نواصل ما انقطع من إضاءات حول مؤلف الدكتور كسلا " محطات في حياتي". توقفت معكم في الجزء الأول عند اعتذار الدكتور عن الانضمام للمنتخب الوطني بسبب ظروف الدراسة وعدم اقتناعه حينذاك باكتمال جاهزيته لمقارعة كبار نجوم المنتخب. روى كسلا في الكتاب قصة حضورة للخرطوم بغرض التسجيل للمريخ بعد أن أرسلوا لها تذكرة طيران، وكيف أنه تحول للهلال بعد شعوره بعدم جدية مسئولي نادي المريخ في تسجيله ربما بسبب خلافات بينهم حول الحاجة له وقتها.. وقد تم تحوله للهلال بعد دخل الصحفي المخضرم وصديقه القديم هساي خلسة لمكتب صحيفة المريخ التي كان يتردد عليها كسلا بعد حضوره للخرطوم بغرض اكمال عملية تسجيله للمريخ. وتخيل عزيزي القارئ أن كسلا بكل موهبته التي شاهدها بعضكم وسمع عنها البعض الآخر لم يتقاض سوى مائة جنيه كحافز تسجيل في الهلال، قال أنه تسلمها في استحياء مبالغ فيه وقد كان مبلغاً رمزياً، لكن المهم بالنسبة له أنه حق أمنية رياضية غالية. من المعلومات التي أدهشتني في الكتاب ولم أكن على علم بها أن كسلا قد أختير نجماً لمباراة الهلال أمام سانتوس البرازيلي، وهو تأكيد جديد على عبقرية هذا اللاعب. فأن يحظى لاعب سوداني ناشيء وقتها بنجومية مباراة ضمت ملك الكرة بيليه وزملاءه السحرة البرازيليين الآخرين في ذلك الوقت ليس بالأمر الهين. روى كسلا في كتابه حادثة يهمني تسليط الضوء عليها لما تنطوي عليه من درس للاعبي اليوم، حيث يقول أنه خلال مباراة إعدادية للمنتخب الوطني أمام أحد أندية الدرجة الثالثة لاختيار التشكيلة المرشحة للسفر لأداء مباراة خارجية " أتبادل الكرة مع بشارة و ( المعلم ) بشرى وهبة.. أنفرد بحارس المرمى، أموه بجسمي فيطير الحارس في الاتجاه المعاكس بينما الكرة لا تزال بين قدمى.. أنفجر أنا ضاحكاً، أقهقه عالياً.. الجميع صامتون.. أترك الكرة فتتدحرج إلى خارج الملعب!! صافرة طويلة.. المسؤول الأول عن الفريق القومي العقيد – آنذاك- المرحوم عبد الفتاح حمد يتقدم نحوي مسرعاً.. أوضح لي في هدوء وباختصار شديد أنني لن أصلح كلاعب كرة ما دُمت أتحلى بهذا القدر من الاهمال وعدم تقدير المسئولية! وبعد أن ذكرني بأنني أرتدي شعار الفريق القومي السوداني طلب مني، وبحزم الخروج من الملعب ! !" بالطبع استفاد كسلا من ذلك الدرس والسلوك التربوي في مقبل أيامه وعرف كيف يكون جاداً عند ممارسته للكرة، وهو ما أكده نجمنا بقوله " هكذا كان الدرس الأول ، الذي تعلمت منه أن الغرور يمكن أن يقود الرياضي إلى نهاية مبكرة وآمل أن يكون في ذلك تذكرة وعظة وعبرة للناشئين." درس آخر وجب علىّ تسليط الضوء عليه في مسيرة كسلا، كان بطله نجم المريخ والمنتخب السابق بشارة الذي أُشتهر بفنياته العالية وحرارة القلب والغيرة الشديدة على الشعار. يقول كسلا " اشتركت في أول مباراة وأنا