الأحزاب ونخب الاستقلال: عجزت النخب الفكرية عن إيجاد مفهوم واحد يجمع شمل الكل السوداني، فمنذ الاستقلال والى الآن لا توجد فكرة واضحة داخل الأحزاب توحد كل السودانيين، وتحولت الأحزاب من سياسية تتنافس عبر برامج سياسية داخل رؤية كلية واحدة إلى أحزاب فكرية والكل يسعي إلى إقامة الدولة التي يراها من خلال فكره وليس الدولة التي تعبر عن المجتمع السوداني. فنجد ان نخب وأحزاب الاستقلال قد انقسمت بين الفكر العربي والفكر الغربي الماركسي، فنجد الأحزاب الداعية إلى الفكر العربي الإسلامي صراحة وهي تشمل أنصار السنة والإخوان المسلمين وكذلك الأحزاب التي احتوى برنامجها السياسي على الفكر الإسلامي مثل حزب الأمة (الصحوة الإسلامية) والحزب الاتحادي (الجمهورية الإسلامية)، وكذلك نجد أحزاب القوميين العرب مثل أحزاب البعث والناصريين وغيرهم بالإضافة إلى الحزب الشيوعي السوداني، فهذه هي الأحزاب المؤثرة والتي قادت العمل السياسي في السودان إلى الآن. وكل تلك الأحزاب لم تمثل لها الديمقراطية برنامج سياسي حقيقي، فهي أحزاب ايدولوجية لا تقبل الآخر حتى تمارس معه الديمقراطية، ولذلك استغلت كلها مفهوم الديمقراطية لتصل إلى السلطة من اجل إقامة الدولة التي في خيالها الفكري وليس إقامة دولة الإنسان السوداني. فما لا تدركه تلك الأحزاب ان الديمقراطية عبارة عن برنامج سياسي داخل كل فكرى واحد يجمع بين جميع الأحزاب السياسية، وعندما لا تصل إلى السلطة وفق الطرق الديمقراطية كانت تسعي كل تلك الأحزاب إلى الوصول عبر استغلال المؤسسة العسكرية باعتبارها اقصر الطرق تستطيع ان تفرض رؤيتها من خلالها على الجميع. انتفاضتي 64 و86: رغم ان المؤسسة العسكرية قد أتت بها تلك الأحزاب إلا انها كانت تفرض إرادتها وتخرجها من الواجهة وتستفرد بإدارة البلاد. فعندما سلمت الأحزاب السلطة للمؤسسة العسكرية في 58 أو عندما عملت بعض الأحزاب انقلاب على الديمقراطية في 69 في المرتين أبعدت القوات المسلحة الأحزاب التي أتت بها، ولم تجد تلك القوى مفر من العودة إلى الشارع حتى تتمكن من ممارسة الحياة السياسية وتعود الواجهة. ولعدم وجود رابط فكرى بين تلك الأحزاب أصبحت جميعها ميكيافلية لا ترى في الأفعال التي توصلها إلى السلطة جريمة حتى ولو كان عبر انقلاب عسكري أو طرد نواب منتخبين من قبل الشعب من البرلمان، ولعدم وجود مبادئ عند جميع تلك الأحزاب كانت تعود لتتوحد مرة أخرى مجتمعة من اجل إزاحة حكم العسكر في فعل انتهازي واضح. فلم تكن تلك الأحزاب في يوم من الأيام مبدئية في نضالها من اجل الديمقراطية فهي تدفع الآخرين ليناضلوا بالنيابة عنها من اجل ان تصل هي إلى السلطة فقط، ولم نسمع في فترتي الديمقراطية التي أتت في 65 و86 ان هنالك من اقتص للذين أزهقت أرواحهم من اجل عودة الديمقراطية، أو تم حظر الأحزاب التي انقلبت عليها، أو تم تعويض أهل من قرر بهم من اجل ان تعود تلك