى الحكومي الضخم كحارسٍ ليلي أتعبه الغناء. لا شيء يتحرك قُبالتي على مدى كتل الجليد المترامية. لا شيء يطرق أذنيَّ سوى أزيز المراوح الهوائية المتناهي من الطبقة تحت الأرضية في صوت مكتوم ورتابة. شجية هي "يا أماندا" أغاني الهنود الحمر: "مَن كان يغني هناك"؟. مباشرة، لحظة أن غادرني مايكل، بدأتُ أنصت، من جهاز كومبيوتري المحمول، إلى إحدى مقطوعات فيلم "تايتنك"، وأنا أتابع في آن أجهزة حماية ومراقبة المبنى الذكية. وتلك مأساة الذين ذهبوا في ذروة تشبسهم بالأمل، إلى قاع المحيط قبل نحو قرن ولم يعودوا، فأية لوعة، بل أية وحشة، لعينٍ في برودة الماء وحلكتها تشد إليها طوق نجم بعيد؟. الموت وحده لا يخيفني. ما يخيفني "ياأماندا": الموت وحيداً. يتراءى لي على نحو غامض وجهَ شاعرٍ طيّبٍ من مصر يدعى "صلاح عبد العزيز". اعتزل الشعر. ولا أفطن إلى أنني منذ لحظات قليلة أدلف عبر موسيقى "البُلوز" إلى حزن من نوع آخر مختلف. هكذا، أرهف أذنيَّ لأنّات أولئك العبيد العائدين من حقول القطن في جورجيا أو مسيسبي. وقد خالجهم شعور ممض ألا شيء سينتظرهم عند مراقدهم الفقيرة المعدمة بعد نحو خطوتين أو ثلاث، سوى الرهق، أو الحنين. فجأة، يعم صخب إحدى أغنيات "الهيب هوب". كانت أماندا قد تركتها لي على الجهاز ومضت. "مؤسف أن أغادر العالم "يا أماندا"، من دون قدرة على الرقص". أجيل البصر ما بين أجهزة الكمبيوتر والمراقبة الرقمية الأخرى الملتفة حولي مثل حيّة بالرتابة ذاتها. تعشي عينيَّ غلالة من نعاس. لكأني أحلم خطفا بالمشي على شارع من الوطن. أفيق، وفي قلبي المتخم، على الدوام، ببقايا اللحظات الأخيرة، يستيقظ عشق مهجور على غير توقع. ما لبث أن أخذ يتمدد كظلِّ شمسِ غناءٍ قديم: يا أنيسَ الحُسنِ...... يا عالي المكانةْ أهدي لي مِن فضلك نظرةْ أو بُرتكانةْ ثمة حاجة ماسة إلى غناء آخر. أواصل الضغط على "الماوس". هكذا، لا يزال يلاحقني وجهها. مثل حلم بعيد المنال وغائم أم مثل شيء عصي على المحو والنسيان؟. كانت تدعى "تماضر". أخيرا أعثر على أغنية قديمة للكندية "سيلين ديون". أية رغبة غريبة في الفرح والحياة تتخلل كياني الآن. وجه أماندا بدوره أبدا لا يغادرني. أما وجهها، فنقش على حجر. أُفكِّر "ربما يوجد في موسيقى "الريجي" بعض العزاء". أغمض عينيَّ للحظات. وجه قريب وآخر بعيد وثالث لشاعر معتزل يفيض أسى. "أوقف هذا القطار". ذلك صوت بوب مارلي وهو يعلن بذات النغم والصوت الآسر الحزين عزمه على المغادرة. أتساءل في سهوم "إلى أين"؟. ثمة ندف من جليد خفيف في الخارج تنصب خيمتها فوق المصابيح المضيئة منذ فترة. الريح لا تزال ساكنة. أبصق في أعقاب آخر الأنفاس. شأن جدي في زمان بعيد. الوجوه التي أوغلت في الغياب شيئا بعد شيء، لا تنفك تحضر إلى عزلتي كثيرا هذه الأيام. أقذف بعقب السيجارة المشتعل بعيدا. أراه وهو ينفصل من بين أصابعي مثل علاقة أنهتْ أواصرها خيانة. يتوقد هناك أسفل الجليد الطازج المتساقط خفيفا للحظة وينطفيء. أتجه إلى الداخل بخطى بطيئة مثقلة. أجلس في مكاني المعتاد مواجها المدخل الزجاجي الفارغ. مايكل لم يعد بعد. عبثا، أحاول نسيان ملامح وجهها. كانت تدعى تماضر. أضغط على "الماوس" في شرود. "ستكتب عن علاقتنا معا"، قالت نظرة أماندا ساعة أن غادرتني مرة واحدة وإلى الأبد. وهي تنتحب "ما حدث لا سبيل الآن إلى محوه". أبتسم بمرارة. "لكننا آخر الليل نمضي وجوها تنفسها الهواء"، قال الشاعر راثيا الأصدقاء القدامى. وهي في كل مرة تضحك، وتقول محتجة: "لا، أنا بأهديك نظرة". وقتها، ألح معاندا مثل طفل: "لا، أنا عايز برتكانة". لا يزال بريق ضحكتها، عبر ركام السنوات، يومض في ليل الذاكرة المدلهم، كلما أشجتني، أو تناهت إلى مسامعي: تلك الأغنية. [email protected]