أرتدي زي الفريق القومي السوداني بمدينة بنغازي.. وفزنا6/4 وتأهل بذلك فريقنا إلى المباراة النهائية.. لن أنسى أبداً الدرس الذي تلقيته في تلك المباراة.. لم يكن في كيفية اللعب أو عن قوانين اللعبة.. كان درساً في الوطنية.. بضع كلمات لا زال صداها يتردد على مسامعي حتى يومنا هذا.. فقد أصبت في منتصف الشوط الثاني اثر احتكاك بلاعب من المنتخب الليبي الشقيق وسقطت أرضاً أعاني بشدة من آلام الصدر وعدم القدرة على التنفس وكما تجري العادة في مثل هذه المواقف، تجمع حولي بقية أعضاء الفريق ليطمئنوا على حالتي.. وفجأة اندفع نحوي زميلي ( بشارة ) شاقاً الجميع ثم جذبني وبشدة من قميصي صائحاً: أنظر.. لا يوجد هنا مجال للدلع هذا ليس بشعار لنادِ انه شعار الفريق القومي السوداني.. قف وواصل اللعب كالرجال.. نحن في معركة باسم السودان وإذا مت فتأكد من أننا سنلف جسدك بعلم السودان ونرسله للوطن ولكن بشرط استشهادك هنا على أرض الملعب." كانت نتيجة تلك الكلمات أن تحامل كسلا على آلامه وواصل المباراة حتى نهايتها. وقد لا تصدق عزيزي القارئ أثر كلمات بشارة ( الرجل) بحق علىّ في هذه اللحظة وأنا أسطر هذه العبارات.. ولك أن تقارن حال أولئك الأبطال ببعض لاعبي اليوم الذين يجرجرون أذيال الهزائم المجلجلة وهم يتسامرون ويضحكون وكأن شيئاً لم يكن.. لعن الله عصر الاحتراف إن كان يعني إضعاف الحس الوطني. متعك الله يا كابتن بشارة بالصحة والعافية وأنت في مهجرك تكابد من أجل لقمة العيش بعد أن صلت وجلت في الملاعب السودانية نجماً موهوباً وبطلاً ووطنياً غيوراً. المؤسف أن مثل هؤلاء النجوم وبعد كل ما اكتسبوه من تجارب لا تحرص أنديتهم على الاستفادة منهم، لأننا نعيش زمناً غريباً في كل شيء.. زمناً حل فيه الأغراب مكان أهل ( الساس والراس) ودانت فيه السيطرة للمادة، وليتنا حققنا شيئاً بعد كل الصرف البذخي الذي نسمع عنه. عن تفكيرة الجاد في مواصلة مسيرته التعليمية رغم النجومية الهائلة التي حظي بها يقول كسلا في كتابه " أصبح هاجس المستقبل يؤرقني إذا أحسست بأني كنت ألقي بتبعات مسئولياتي تجاه نفسي على الآخرين.. ثم أنني لم أكن أحس بأنني أبني مستقبلاً فعلياً.. فراغ هائل.. تمارين، معسكرات، مباريات.. فنادق فخمة.. أكل وشرب وتسوق، طائرات ونزهة وسياحة.. حياة سهلة لا تزيد عن كونها ضحك ولعب وسفر!! هل يمكن لمث هذا النوع من الحياة أن يبني مستقبلاً!.. إنني هنا أؤكد أن هذا القلق يساور الكثيرين، وحتى من نجوم هذا الزمان وكل زمان ما لم تتغير علاقتنا بالكرة، ومفهوم ممارتها عندنا.. فالمستقبل يظل هو الهاجس الأول. لأنه مجهول ولا أحد يدري ماذا تخبيء الأقدار. حالة التفكير أعلاه هي ما دفعت كسلا للسفر إلى روسيا لدراسة الطب، وليس تحريض المريخاب أو محاولاته لابتزاز الهلال كما يُشاع هنا