الأحزاب إلى السلطة وانتهاء عصر الطغاة. ساعد الطلاب والشارع تلك الأحزاب كثيرا من اجل استعادة الديمقراطية من المؤسسة العسكرية، وكان لوجود كاريزما شخصية في ذلك الوقت لقيادة تلك الأحزاب في أوساط الشارع بالإضافة إلى متاجرة تلك الأحزاب بمفهوم الديمقراطية باعتبارها الحل لكل مشاكل السودان الأثر في مساعدة الطلاب والشارع لتلك الأحزاب. فكانت انتفاضتي 64 و85 مساهمة من جانب المجتمع السوداني للنخب والأحزاب السياسية من اجل الوصول إلى حل لكل أزمات السودان التي كانت تزداد عمقا واتساعا وكثرة، ولكن كانت النخب والأحزاب السياسية في وأدى أخر بعيد عن الواقع والمجتمع فهي قد اكتفت بأفكار الآخر العربي والغربي، فالبرج العاجي الذي كانت توجد به نخب وأحزاب الاستقلال كان يمثل حاجز بينها وبين المجتمع السوداني الذي ظل يثق بها كثيرا دون فائدة. فمع تلك الأحزاب والنخب وطريقة تفكيرها ازدادت الأزمة السودانية ولم يجد الشارع ما كان يوعد به من حلم بديمقراطية سعيدة، فكل ديمقراطيات السودان كانت عبارة عن صراع بين أحزاب أيدلوجية لا تعمل سوى على إقصاء الأحزاب الأخرى من الساحة السياسية بكل الطرق الأخلاقية وغير الأخلاقية، وكثيرين يتذكرون ديمقراطية 86 تلك التمثيلية سيئة الإخراج التي سميت ديمقراطية، وكيف ان الأحزاب كانت تبحث عن مصالحها الشخصية وإلى الإيقاع ببعضها البعض، وتحول كل ذلك لينعكس على حياة المواطن العادي الذي واجه ضائقة معيشية سيئة وندرة في المواد الغذائية، واشتدت الحرب بدل ان تعمل الأحزاب على وقفها، وتحولت الديمقراطية إلى كارثة حقيقية، في ظل ذلك البرود الذي لازم النخب والأحزاب السياسية. الأحزاب السياسية والانتهازية: ان من يقول ان السياسية ميكيافلية ولا مبادئ لها هو إنسان بلا مبادئ، فلا يمكن ان تحقق الإنسانية من خلال دولة لا تمتلك مبادئ، فأحزاب الاستقلال ولأنها تتقاطع فكريا ولا يمكنها ان تتواجد داخل واقع واحد مجتمعة إلا من خلال تلك الميكيافلية سعت إلى ترديد تلك الجزئية، وللأسف قادها ذلك إلى ان تكون مجموعة من الأفراد يسعوا إلى مصالحهم فقط من خلال المتاجرة بالأفكار التي لم تصمد أمام المجتمع السوداني. ونتيجة لتلك الانتهازية لم تجد تلك الأحزاب من يدافع عنها عندما انقلب عليها الترابي، فقد استوعب الشارع ان مفاهيم الديمقراطية وغيره عبارة عن مفاهيم تقدمها له تلك النخب والأحزاب من اجل فائدتها الشخصية وليس من اجل الوطن وحل مشاكله وأزماته، ولم تدافع تلك الأحزاب عن الديمقراطية التي قدمها لها المجتمع السوداني على طبق من ذهب بل ذهبت تستجدي الشعب السوداني ليقود الحروب بالإنابة عنها. ولتلك الانتهازية وعدم السعي إلى استيعاب الواقع والمجتمع السوداني والاكتفاء بفكر لا علاقة له بتحولات الإنسان السوداني لكل ذلك ضاعت ثلاث ديمقراطيات والكثير من السنين ولازالت نخب الاستقلال تبحث عن إضاعة المزيد. [email protected]