السياسة السودانية تخبئ تحت وسادتها او ان شئت قل مخدتها كثير من القضايا التي تتعلق بمصير ومستقبل السودان ، ورغم ان هذه القضايا ترقد بجوار العقل السياسي السوداني مباشرة لكن لم ينتج العقل السوداني حلولاً و تصورات او افكار تخترق جدار الصمت المطبق عليها طوال اكثر من ستين عاماً وهو عمر الدولة السودانية بعد التحرر من المستعمر ، من هذه القضايا التي ظلت تمثل ازمة وجرحاً نازفاً للوطن لم يجد من يداويه دور المؤسسة العسكرية السودانية في المشهد السياسي , ولعل من طرائف هذا المشهد السياسي ان المؤسسة العسكرية ظلت حاضرة فيه طوال الستين عاماً ، تديره تارة بالوكالة عن القوي السياسية الحزبية وتارة مباشرة لفترات قليلة تعد علي اصابع اليد الواحدة بحساب السنوات . عرفت السياسية السودانية منذ وقت باكر تدخل الجيش في مسرحها السياسي ففي نوفمبر من العام 1958 تم تسليم السلطة للجيش السوداني عبر ما عرف حينها باتفاق رئيس الوزراء عبدالله خليل القيادي الابرز في حزب الامة حينها مع الفريق ابراهيم عبود قائد الجيش وتم علي اثره وأد الديمقراطية الاولي في تاريخ السودان الحديث والقديم ومن المفارقات ان هذا التحرك العسكري لقتل الديمقراطية وجد ترحيباً من السيد عبدالرحمن المهدي زعيم طائفة الانصار ومن السيد علي الميرغني زعيم طائفة الختمية ولم يجد مقاومة سوي من الحزب الشيوعي السوداني الذي رفض الانقلاب باعتبار انه رجعي وطائفي ومن غرائب السياسة السودانية انه بعد اكثر من عشرة اعوام هاجم الحزب الشيوعي بدبابات مايو جامعة الخرطوم مركز الوعي والاستنارة وقال انها جزيرة رجعية في محيط ثوري ، ولعل هذا الانقلاب العسكري يمثل البذرة الاولي لدخول الجيش في معترك السياسية والخروج عن المهنية والنمط المعروف في الديمقراطيات الحديثة حيث ان مهمة الجيوش حماية الاوطان من المهددات الخارجية ولا علاقة لها بالعمل السياسي . من بعد الطائفية الحزبية ودورها في الانقلاب الاول في تاريخ السودان جاء الدور علي التيارات ذات المرجعية الفكرية او ان شئت قلت التيارات الايدلوجية ففي مايو من العام 1969 انقلب الجيش علي الديمقراطية الثانية في تاريخ السودان وهذه المرة كان الانقلاب بتدبير الحزب الشيوعي السوداني ولم يكن الامر مستغرباً فالفكر الانقلابي متجذر في ادبيات التيارات اليسارية والعلمانية والقومية ولهذه التيارات مثالات متعددة تتخذها قدوة في التغيير الثوري عبر العمل العسكري سواء كان ذلك عبر الجيوش النظامية او عبر المليشيات المسلحة ولعل التجربة الكوبية في العام 1959 و التجربة الروسية في العام 1917 والتجربة الصينية في العام 1949والتجربة المصرية في العام 1952 تمثل الهاماً للحركات اليسارية والتيارات العلمانية . عرف السودان ثالث الانقلابات العسكرية علي الديمقراطية في يونيو من العام 1989 وكان الدور هذه المرة علي التيارات الاسلامية ، ولا تجد ادني حرج في ان تنسب هذا الانقلاب الي الحركة الاسلامية السودانية علي عكس الانقلابات الاخري في تاريخ السودان حيث لا تجد اي اعتراف من أي تيار سياسي بأنه قام بانقلاب عسكري فدائماً ما تنسب هذه الافعال الانقلابية الي البرجوازية الصغيرة ، ولذلك اعتراف الحركة الاسلامية بأنها هي من نفذت انقلاب يونيو يظل مدهشاً ويساورك الشك في وصف هذا الاعتراف هل هو شجاعة من الحركة الاسلامية ام انه حماقة ستندم عليها الحركة مستقبلاً ام ان هذا الاعتراف جاء في اطار الصراع الذي نشأ بين جناحها العسكري والسياسي في العام 1999 . بحسابات التاريخ نجد ان الحكم العسكري سيطر علي العمل السياسي لفترة تقارب الخمسين عاماً وان الحكم الديمقراطي الحزبي لم تتجاوز فترة سلطته الحاكمة علي الدولة السودانية العشرة سنوات ولكن المفارقة ليست في هذه الارقام فإذا تتبعت التسلسل في تاريخ السلطة والحكم تجد ان الجيش السوداني لم يدخل انقلاباً عسكرياً الا وهو مدفوعاً بقوي سياسية حزبية وان الجيش السوداني لم يحكم الدولة السودانية حكماً مطلقاً الا في سنوات قليلة تعد علي اصابع اليد الواحدة ولا تتجاوز باي حال من الاحوال أي فترة ديمقراطية حكمت السودان وهذه ليست شهادة براءة للجيش السوداني بل شهادة في الاستغلال والغباء فالجيش السوداني ظل علي الدوام الحديقة الخلفية التي تستر وتدس بها