وهناك. ويبدو أن الوسط الرياضي لم يخل في يوم من المؤامرات، حيث واجه كسلا بعض الصعوبات عندما قرر المغادرة لمواصلة دراسته، لكنه وجد من بعض العقلاء مثل القطب الهلالي محمد التوم التيجاني و عبد الفتاح حمد مدير مصلحة الرياضة وقتها دعماً حقيقاً مكنه من تحقيق رغبته الملحة. من التفاصيل الجديدة عليّ تماماً علاقة دكتور كسلا مساعد المدرب بالنجم المهول الأريتري يوهانس الذي رحل إلى الدار الآخرة بعد فترة قصيرة قضاها بكشوفات الهلال. رغم أنني شاهدت يوهانس في جميع التدريبات والمباريات الودية التي خاضها مع الهلال وأذهلتني موهبته الاستثنائية وأسلوبه السهل الممتنع في لعب الكرة وتسجيل الأهداف، إلا أنني لم ألم بكل التفاصيل التي ذكرها كسلا حول مرض اللاعب ثم وفاته المفاجئة. يقول كسلا أن أولى ملاحظاته حول يوهانس هو أنه كان يسجل الأهداف بطريقة غير عادية.. و" عندما أقول غير عادية فإنني أنطلق من قاعدة صلبة في فهم صناعة الأهداف وتسجيلها نظرياً وعملياً، ولدي نظريتي الخاصة عن تسجيل الأهدف وهي معروفة على نطاق كبير وتدريس في بعض الأكاديميات تحت مُسمى ( نظرية المجموعات السبع). وعن مرض يوهانس يقول دكتور كسلا " في مباراة الهلال أمام الخرطوم (3) وبعد أقل من خمس دقائق من بدايتها رأينا يوهانس يعود مسرعاً نحو دكة الاحتياطيين والجهاز الفني للهلال وهو في حالة من الذعر الشديد.. أجلسه المدرب أنور جسام على الأرض أمامه وربت على كتفه وطلب منه أن يهدأ.. ثم طلب من الدكتور صلاح بقادي طبيب الفريق آنذاك أن يصطحبه إلى غرفة اللاعبين والكشف عليه لمعرفة ما حدث." لكن لم يتضح أنه مصاب بأي مرض محدد وبعدها أصبح هادئاً كثير الصمت وغير راغب في القيام بأي نشاط وميال إلى العزلة عن الناس. وأضاف كسلا أن سكرتير النادي آنذاك المرحوم عبد المجيد منصور اقترح استضافة يوهانس بمنزله لعل ذلك يعوضه عن الجو الأسري الذي ربما افتقده بحضوره للسودان، لكن حال اللاعب لم يتغير، مما دفع المجلس إلى اتخاذ قرار بمنحه اجازة قصيرة يمضيها مع ذوية بأريتريا، وبالفعل سافر يوهانس إلى هناك وقد كلف المجلس كسلا بعد ذلك بمتابعة ملفه (الغامض). ويستطرد مؤلف الكتاب قائلاً " بعد سفره بعدة أسابيع غادرت أنا إلى أسمرا بغرض الوقوف على حالته." وهناك وصل كسلا بعد معاناة إلى منزل شقيقة يوهانس التي كان يقيم معها وما أن فتحت له الباب وعرفها بنفسه بدأت تذرف الدموع وهو تقول " تعال.. ورائي سأقودك إلى حيث يرقد يوهانس.. انك لن تعرفه.. ليس هو ذلك الرياضي الوسيم الرشيق الأنيق.. لقد استحال إلى شبح واهن لا يقوى على الوقوف على قدميه.. ومنذ حضر من السودان وهو في هذه الحالة.. لا يتحدث مع الناس.. ولا يبارح سريره.. لا يأكل ولا يشرب ولا ينظف نفسه.. وأنا أقوم بمساعدته في كل هذه الأشياء..!!" ويضيف كسلا " ألقيت عليه التحية ولم أتلق رداً أياً كان شكله.. مع أنني كنت من القلائل الذين يحبذ الحديث إليهم.." بعد ذلك طلبت منه شقيقة يوهانس أن يصطحبه معه إلى السودان لأن علاجه لن يتوفر في موطنه، فهو ليس في حاجة إلى طبيب حسب قولها، بل يحتاج لعلاج من نوع آخر متوفر في السودان. وحين سألها كسلا عما يدفعها لقول ذلك، قالت " حسناً.. تعال وأنظر إلى ما تحت هذا السرير.. ماذا ترى؟ وكان رد كسلا : " أرى وسائد حمراء اللون." ولماذا تظن أنها هنا؟ أجابها كسلا " لا أعرف". قالت " لأن يوهانس لا يطيق رؤية أي من اللونين الأحمر والأصفر.. أما إ ذا كانا معاً فذلك يصيبه بحالة من الهياج لا أستطيع وقتها أنا ومعي الجيران أن نتغلب عليه فيها.." يقول كسلا " صمت لفترة.. تجاهلت ما جال بخاطري وقتها من أن حالة الذعر التي انتابت يوهانس في مباراة الخرطوم (3) والتي دفعته للخروج من الملعب ربما كانت بسبب رؤيته للون الأحمر في شعار الخصم!" بعدها اصطحب كسلا اللاعب يوهانس للخرطوم وأثناء فترة عرضه على عدد من الأطباء النفسيين زاره كسلا في مسكنه ذات يوم وبينما كانا على انفراد سأله عن سر أهدافه الغريبة فكانت إجابة يوهانس كما يلي: " سأقول لك الحقيقة.. عندي جنية تساعدني.. أنا جاد فيما أقوله.. صدقني إنني لا أمزح.. إنني لا أراها ولكني أحس بوجودها.. وقد لاحظت أنه في كثير من الأحيان كنت أنوى التمرير إلى زميل ثم أجد الكرة تجد طريقها إلى مرمى الخصم.. لكنني بصراحة لست في حالة وفاق مع جنيتي في هذه الأيام انها غاضبة وأنا لا أعرف السبب!!!" لم تكن لدى كسلا الرغبة في مواصلة ذلك الحديث لأنه لا يتناسب مع أسلوب فهمه وإدراكه للأمور، حسبما ذكر في الكتاب، لكنه نقل الحوار الذي دار بينهما إلى البعض من (علية القوم) الذين يرى أنهم ربما كانوا مثله تماماً، حتى يومنا هذا (بين مصدقين ومكذبين).. بعد ذلك غادر كسلا السودان للعمل بدولة الإمارات ليطالع في الصحف بعد عدة أشهر نبأ رحيل يوهانس عن دنيانا بينما كان يتلقى جلسة من العلاج الطبي غير التقليدي بمنطقة ما بشرق السودان، وهو ما كانت تقصده شقيقة يوهانس حسبما ذكر كسلا. ويختتم كسلا بنصيحة للناشئين يقول فيها" الرياضي وهو شاب يتعرض في مجتمعاتنا لشتى الإغراءات والتي من شأنها الانحراف به عن الطريق السوي إلى هاوية سحيقة تصعب بعدها العودة.. فهو محاط أبداً بمن هم على استعداد لغمرة بالسعادة رداً لجمائله عليهم وإسعادهم بما يقدمه لهم من رائع في الملعب.. هم هكذا يقولون وهذا كما ترى تبرير ساذج لا تتقبله النفس ولا يرتاح له العقل.. وربما تكون هذه هي حقيقة فهمهم للأمور ولكن الواقع يقول أنهم يعرضون الرياضي لأخطار كبيرة ، دينية وصحية واجتماعية." لازمة الرياضة نشاط لتحفيز البدن والعقل وليس لتغييب الأخير وتخدير صاحبه. [email protected]