بسم الله الرحمن الرحيم انتقل الى رحمة مولاه خلال الأسبوع الأول من هذا الشهر؛ الدكتور حسن عبدالله الترابي، رئيس حزب المؤتمر الشعب، بعد حياة امتلات وتدفقت بالاحداث والمواقف المتسارعة ارتفاعاً وانحداراً. منذ وفاته وحتى اللحظة؛ لا تفتأ الكتابات تنهمر كالسيول الجارفة؛ متناولة سيرة الرجل ومسيرته الحاشدة من كل جانب. كثرة وتعدد هذه الكتابات المتواصلة؛ جعلت عملية الكتابة بالنسبة لِي صعبة رغم أهمية الحدث، خشيةً؛ من الوقوع في تكرار مكرور. عموما بعد مطالعتي وقراءتي اغلب ما كتب خلال الأيام الماضية وفيه حرف (التاء) من ترابي؛ وجدت نفسي امام تساؤل غريب! من يكون حسن عبدالله الترابي؟ مما عزاني بدون تردّد ان يكون هذا التساؤل المستخلص موضوع كتابتي! لكي استطرد سأذهب؛ في اتجاه طرح استفهامات فرعية مع الاستدلال بأسماء مشهودة للتقريب في حلحلة التساؤلات. هل كان الترابي رجلا وطنيّاً؟ في مختصر احدى التعاريف لمفهوم الوطنية؛ وجدت ان الوطنية هي ارتباط او تعلق عاطفي ووجداني بالبلد، مصحوباً مع قلق واهتمام خاص بتحقيق الخير والرفاهية، بجانب الاستعداد التام لتقديم التضحيات لتعزيز مصالح البلد. انه من الضروري النظر إلى هذا الارتباط من خلال العلامات المميزة للبلد، وقد تشمل جوانب اثنية، ثقافية، سياسية، او تاريخية. اذا اعتبرنا مميزاتنا كامة سودانية تحديداً، آخذين في الاعتبار حدود السودان الجغرافية ( قبل الإنفصال )، وثقافاته المتنوعة، واثنياته التى ربط بينها التاريخ؛ هل يمكن ان نخلص بان الشروط اللازمة توفرت في شخص الترابي لنسكب الدموع الثخينة على رحيله كرجل وطني قومي (سودانى)؟ اذا احتكمنا الى ما عايشناه من تجارب الترابي فينا كسودانيين؛ نجد بدون كثير اجتهاد؛ غلبة الولاء للتيار ﺍﻻﺳﻼمي ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ (الأممي) عنده على الولاء للوطن (السوداني)، والقيم الإنسانية لمواطنيه. ومن شواهدنا على ذلك: مبادرته المبكرة على ﺗﺄﺳﻴﺲ ﺍﻟﻤﺆﺗﻤﺮ العربي ﺍﻟﺸﻌﺒﻲ ﺍﻻﺳﻼﻣﻲ في مستهل سنوات الإنقاذ الاولى (وهى الفترة التى كانت فيها كل البلاد تدين لكلمته). جاء بمؤتمر سيّء الصيت والغير ناضج الروءية؛ بسبب غالبية مشاركيه الذين كانوا يمثلون المعارضات اليمينية المتطرفة لحكومات بلادهم، ويكفيك ان تعلم ان أيمن الظواهري كان ضمن الحضور المشاركين. هذا الموتمر الفاشل في مهده؛ كان وبالا وشؤما على السودان وشعبه المسالم، حيث فتك بعلاقات السودان الخارجية خصوصا مع جيرانه، ولا يزال السودان يعاني الويلات والعثرات الاقتصادية بسبب تبعاته. هذا الموتمر كشف بوضوح؛ بأن البرنامج الاممي للإسلام السياسي غالب عند الترابي بامتياز على امر وطنه السودان؛ الذي يحوى اثنيات غير مسلمة وغير عربية. هل كان الدكتور حسن الترابى عالما دينياً ومفسراً لمعانى القران الكريم كمحمد متولى الشعراوي؟ تعكس بعض كتب الترابي ورسائله عن وجه المفكر المبدع، المتجاوز لعصره ومعاصريه؛ بعقله الثاقب، وأصالته الشرعية، وجرأته العقلية؛ وهذا الوَجْه يبدو أنه سوف يندثر اثره ولن يبقى منه شيء مع مرور الأيام؛ لان الترابي لم يفلح في إكمال تأسيس مدرسة فكريَّة ضاربة الجذور، يتوارث حمل مشاعلها الأجيال المتعاقبة؛ بالتحديث والتجديد عبر مقبل الازمنة. نجد رجحان كف السياسة بتفاصيله المتغيرة والمتناقضة في موازين الترابي؛ اضعف وافسد المحتوى الفكري عِنده، بدليل ان التطبيق العملى الذى اتحفنا به الدكتور فى الفترة من سنة 89 الى 99؛ كان غير مشرفاً ومحبطاً للامال تجاه اي فكر عقلاني، ولا يمكن ان يكون ممتاً الى التجديد بصلة، وكله واقع عايشناه وشهدناه بام اعيننا؛ (عرس الشهيد، تكبيرات الجبال، رائحة المسك وحفر القردة للالغام ... الخ من الْقَصَص) هل يقبل العقل بأن هذا تجديد وتحديث!؟ هل كان الترابى سياسياً ومناضلاً؛ صاحب مبادىء راسخة كنيلسون روليهلاهلا مانديلا؟ يحيا ويموت المناضل السياسي من اجل مبادىء وقيم راسخة لا تتغير او تتبدل مع الظروف. مبادىء قوامها الاساسية ارثاء قيم الحرية والعدالة والمساواة بين الناس. هل يا ترى وجد الناس اثرا لهذه المبادىء فى سيرة الترابي (النضالية)!. نعم، ناضل ضد دكتاتورين (عبود والنميري) بكل الوسائل المشروعة وغيرها، ولعب ادواراً مشهودة في إسقاطهما. لكنه سرعان ما أتانا بدكتاتورٍ جديد من صُنْع يديه (البشير)، ليكون أسوأ ديكتاتور عرفه السودان!. الترابي يسجن على يد دكتاتور ويخرج ليعمل مع نفس الدكتاتور بمبررات مختلفة، مخالفة لسنن النضال المعلومة. هل كان الدكتور حسن الترابى زعيم روحى كموهانداس كرمشاند غاندي(مهاتما غاندي)؟. نذر غاندي حياته لايجاد الصواب، وتعلم من أخطائه لهذا السبب عمل علي الوصول للصواب فاعلاً اختبارات علي نفسه من أجل ذلك. وأطلق علي سيرته الذاتية (قصة خبراته مع الحقيقة)، وأعلن غاندي أن المعركة الأهم هي هزيمة شياطينه، مخاوفه، وهواجسه. ولخص غاندي أول معتقداته في الله هو الحقيقة. وبعد ذلك تغيرت هذه العبارة وأصبحت (الحقيقة هي الله) بمعني أن الحقيقة في فلسفة غاندي هي الله وكان قد قام غاندي باستعمال العصيان المدني اللاعنفي.. اما الدكتور الترابى؛ فكيف يتأتى له أن يكون زعيما روحياً لوطن اسس لموت ابنائه في حروب دينية أدت في الاخر الى انفصال جزء حيوي منه وتشرد شبابه في كل أنحاء الارض بسبب الاقصاء وضيق العيش!؟ هل كان الترابى زعيما ثوريا كإرنستو "تشي" جيفارا؟ حسب ما ورد فى سيرة الترابي؛ ان نجمه، حقيقة؛ بزغ وسطع ابان ثورة اكتوبر1964؛ التى ابلى فيها بلاءً حسنا سجّل له اسمه في لوحات الشرف العليا. نعم، سقط عبود وتحقق له ما اراد؛ ومنحته اكتوبر درجات ثورية بلا شك، وزادت عليها درجات على درجات؛ اعتقاله المتكرر. لكن في حقيقة الأمر بيد كل ما ذكرناه؛ نجد ان الترابي لم يجاوز محطّة الطموح الذاتي الصرف لتحقيق الزعامة المميزة لنفسه ببناء ذاك المشروع الحضاري الخاسر، الذي كان يريد ان يصدره حول العالم مختوما بعلامة تجارية تحمل اسمه. فهل يمكن ان نقول مع هذا ان الترابي ثائر حقيقي اشتغل بهمة على تحرير أمته من براثن الجهل والفقر والظلم والفكر الرجعي المتخلف الى رحابات العدل والحريّة والمساواة والديمقراطية والسلام والفكر القويم!؟ الترابي ومحطات مهمة تتقاطع مع بصيرته المزعومة في المقدرة على قراءة الاحداث مسبقاً والتحسب لها. الترابى والاستاذ محمود:- ألفت النظر فقط الى القراءة المسبقة والشهيرة التى أطلقها الاستاذ محمود عن مستقبل الأحداث في السودان وسوء المآل عند حكم الاخوان المسلمين. الم يكن هذا يمثل انذار مبكر للترابى للتوقف ومراجعة اوراقه قبل مواصلة المشوار وهو من اكثر المعترفين بنبوغ الأستاذ محمود وقدراته العقلية المتقدمة وان اظهر غير ذلك؟ وقد طابق الحال تماماً كل ما تنبأ به الاستاذ. (نصيحة دينية التى لاتخلو من السياسة) الترابى ومحمد ابراهيم نقد:- القصة الشهيرة عندما ذهب الترابى الى السجن حبيساً فى اكبر عملية تضليل وكذب على الشعب السودانى. قال له نقد وهم فى سجن كوبر "كتر خيرك يا شيخ حسن جاملتنا كتير وما قصرت، امشى الحق اولادك قبل اجوطوا ليك الامور" الم تكن هذه نصيحة (سياسية لا تخلو من الدين) وهذا خصم كبير من رصيد الترابى الاسلامي عند الاستاذ نفد اليساري. الترابى والطيب صالح :- حينما سال الطيب صالح ذلك السؤال الذى يمكن ان تضعة فى خانة التهكم "انتوا عايزين تقودوا دولة اسلامية من دولة ما فيها لا كعبة ولا ازهر ولا المسجد الاقصى"، كان راي الطيب صالح واضح المعنى لمن أراد ان يتعظ، لكنه لم يجدى نفعاً مع صاحب دولة المشروع الحضاري. هذه الجزئية من مصادر ارق الترابي عموما؛ وقد صرح فى اكثر من موقع بان خلفيته كسوداني حدت من علو شانه دوليا وظهوره على مستوى يناسب أفكاره واجتهاداته .. الترابى والزبير محمد صالح:- فى اكثر من مناسبة خاصة جامعة؛ ذكر الزبير رايه بصراحة متناهيه فى الترابي حينَما يشير بعصاة الى اقرب كرسي منه؛ ويقول "زولكم ده همه الكرسى ده بس" كشف موفق لاوراق الترابي من عسكري بسيط بعيدا عن السياسة والدين. الترابى وابناءه المنشقّين:- لا يوجد من يستطيع في القوى السياسية الاخرى ولا حتى العسكر بمفردهم من ازاحة الترابي من الساحة لولا مقايضة تلاميذه وأبناءه له مقابل المال والسلطة عند البشير العسكري. وهنا انطبقت عليه المقوله (جاك السم القدر غداك). خذله تلاميذه في حياته وخذلوا أنفسهم بعد مماته؛ حينما التفتوا يمنا ويسرا ولم يجدوا بقايا فكر او حطام مشروع يمسكون بتلابيبه في غياب المرشد. أين ذهبت فطنة الترابي وذكاءه الوهاج وبصيرته المتقدة ليفشل في روءية قدوم ذلك من مسافات بعيدة؟. الموت حق علينا جميعاً، وقد رحل الترابي عن الدنيا الفانية، لكن ما زالت اغبرة تجربته عالقة في سمواتنا. لابد ان نتعظ من مر التجارب ولا ننجر خلف الاوهام والبيعات التالفة التى تسوق لنا رجل دين كقائد سياسي ينتهي بِنَا الى وضع اذا انتقدنا السياسة حياله كفرنا واذا انتقدنا الدين خرجنا من الملة.. الترابى مات فكريا حينما استغل الدين لتحقيق مراميه السياسية ومات وطنيا حينما كرس جهده لمشروعه الذاتي، ومات سياسيا حينما جعل مبادئه مطاطية، ميكافيلية لا يحكمها وازع غير الغاية تبرر الوسيلة، واخيرا قد مات عضويا ليضع الحد لمغامراته المضطربة.. كما ذكرت؛ حاولت اقحام اسماء تميزت فى مجالات مختلفة لتسهيل المقارنة بينهم وبين الترابى وليتضح للقارىء جليا المجالات التى حاولت البحث فيها عن شخصيته. اجد نفسى امام رجل هباه الله بقدرات هائلة في المقدرة على التلون والتاثير والتكبر والعناد...