القوي السياسية خيباتها الديمقراطية . نترك هذا الماضي بكل قبحه وننظر بعين الي الحاضر وبعين اخري للمستقبل ، الدولة السودانية في هذه الايام تستعيد نغمة الحوار والتصالح بدلاً من لغة السلاح والبندقية وقد تعودنا من العقل السوداني ان ينظر بسطحية في القضايا دون الغوص في تفاصيل اصل المشكل وجذوره ، في تصوري ان دور الجيش السوداني في العملية السياسية مستقبلاً يجب ان يكون واحداً من اهم القضايا التي يجب تناولها بعيداً عن جدلية الماضي بكل ما فيه والحاضر المرهق والمثقل بالحزن والخيبات ، ويجب ان يكون ذلك من وحي التجربة السودانية والتي كان الجيش السوداني اصيلاً في كل المشاريع السياسية التي مرت علي السودان . يجب ان نعترف بشجاعة ونقول ان الحكم الديمقراطي والحكم العسكري هما معاً من تسببا في فشل الدولة السودانية ولذلك يجب البحث عن صيغة جديدة لحكم السودان ، فالسودان دولة حديثة لم تتجذر فيها الديمقراطية بعمق وكل التجارب الديمقراطية التي قامت زرعت في الرمال وحملتها الرياح دون مشقة ، وسيحدثك التاريخ ان كل الديمقراطيات التي قامت في تاريخ السودان وسقطت لم يدافع عنها الشعب وان الشعب اكتفي بالنظر والنظر فقط والعسكري يصوب بندقيته الي قلب الديمقراطية ويصرعها ولذلك قلوب الشعب لا تحن ولا تشتاق اليها ، وسيحدثك التاريخ ان كل الانظمة العسكرية التي حكمت السودان شيعها الشعب باللعنات فمن العبث ان تشتهي السنتنا ترديد هذه اللعنات من جديد ، اعتقد انه من غير المجدي الاكتفاء بالمقولات الفلسفية القديمة ان مهمة الجيوش في الديمقراطيات حمل البندقية والدفاع عن حدود الوطن فقط ، هذه المقولات سقطت لان ابناء الحركة الاسلامية او ان شئت قلت ابناء الوطن من غير المنتمين للمؤسسة العسكرية شاركوا الجيش في الدفاع عن الوطن وقدموا اكثر مما قدم الجيش تضحيات وبطولات وشهداء ، وقد ياتي اليك احدهم مجادلاً ويقول لك ان مؤسسة الجيش صممت علي ادوار مهنية معينة ولا يصلح الجيش لغيرها وان الجيش لا يملك الوعي وستكون اجابتك الجيش صار يتقن السياسة اكثر من بعض السياسيين وكم من جياشي تخلي عن بدلته العسكرية وصار رمزاً وقائداً فايزنهاور وديجول وتشرشل لم يكونوا من طليعة المثقفين في قهاوي اوربا وامريكا ، وستقول له جدلاً ان في السودان الجيش لا يقل سوء في ممارسته للسياسة عن الاحزاب السياسية التي تدعي الديمقراطية وهي ابعد ما تكون من الديمقراطية ، ولن يغيب عن اجابتك ان مؤسسة الجيوش في العالم العربي والأفريقي اقوي المؤسسات الوطنية لان مشروع الدولة الحديثة لم يكن صالحاً للنمو بالشكل المطلوب في دول العالم العربي والأفريقي . اعتقد ان المعادلة الصحيحة التي يجب ان توزن بها السياسة السودانية في هذه المرحلة الانتقالية من عمر الدولة السودانية كالأتي ، تأسيس احزاب ديمقراطية تخرج من معاناة الشعب السوداني وأوجاعه تحمل رؤى وتصورات لمستقبل النهضة والإصلاح ، وجيش وطني حامي للديمقراطية لا ينحاز لفصيل او جماعة او حزب او طائفة فالجيش السوداني قادر علي حماية الديمقراطية مثلما كان الجيش حامي للعلمانية في تركيا ، فقط يجب ان نضبط ذلك في اطار دستوري ديمقراطي وحينها لن يساورنا القلق من الدائرة الخبيثة . اذا حاولنا ان نلملم اطراف المعادلة السياسية السودانية بطرفيها المدني والعسكري وتقديم تصورات عملية ، فاعتقد اننا علي المستوي المنظور والقريب جداً نحتاج الي مجلس عسكري انتقالي يرعي التحول المتوقع في السودان واعتقد بالمقارنة بينه وبين المجلس المدني الذي تشكل بعد ثورة اكتوبر ان المجلس العسكري اكثر حسماً وتماسكاً ، وعلي المستوي البعيد والتأسيسي للدولة السودانية في نسختها الجديدة ، اعتقد اننا يجب ان ندرس بعمق تجربة ثلاثة مجالس في الحياة السياسية السودانية ، المجلس التنفيذي( رئاسة الوزراء ) والمجلس التشريعي والمجلس العسكري واعتقد اننا بذلك ندخل الجيش في المعادلة السياسية السودانية ونتجنب الصراعات والدائرة الخبيثة . اخيراً نحن لا نريد ديمقراطية يرجع فيها الجيش الي ثكناته ويعبث فيها الساسة بالوطن من جديد ثم تعود الدائرة الخبيثة مرة اخري ديمقراطية ثم انقلاب ثم ديمقراطية ثم انقلاب او كما قال منصور خالد متلازمة التناوب المدني العسكري . علي عثمان علي سليمان [email protected]