هل اللغة النوبية لغة أم لهجة ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال يجدر بنا أن نقف قليلاً عند كلمة " النوبة " لاستجلاء النطق والقراءة الصحيحة لهذه الكلمة. إن عدم تدوين هذه اللغة لمدة طويلة وإهمال توثيقها أدى الى تسيبها وبالتالي إلى تحريف وتصحيف كثير من الكلمات النوبية، حتى الكلمات النوبية القليلة التي كتبت باللغات الأخرى لم تخل من التصحيف والتحريف، وربما كان ذلك طبيعيا لأنها كتبت بنظام كتابي يختلف عن النظام اللغوي النوبي. وكل لغة إنما يؤخذ نظامها الكتابي من طبيعة تلك اللغة وتركيبها اللغوي. لذا كان عدم وجود نظام كتابي نوبي وبالتالى عدم تدوين اللغة من أخطر العوامل التى تسببت في ذوبان وتلاشى اللغة النوبية من جهة ونسيانها أو تحريفها من جهة أخرى. والغريب أن اسم " النوبة " الذي تطلقه كتب التاريخ وكثير من الباحثين على سكان أقصى شمالي السودان و لغتهم أصابها التحريف هو الآخر. فهذا الاسم لم يسمع من كبار القوم فيما أعلم واللغة إنما تؤخذ من أهلها وأفواه متكلميها ورواتها الفصحاء. والذي سمع منهم هو كلمة " نبين " إشارة إلى لغتهم. ويبدو أن هذا الاسم في حقيقته عبارة يمكن تفصيلها كالآتي: " نب/ ي/ نِ " . أما ( نب) فتعني الذهب في أشهر الأقوال - وربما انصرفت إلى معاني أخرى - ومن ثم صارت اسما علما للقوم. وأما (ي) فهو علامة الجمع في اللغة النوبية. وأما ( ن) فهو نون الإضافة. فيكون معنى تلكم العبارة أو ترجمتها (الذي للنبيين) وبالعامية السودانية (حق النبيين) والإشارة هنا للكلام. للإجابة عن السؤال المطروح أعلاه هل اللغة النوبية لغة أم لهجة؟ والذي يردده كثير من الناس، فإن التعريف الذي اصطلح عليه اللغويون وهو أن " حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" أو أن اللغة" هي الكلام المصطلح عليه بين كل قبيل" وفر علينا مشقة الخوض والإطالة في هذا الموضوع. ورغم ذلك فمن الواضح أن كل كلام موضوع بين فئة أو جماعة من الناس للتواصل والتفاهم هو لغة سواء أكتب ذلك الكلام أو كان محكيا غير مكتوب. أما التعريف المعجمي للغة فيقول أن أصل كلمة لغة من لغا يلغو لغوا إذا تكلم المرء، وهذا يعني أيضا أن الكتابة ليست جزءا في تعريف اللغة، فربما كانت اللغة مكتوبة أي لها نظام كتابي معروف وربما كانت اللغة متكلمة غير مكتوبة. أما اللهجة فإنها طريقة خاصة للكلام داخل لغة معينة، أو قل هي طريقة من طرق الأداء في ذات لغة. ومثال ذلك العامية السودانية أو العامية المصرية فهما طريقتان خاصتان للحديث ولكن في نطاق اللغة العربية. وهذه الخصوصية هي التي تعطي كل لهجة طابعها المميز عن اللهجات الأخرى, على ذلك فاللهجات بنات شرعيات للغة وهن حالة خاصة لتلك اللغة، من ناحية أخرى لربما استقلت إحدى اللهجات لتصبح لغة مستقلة لها نظامها اللغوي الخاص، كحال اللغة العربية مع أخواتها العبرية والحبشية في أسرة اللغات السامية. أما كلمة الرطانة (بفتح الراء) التي يطلقها السودانيون على اللغة النوبية أو غيرها من اللغات المحلية, فهي من رطنت الإبل إذا أرغت الى بعضها في مباركها ومن ثم استعيرت للخطاب الأعجمي أو غير العربي. وهذا يعني أن كل لغة غير العربية رطانة في الاصطلاح العربي. إلا أن الواقع في السودان يظهر انصراف هذه الكلمة تاريخيا الى اللغة النوبية بشكل خاص وربما التبداوية، والسبب في تصوري هو تاريخ وتراث البلد هذا الى جانب الحضور النوبي في الساحة العروبية السودانية، ولا يستبعد أن النوبي المعرب هو الذي اطلق هذا الاسم على لغة أجداده بعد انسلاخه منها وتنكره لها. في فترات لاحقة وعند ظهور ملامح المجتمع السوداني المتنوع بلغاته وثقافاته، اقترنت هذه التسمية باللغات المحلية الأخرى، ولما كانت هذه اللغات في مناطق ضعيفة اقتصاديا وثقافيا بعيدة عن المركز العروبي استحقت أن تكون " رطانة " استصغارا لشأنها وتأكيدا على عدم أهميتها، وربما إشارة الى ذلك المستوى الأقل ثقافيا واجتماعيا. وهكذا تطورت هذه الكلمة رطانة ورطّانة دلاليا في خطاب الخرطوميين يريدون تميزا واستعلاء على كل ناطق بغير العربية بدليل أنهم لا يصفون الإنجليزية أو الفرنسية بالرطانة، تماما كما لا يصفون الإنجليز والفرنجة بالرطّانة. والأغرب من ذلك أن الناطقين بالنوبية أنفسهم يطلقون على لغتهم رطانة فيسأل النوبي صاحبه ليتأكد من انتمائه؟ إنت بترطن ال هي إر ارتانغ بنجنا ؟ منيب ابراهيم سيد فقير 18/4/2016 [email protected]