وهنا استشهد بقول الصحفي المصرى - احمد الدرينى "لماذا انخرط هذا الرجل في السياسة وأضاع على نفسه وعلى أمته فرصة الالتفات لمشروعه الديني ومنجزه الفكري؟ لماذا انجر لسفاسف الدنيا وقد كان في المقدور أن يتصدر اسم الرجل مراجع التاريخ بجوار ابن حزم وابن خلدون؟ لعله الإحباط القديم. إحباط الطفل حسن الترابي الذي لم يلق تقديرًا لائقًا بعقله الاستثنائي، ثم إحباط الشيخ والمفكر حسن الترابي الذي أهدره محيطه العربي، فكان أن استعاض عن كل هذا بمشاكسة الشأن السوداني الداخلي لتنحصر سنو الرجل بين السجون وأروقة الحكم وصفوف المعارضة في لعبة كراس موسيقية مؤسفة." مخرجات:- فكرة القائد الاوحد الذى يرى فى نفسه المنظر والمسيطر والمقرر تفشل للمره الالف.. يجب ان نضع قياداتنا فى الميزان قبل ان نضعهم في الاكفان.. يجب ان نتفق ونثبت قبل كل شيء على مبدا السودان اولا قبل كل الاعتبارات الدينية والعرقية، السودان موجود من قبل الدين وسوف يظل.. يجب ان نرى الانسانية والديموقراطية والاخلاق فى احزابنا قبل ان نسلمهم رقابنا.. يجب ان نثبت مبدأ لا فائدة مع دكتاتور مهما يكون وكل من يتعاون مع دكتاتور يجب ان يواجه نفس عقاب الدكتاتور ...... ختاماً، قد يرى البعض بانه كان يجب علينا الصمت أو ذكر محاسن الميت إن كان لابد من الكلام. ربما يكونون على صواب فى حال ان المتوفى شخص عادى من عامة الناس، اما نحن هنا امام شخصية عامة، شائكة جدا، وصاحبة تاثيرات غير محدودة على الوطن والمواطن السوداني، والأهم انه هو مؤلف ومنتج ومخرج السيناريو الذي يردح فيه السودان (بخيره وشروره) خلال الخمسة وعشرون سنة الاخيرة من عمر البلاد. المؤكد انه لا يجدر بنا أن نسب الرجل أو نشتمه بعد أن صار في ذمة خالقه، لكننا في المقابل لن نتوانى لحظة من تناول تجربته بالنقد والتمحيص المتتابع، لا لشيء غير اثره المذكور وبصمته الدامغة التي بصمها على جدران تاريخ السودان الحديث. الخلاصة التى خرجت بها من تساؤلاتي المتواضعة للتعرف على شخصية رجل بكل هذا الزخم ان .. الترابى (نظريا) احسن السياسيين السودانيين من بين علماء الدين ، وكان احسن عالم دين بين السياسيين الا أنه (تطبيقيا) افشل رجل دين وسياسة. فقط انظر الى واقع السودان اليوم ويكفيك جوابا وتعليلا.. بَعْض مؤلفات الترابي لفائدة من يريد الاطلاع :- - قضايا الوحدة والحرية - تجديد أصول الفقه - تجديد الفكر الإسلامي - الأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة - تجديد الدين- المصطلحات السياسية فى الاسلام منهجة التشريع – الدين والفن - المراة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع - السياسة والحكم – التفسير التوحيدى - عبرة المسير لاثني عشر السنين - الصلاة عماد الدين - الايمان واثره في الحياة - الحركة الإسلامية... التطور والنهج والكسب - التفسير التوحيد.. وليد معروف [email protected] http://waleedmarouf.weebly.com/