أراد أحد الإسلاميين أن يلخص رأيه فى الزعيم والمفكر السودانى حسن الترابى فقال عنه: «إنه من أفضل المفكرين الإسلاميين فى العالم، ومن أسوأ السياسيين فيه كذلك». ورغم ما فى هذا الوصف من مبالغة واضحة فإن الكلمة الافتتاحية الأنسب لفك شفرة حياة الرجل، ومن ثم فهم ومعرفة طبيعة وأبعاد هذه الشخصية التى ملأت الدنيا وشغلت الناس فى عالمنا الإسلامى، وربما العالم كله طوال عقد التسعينيات المنصرم. كذلك تفهم واستيعاب ما انتهت إليه تجربته والتجربة الإسلامية عموما فى السودان التى يصعب تصورها بشكل صحيح إلا من خلال إدراك العلاقة الجدلية والترابى المفكر (وليس السياسى) يعتبره الكثيرون المفكر الإسلامى الأول فى جيله الذى استطاع على المستوى النظرى بلورة رؤية فكرية متكاملة منفتحة على العالم. مقتربة من الواقع، قادرة على الاستجابة لتحديات العصر أيا كان تقييمنا لتفاصيلها على الرغم من أنه حينما حاول تطبيقها بنفسه جاءت أقل كثيرا مما توقع أشد خصومه! والترابى فى كتاباته أقل منه كثيرا فى محاضراته وخطبه، يصفه من سمعوه بمن فيهم خصومه بأنه ذو شخصية آسرة، متحدث بارع، يجيد الخطابة، فصيح اللسان، سريع العارضة، قوى الحجة، واسع الثقافة، لديه القدرة على أن يخلب أذهان مستمعيه، ومع ذلك فإن كتاباته تُعدُّ - مقارنة بالكتابات الإسلامية التى صدرت متزامنة على درجة من الأهمية بما تحمله من أفكار ونظريات تجديدية، حتى إن عبد الوهاب الأفندى فى كتابه «ثورة الترابى: الإسلام والقوة فى السودان» وهو يقرر أن الحركة الإسلامية لم تقدم فى فترة السبعينيات أى كتاب له قيمة.. يستثنى كتاب الترابى «الصلاة عماد الدين» الذى كان المحاولة الأولى وإن وصفها بأنها محاولة خجول لإنتاج عمل أيديولوجى ذى قيمة! وفى الوقت الذى كانت تسيطر فيه أفكار سيد قطب وتفسيراتها المتعددة على عموم الحركات الإسلامية خاصة فى المشرق العربى وتسوقها نحو العزلة الشعورية عن مجتمعاتها «الجاهلية»، كان الترابى يبشر بنظرية «التفاعل مع المجتمع»، ويصوغ خطابا إسلاميا مغايرا بل مفارقا للخطاب الإسلامى السائد وقتها، وهو الخطاب الذى دشنه بعدد من الكتب مثل: «الإيمان وأثره فى حياة الإنسان»، و«تجديد الفكر الإسلامى»، و«تجديد أصول الفقه»، و«قيم الدين ورسالية الفن»، و«نظرات فى الفقه السياسى».. وعدد من المحاضرات أهمها: «الحركة الإسلامية والتحديث»، و«قضايا فكرية وأصولية».. وكلها تحمل أفكارا وآراء تؤكد أن صاحبها يمتلك مشروعا فكريا تجديديا متكاملا، لم يأخذ حقه من القراءة والدراسة ليس بسبب طغيان الجانب السياسى على صاحبه ولم يكن هو الجانب الأفضل منه بالمناسبة والذى جعله سياسيا أكثر منه مفكرا، بل لأن هذا المشروع وهذا هو الأرجح يحمل آراء وأفكارا تتجاوز فى تجديدها السقف المسموح به فى الفكر الإسلامى المعاصر. ولولا أن الترابى تصادم مع كل الأنظمة العربية تقريبا لكان أول من تصدى له وواجهه الحركات الإسلامية التى كان معظمها ينظر إليه باعتباره خارجا عليها. ويُنظر إلى أفكاره باعتبارها خلايا سرطانية كان يجب استئصالها، ولكن لم يدفعها للسكوت عليه إلا صدامه مع تلك الأنظمة التى تخوض بدورها معارك طاحنة ضد هذه الحركات، وكان السكوت من باب ارتكاب أخف الضررين. الشروق